قراءة في «ذكريات»... محمد أبو الحسن

نشر في 22-02-2022
آخر تحديث 22-02-2022 | 00:10
 خليل علي حيدر مضى أكثر من ثلاثين عاما على تلك الأيام الكالحة القلقة التي يصفها مندوب الكويت في الأمم المتحدة الدبلوماسي "محمد أبو الحسن" في كتابه عن عدوان 1990 والأشهر اللاحقة، ورغم ذلك، تبدو تلك الأيام والأشهر لمن عايشها كأنها مرت قبل أعوام قليلة لا ثلث قرن!

ولهذا فإن كتاب "أبوالحسن" يبدو، رغم الفارق الزمني، سجلاً دقيقاً مؤلماً لمن عايش ذلك الحدث كالكثيرين منا بأيامه الثقيلة غير القابلة للوصف، حيث كان مصير البلاد يتراوح جيئة وذهابا كبندول الساعة، مع كل تطور وتصريح، كانت الجيوش والاستعدادات العسكرية تتكدس وتتزاحم، في حين كان صبر الجميع يشرف على النفاد يوما بعد يوم، وبخاصة مع اقتراب "يوم الضربة" 17 يناير 1991.

كتاب أبو الحسن "حقائق وخفايا: ذكرياتي" في صفحاته التي تقارب الـ500، محاولة لرصد وتوثيق ذلك الحدث الجلل بلغة دبلوماسية، وعرض الوثائق التي شكلت مسار تلك الكارثة التي هزت العالم، وغيرت العالم العربي خاصة إلى الأبد.

يستشهد "أبو الحسن" بما نقل عن قائد قوات التحالف الجنرال "شوارزسكوف"، عندما أجاب الجنرال عن سؤال بعد تحرير الكويت: لماذا استهدف في عملياته العسكرية "بغداد" أولاً وبتركيز شديد، ولم يستهدف القوات العراقية المحتلة في الكويت وهي الهدف أصلاً؟ وكان جوابه عن السؤال: "بأنه فكر في كيفية بدء الهجوم ودرس الحالة بدقة، فوجد فيها أن الكويت كانت كورقة ثمينة جداً قبض عليها صدام حسين في كفه وحماها بأصابعه وبشدة وبإحكام، فإذا استهدفت العمليات العسكرية أصابع يد صدام حسين مباشرة فإن الورقة، وهي الكويت، قد تسقط من يده بكل تأكيد لكنها سوف تكون ممزقة، وهو لا يريد ذلك، إنما يريد أن تسقط الورقة بخدش بسيط على الأكثر، لذلك لجأ إلى ضرب رأس صدام حسين المتمثل في مدينة بغداد، وهي العاصمة والأهداف العسكرية والبنى التحتية للاتصالات والتحكم في المجال الجوي وتدمير الجسور وكل شيء يوصل الإمدادات العسكرية والفنية للكويت، وبالتالي فسيفتح يده تلقائيا ولا تتأثر الكويت، لذلك تحقق له ما يريد ونجت الكويت ولم تصب إلا بأضرار لا تقارن أبداً بما ستكون عليه الحال لو استهدف أصابع يد صدام حسين القابضة على الكويت". (ص214-215).

وهذا الجواب خير رد على أصحاب نظرية المؤامرة، ومن كان يروج في الإعلام ولا يزال اتهاما لمخطط أميركي جشع، لإنزال الدمار بالكويت مباني ومنشآت ومصانع وجسورا واستنزاف ثروة البلاد ومنحها للشركات الأميركية.

وكان بيد القيادة العسكرية الأميركية البحرية والبرية والجوية أن ترسم خطة مختلفة تماما لتحرير الكويت تحقق للولايات المتحدة المليارات، بل تغرق الكويت في ديون ممتدة لا تنتهي وتستنزف أموالها وحتى احتياطاتها النفطية.

هل كان يمكن تحرير الكويت بتلك السرعة والدقة والسلامة من الدمار لولا الحرص الأميركي وحسن التخطيط؟ وهل كنا نحظى بذلك الإجماع الدولي الأسطوري عام 1990 على تحرير الكويت لو كان الاحتلال والعدوان قد وقع في وقت آخر؟ لا أحد يدري، إذ بدت الدنيا في صيف عام 1990 وكأنها خلت من قضايا العدوان الكبرى وأن مجلس الأمن وجيوش أميركا وأوروبا والعالم العربي لا هم لها سوى نصرة الكويت وطرد الغزاة.

