ما سبب تقرّب مدريد من المغرب؟

نشر في 20-05-2022
آخر تحديث 20-05-2022 | 00:00
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز - ملك المغرب محمد السادس
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز - ملك المغرب محمد السادس
تهدف السياسة الخارجية الإسبانية إلى جعل البلد قوة متوسطة بارزة عبر زيادة تأثيره في أميركا اللاتينية وأوروبا وحوض البحر المتوسطـ، لكن يبقى وضع مدريد هشاً في شمال إفريقيا.

تدهور الوضع للمرة الأولى بعدما اعترف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في ديسمبر 2020، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المحتلة، وهي مستعمرة إسبانية سابقة، فقد رفضت إسبانيا القيام بالمثل وواجهت استياءً شديداً من النظام الملكي المغربي طوال أشهر بعدما سمحت السلطات لإبراهيم غالي، زعيم «جبهة البوليساريو« التي تقاوم السيطرة المغربية على تلك المنطقة، بدخول مستشفى إسباني لمعالجته من فيروس «كوفيد19»، وردّت الرباط باستدعاء سفيرها.

ثم تعددت الخلافات اللاحقة طوال 15 شهراً، فعمد المغرب إلى استعمال آلاف الناس، منهم مئات المواطنين القاصرين، كذخائر دبلوماسية، وأوقفت المملكة المغربية الدوريات الحدودية مراراً، وسمحت لعشرات المراكب التي تحمل المهاجرين ببلوغ جزر الكناري الإسبانية ولآلاف الناس بقطع المعابر المسيّجة نحو مدينتَي سبتة ومليلية الإسبانيتَين في البر الرئيسي لإفريقيا.

في مايو ويونيو 2021، حين بلغت تلك المواجهة ذروتها، تعرّض هاتف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز للقرصنة مرتَين من جانب برنامج «بيغاسوس» الإسرائيلي.

وبما أن عميلاً وحيداً في «بيغاسوس» استهدف أكثر من مئتَي هاتف إسباني، تشير جميع الأدلة إلى تورط المغرب، لكن منذ انتشار هذه الفضيحة في وقتٍ سابق من هذا الشهر، نفت الحكومة الإسبانية مسؤولية المغرب وأقالت رئيس المخابرات في مدريد، إذ إن إسبانيا كانت مطّلعة على هذه الاعتداءات منذ البداية، لكنها أطلقت جهوداً مكثّفة للمصالحة مع المغرب بعد الترحيب بزعيم «جبهة البوليساريو«.

في شهر يوليو الماضي، استغل سانشيز تعديلاً وزارياً لطرد غونزاليس لايا الذي تهاجمه الصحافة المغربية طوال الوقت، وعُيّن مكانه الدبلوماسي الموالي للمغرب والسفير السابق في باريس، خوسيه مانويل ألباريس، وبعد مرور أسابيع، شدد الملك الإسباني فيليب السادس على «الصداقة المشتركة والعميقة» بين البلدين في بيان خطّي، تزامناً مع الذكرى الثانية والعشرين لوصول الملك المغربي محمد السادس إلى العرش، وعندما قررت الجزائر وقف شحنات الغاز إلى جارتها في الخريف الماضي، تدخلت إسبانيا لتأمين إمدادات الطاقة للمغرب، ومع ذلك، لم تكن أيٌّ من هذه المبادرات مُرضِية للرباط.

أخيراً، تنازل سانشيز في أكثر المسائل الشائكة خوفاً من العواقب المترتبة عن امتناع المغرب عن كبح الهجرة، والاختناق الاقتصادي الناجم عن إقفال الحدود المغربية مع سبتة ومليلية، وفي رسالة موجّهة إلى الملك محمد السادس في 14 مارس، اعتبر سانشيز الاقتراح الذي طرحه المغرب في عام 2007 حول منح حُكم ذاتي للصحراء الغربية تحت سيطرة الرباط «الركيزة الأكثر جدّية ومصداقية وواقعية» لحل النزاع. وبعد مرور أربعة أيام، سرّب القصر المغربي الرسالة الدبلوماسية للصحافة.

هذا التقرّب المستجد من المغرب يبطل نصف قرنٍ من الحياد الإسباني الرسمي في الصراع القائم بين المغرب و«جبهة بوليساريو«، حتى أن المواقف الجديدة تُقرّب مدريد من الرباط أكثر من برلين أو باريس: اعتبرت ألمانيا وفرنسا خطة الحُكم الذاتي في المنطقة المتنازع عليها مجرّد «مساهمة» في هذا الملف لكنهما امتنعتا عن دعمها، وعاد السفير المغربي إلى مقرّه في مدريد بعد مرور عشرة أشهر من الغياب، لكن لا تخلو هذه التطورات من التكاليف.

هذا التحوّل في المواقف أثار استياء الجزائر في أصعب الظروف على الإطلاق، علماً أنها ثالث أكبر دولة تزوّد الاتحاد الأوروبي بالغاز، لكنها عدوة المغرب ومن أشرس حلفاء «جبهة بوليساريو«، وأوقفت روسيا إرسال الغاز إلى بولندا وبلغاريا، وأصبح موقف الجزائر اليوم أهم من أي وقت مضى، واستدعى البلد سفيره في مدريد سريعاً بعد تغيّر المواقف الرسمية.

من المنتظر أن تنفتح المعابر الحدودية بين المغرب ومدينتَي سبتة ومليلية في شمال إفريقيا في الأسبوع المقبل، لكن من دون أي رقابة جمركية كما وعدت إسبانيا سابقاً، وفي غضون ذلك، يزداد المغرب عدائية، حيث ذكرت منظمة العفو الدولية أن «السلطات المغربية كثّفت مضايقاتها للناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان في آخر شهرَين»، وفي شهر أبريل الماضي، استنكرت الجزائر إقدام المغرب على قصف قافلة من الشاحنات على الحدود بين موريتانيا والصحراء الغربية.

بعد تغيّر الموقف الأميركي من الصحراء الغربية، أصبحت «جبهة بوليساريو« معزولة أكثر من أي وقت مضى، وحصلت سابقة خطيرة حين اعتُبِرت هذه الجبهة حركة تمرد انفصالية، بدل وضعها في خانة الحركات المناهضة للاحتلال، لكن لا تمنع أي أسباب استراتيجية جو بايدن من التراجع عن موقف ترامب منذ بداية عهده.

في ما يخص آفاق العلاقات بين المغرب وإسبانيا، يشير إدوارد سولير، باحث مرموق في مركز برشلونة للشؤون الدولية، إلى الطرق السرية التي تستعملها وزارة الخارجية وإقدام المغرب على تسريب رسالة سانشيز، فيتساءل: «إلى أي حد قد تنشأ ركيزة صلبة للعلاقات الثنائية بعد إنهاء الأزمة الدبلوماسية بهذا الشكل»؟

يحمل دبلوماسي إسباني سابق ومتخصص بشؤون المنطقة (رفض الإفصاح عن هويته) هواجس مشابهة لمخاوف سولير بشأن مستقبل العلاقات الثنائية، لا سيما عند استعمال المهاجرين كسلاح بحد ذاته، علماً أن إسبانيا تعتبر هذه الخطوة شكلاً من «الابتزاز».

يقول الدبلوماسي نفسه: «يستعمل النظام الملكي المغربي وسائل معروفة، اليوم ومستقبلاً»، فقد عبّر خبراء مختلفون عن قلقهم من استعمال الهجرة كسلاح بحد ذاته من جانب المغرب لتحويل هذا الملف إلى نقطة ضعف لإسبانيا، وفي الوقت نفسه، رحّبت إسبانيا بـ134 ألف أوكراني خلال أول شهرَين بعد بدء الحرب الروسية هناك، ما يثبت أن التعامل مع المهاجرين بطريقة إنسانية ممكن، وفق مصادر منظمة «هيومن رايتس ووتش»، لكن يبدو أن هذا المبدأ لا ينطبق على منطقة البحر الأبيض المتوسط حيث يستمر الجمود وتتواصل التدابير الأمنية على الحدود، وفي عام 2019، قبل احتدام الأزمة بين المغرب وإسبانيا، ادّعت الرباط أنها أوقفت 70 ألف محاولة هجرة غير شرعية في تلك السنة.