أغلبنا شارك أبا الحسن مخاوفه من أن يقع خلاف دولي بين الكبار وتتفرق الكلمة وتبرد الهمم ويتشتت الاهتمام وتتحول المسألة من عدوان يثير غضب العالم ويوحد كلمته إلى "قضية احتلال" أخرى واصطدام حدود بين الدول العربية، وخذ يا لقاءات ويا اجتماعات إلى أشهر وسنين!

لحسن الحظ، كما قلنا مراراً في مقالاتنا، كان صدام حسين "قبضايا" عدوانيا، صعد إلى سدة الرئاسة والحكم بمسدسه وعنفه وتصفياته، ولم يكن رجل دولة أو سياسيا محنكا أو حتى عسكريا خبيراً، وكنت كالكثيرين في خوف شيد من تفتت قضية العدوان على الكويت إلى قضايا سياسية جانبية بخاصة عندما اجتمع وزير الخارجية الأميركي والعراقي في جنيف، فلو كان صدام مناورا محنكا لأعلن مثلاً كمناورة انسحابه من كل الكويت مقابل جزيرة بوبيان أو مقابل حقوق وامتيازات وتعويضات مالية وكلمة عليا في شؤون الكويت كما لسورية على لبنان، وكما كان يقترح البعض ومخرجا للأزمة!

ولحسن الحظ أضاع الرئيس العراقي القائد الضرورة فرصة ذهبية من هذا النوع في شرح مطول مختلف عليه، وسط توتر دولي على أشد ما يكون لتاريخ العلاقات الكويتية العراقية قام به مندوب صدام ووزير خارجيته السيد طارق عزيز، مما مهد لتوجيه ضربة 17 يناير 1991 وبدء حرب التحرير، يقول أبو الحسن حول هذا اللقاء الحاسم: "لقد كانت أجهزة الإعلام العالمية تنقل كل ما يدور عن ذلك الاجتماع، وكنا نحن في نيويورك نراقب هذا التطور ونحن في أشد حالات الخشية والانزعاج من أن يقبل صدام حسين التفاوض مع الولايات المتحدة أو مجلس الأمن، وبالتالي تدخل قضية الكويت واحتلال العراق لها واستمرار الممارسات اللا إنسانية ضد الشعب الكويتي والمقيمين على أرضها خلال فترة التفاوض الذي لن يؤدي الى نتيجة إيجابية حسب توقعاتنا، وبالتالي يفتر العزم وتسترخي الهمم المتأججة في العالم لردع العدوان، لكن إرادة الله الناصرة للكويت غلبت حيث فشلت المحادثات". (ص195). كان أبو الحسن قبل عمله في نيويورك والأمم المتحدة سفيراً للكويت في الصين، وتبين فيما بعد أن تلك الوظيفة كانت بالنسبة له وللكويت فرصة نادرة خدمتنا خدمة كبرى في أزمة الاحتلال عام 1990، فعمله الدبلوماسي هناك في بكين جعله يتفهم مخاوف الصين وأولوياتها السياسية، وخلال أزمة الاحتلال يقول السفير: "كنا قلقين جدا من كيفية تصويت الصين رغم الاتصالات الأميركية والكويتية الكثيرة بالخارجية الصينية".

ويبين أبو الحسن بعض مشاكل توحيد الجهد السياسي الدولي في تلك الأيام العصيبة، إذ لم تكن التأكيدات واضحة من القيادة في الصين، وهذا لم يكن مستغربا لي شخصيا كوني كنت سفيراً سابقا للكويت في الصين، وأعرف طريقة التفكير الصيني الذي تتنازعه اعتبارات عديدة ترتبط فيها السياسة والاقتصاد". (ص181).

وكانت الاستفادة الأهم للسفير أبي الحسن في الصين من مجرد معرفة دقائق الدبلوماسية الصينية، توطيد صداقته الشخصية والعائلية في الوسط الدبلوماسي ببكين، مع من كان سيصبح رئيس الولايات المتحدة أثناء أزمة احتلال الكويت عام 1990، أي الرئيس جورج بوش الأب والذي كان حينذاك يعمل راعيا للمصالح الأميركية في بكين بسبب عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين عام 1976. (ص23)

ومما عمق فهم الرئيس بوش لاحقا لسياسات صدام وعقليته وشخصيته الدكتاتورية كذلك تولي الرئيس بوش قبل الرئاسة وكالة الاستخبارات الأميركية بعض الوقت مما جعله على معرفة عميقة بدكتاتورية صدام حسين ونهجه وجرائمة بحق العراقيين وتصفية خصومه وغير ذلك.