أخيراً، يتزامن تقرّب إسبانيا من المغرب مع زيادة التعقيدات في الجهود الدبلوماسية التي تبذلها المملكة المغربية، وفي ما يخص أوكرانيا، يؤكد امتناع المغرب عن التصويت على قرارَين مرتبطَين بالغزو الروسي في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة على توافق الرباط مع موسكو، وهذا ما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى استدعاء سفيره في الرباط بعدما انفجر وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، من الضحك حين سأله أحد الصحافيين عن موقف المغرب من الحرب.

من خلال دعم خطة الحُكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية والتقرب من الرباط التي تربطها علاقات ودّية مع روسيا، يبدو الادعاء الإسباني المرتبط بدعم نظام دولي مبني على قواعد محددة فارغاً، ويصعب أن نتوقع من إسبانيا أن تعتبر الحُكم الذاتي داخل روسيا «الركيزة الأكثر جدّية ومصداقية وواقعية» لحل الصراع في إقليم «دونباس» الأوكراني، فلماذا يتساءل المواطنون الإسبان إذاً عن احتمال القيام بالمثل في الصحراء الغربية؟

لا تحظى هذه الخطوة بأي شعبية أصلاً، إذ يدعم 70% من الإسبان استقلال الصحراء ويتبنى أكثر من 80% من ناخبي سانشيز هذا الموقف أيضاً، كما وقف مئات الأشخاص أمام مقر وزارة الخارجية الإسبانية احتجاجاً على تغيّر موقف بلدهم الرسمي.

في النهاية، أثبتت إسبانيا للنظام الملكي المغربي أن الدبلوماسية الغاضبة تعطي ثمارها، وتبنّى الاتحاد الأوروبي طوال سنوات سياسة خارجية محورها التجارة، شرقاً وغرباً، ومن اللافت أن تبدأ السياسة الألمانية المبنية على «التغيير عن طريق التجارة» بالانهيار في روسيا تزامناً مع التركيز على المصالح الإسبانية في المغرب، وتعني هذه المقاربة المستجدة أن المصالح المشتركة قد تحمي العلاقات المغربية الإسبانية عند ظهور أي شرخ بين الطرفَين، لكنها تثبت في الوقت نفسه أنها مقاربة غير مجدية، حتى لو كانت إسبانيا أكبر شريكة تجارية للمغرب.

لتجاوز هذا المأزق، يقترح الدبلوماسي الإسباني السابق حلاً محتملاً، فيقول: «نجح المغربيون في تشخيص نقاط ضعفنا بأفضل الطرق وهم مصمّمون على الاستفادة من الوضع لأقصى درجة، لكن فشل حكّامنا في تحديد أوراق الضغط التي نملكها بطريقة مريعة».

تتراوح هذه الأوراق بين التجارة، وحقوق الإنسان، والمساعدات التنموية، وإمدادات الغاز التي تصل إلى المغرب عبر خط الأنابيب الممتد بين المغرب العربي وأوروبا، وعملية السلام مع جبهة «بوليساريو«، واتكال المغرب الاقتصادي على سبتة ومليلية، والوساطة الإسبانية لصالح المغرب في منتديات الاتحاد الأوروبي، فنظرياً، يمكن استعمال جميع المصالح المشتركة كورقة ضغط دبلوماسية ضد الرباط، لكن لا تستخدم حكومة سانشيز أياً من هذه الأدوات.

في نهاية المطاف، من واجب الحكومة الإسبانية أن تعالج الفوضى التي سبّبتها بسبب سياسة البلد في ملف الصحراء الغربية، ولحل المشكلة، تقضي الطريقة الوحيدة بوضع خطة واضحة للتعامل مع المغرب حين يلجأ إلى الدبلوماسية الغاضبة مجدداً.

* ماركوس بارتولومي

Foreign Policy

back to top