كتاب أبو الحسن "ذكرياتي" يحيي في أذهان القراء ذكريات الغزو المرة غير القابلة للنسيان لمن عايشها، كما يجعل القارئ في حالة تساؤل مرارا عما جعل بعض الدول العربية والزعامات تصطف على حساب مصالح شعوبها الى جانب مغامرة صدام وخسارته الحتمية أمام كل تلك القوى الدولية، التي سحقته ودمرت كل ما بناه للعراق. ولو كان الدكتاتور العراقي متوازن الفكر ناضج الوعي لأدرك على الأقل أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي، وكانت تعيش دولها عام 1990 انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو بعد عقود طويلة من الحرب الباردة، لا يمكن أن تخضع لصدام بعد زوال قوة السوفيات وأن تتعايش مع احتلال رجل منهك من حربه مع إيران لدولة خليجية كالكويت أو المملكة العربية السعودية، وكنت في دولة الإمارات أجيب عن كل من يسألني: هل سيضرب الأميركيون حقا ويقتلعون صدام؟ وأجيب بثقة إنهم سيوسعونه ضربا وقصفا بجيوش وطائرات وصواريخ، أعدها الأميركيون لضرب دولة بقوة وحجم وإمكانات الاتحاد السوفياتي، أما العراق المسكين فمجرد تعريض بنيته التحتية وشعبه المنكوب للضربة القادمة سيكون حتما مأساة عسكرية، وهذا ما حدث، أما الذين كانوا يشيرون إلى التجربة والمقاومة الفيتنامية كمنظمة التحرير و"بن بيلا" وغيرهم فكانوا يتجاهلون زوال القدرة والمساندة السوفياتية وقوى وارسو التي جعلت فيتنام تصمد.

من أهم الخطوات التي يتناولها الكتاب والتي أقدم عليها الكويتيون أثناء الاحتلال بالتعاون مع المقاومة الكويتية، ويشير إليها أبو الحسن، إخراج السجلات السكانية وما يتعلق بها وإيداعها لدى الأمم المتحدة للحفظ بموجب قرار مجلس الأمن، إذ كان المحتل بصدد محو وتشتيت الهوية السكانية في الكويت. يقول أبو الحسن: "كانت تردنا معلومات من المقاومة الكويتية بأن إعدام السجلات السكانية قائم لدى سلطات الاحتلال على قدم وساق"، وقد لعب أبو الحسن دورا مهما في حفظ البيانات الأساسية للسكان كما كان وضعه حتى الأول من أغسطس 1990 وجرى إيداع نسخ من هذه السجلات في الأمم المتحدة". (ص158).

كتاب أبو الحسن يوثق القرارات والبيانات الدولية، ولم تسمح وظيفة محمد أبو الحسن مندوب الكويت في الأمم المتحدة ممن أمضى وقتا طويلا خارج البلاد بأن يناقش تجربة الاحتلال والتحرير داخل الكويت نفسها وانعكاسات الحدث في المحيط العربي والإسلامي، ولا شك أن لديه مادة ثرية لكتاب قادم في وقت لاحق.

يختتم أبو الحسن كتابه برصد زيارات الأمير جابر الأحمد لأميركا ومنها الزيارة الثالثة لتقديم الشكر للأمم المتحدة على تحرير الكويت عام 1991 تضمنت الزيارة لقاء سموه بالطلبة الكويتيين هناك في الولايات المتحدة حيث جاء في كلمته بعد تناول طعام الغداء مع أبنائه الطلبة: "سمعت هتافاتكم عندما استقبلتموني في المطار وأنتم ترددون بالروح بالدم نفديك يا جابر، وأود أن أقول لكم إن الأفراد مهما علا شأنهم ومراكزهم لا يفدون أبدا، الفداء والتضحيات يجب أن تكون للبلد والوطن فقط، فعليكم أن تقولوا بالروح بالدم نفديك يا كويت، وهنا اهتز الطلبة وصفقوا لسموه".

ومما يستحق الإشادة في الكتاب عدم إغفاله عطاء ودور بقية الدبلوماسيين والمشاركين الكويتيين في متابعة الأحداث وإنجاز المهام، فما تم عام 1991 وعبر الأزمة كلها كان نموذجا للتعاون والتفاني والتنسيق بين ما هو وطني وما هو عالمي على كل صعيد.

ختاماً يمكن القول: إن كتاب أبوالحسن يغطي بشكل واف الجانب الرسمي والدولي مع أحداث عدوان 1990 والتحرير، مما يجعله رغم صدوره بعد ثلاثين عاما من أبرز وثائق ذلك الحدث والزمن العصيب، وسنبقى بانتظار كتب أخرى عن كواليس أحداث 1990-1991 المريرة وعن ذكريات دبلوماسية أخرى.

خليل علي حيدر

back to top