النرويج ... قصة نجاح دولة

نشر في 13-01-2022
آخر تحديث 13-01-2022 | 00:08
 د. سلطان ماجد السالم ماذا تعرف عن النرويج؟! سيجيب كل منا عن هذا التساؤل حسب عمره ومكانته الاجتماعية والجيل والحقبة الزمنية التي ينتمي إليها وخلفيته الثقافية بصورة مختلفة، فقد تسمع من يقول إنها بلاد البيئة البحرية الخصبة والشهيرة بسمك السلمون المنافس لذاك الأسكتلندي الشهي، وصاحبة أعرق تقنيات الاستزراع السمكي بالمحيطات. إجابة أخرى قد تكون، نعم، أعرف ذلك البلد بأن لديه أغنى وأضخم صندوق سيادي في العالم، وأخرى تكون بالإيجاب أيضا فهي دولة إسكندنافية أفرزت مع شقيقاتها علماء ومبدعين وكتاباً ومؤرخين وحكايات الآلهة القديمة لأرض (المدقارد) وأساطير (ثور) و(لوكي) وملك الملوك (أودن) ذا المعرفة والحكمة الأبدية، وبلاد الفايكينغ بتاريخهم الحافل وفتوحاتهم الممتدة.

كل تلك الإجابات صحيحة، نعم النرويج تحتضن كل ذلك وأكثر، شاملة عاصمتها "أوسلو" وأقاليمها الجميلة التي تحتضن ما يقارب خمسة ملايين نسمة والمصنفين من أسعد شعوب العالم، وأولئك الناس الذين يحظون بأفضل أنظمة التعليم، أما الصحة والإسكان فهما على مستوى عال من الجودة، لكن كم منا يستطيع أن يستذكر أو حتى يعلم قصة نجاح النرويج أو يفهم ويفك رمز تاريخها المعاصر؟!

إلى عام 1969 كانت النرويج بلد إسكندنافي بسيط جداً، يهتم بالحداثة والتطوير كسائر بلدان العالم، بل يطمح أن يوفر لشعبه رفاهية عالية جداً، لكن هناك حدث عظيم حصل في تلك الفترة جعل الحكومة النرويجية تفكر وتتفوق وتثبت معدن شعبها وساساتها وقياداتها الحقيقية، واكتشفت مكامن النفط في بحر الشمال من بعد أعمال التنقيب في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وبدأ الإنتاج في أواخر ذلك العقد وبعدها (عينك ما تشوف إلا النور).

تغير وجه البلد المعتمد على البحر وخيراته، والنرويجيون هم من طور واستحدث استزراع السلمون في المحيط إلى ذاك البلد النفطي الغني المهتم برفاهية شعبه ونظام يرعى مواطنيه في أساسياتهم وحاجياتهم welfare state ليترك الأغلب البحر وخيرات الطبيعة ويتجه خلف صناعات الذهب الأسود.

إلى هذا الحد، ألا تذكركم قصة النرويج الحديثة بقصة بلد آخر استبدل شعبه البحر والطبيعة وتحول الى مجتمع ريعي مع إنتاج النفط؟! عموما، العلامة الفارقة بين قصة نجاح النرويج وتلك الخاصة بأي دولة قد تشابهها تكمن في بساطة القائمين عليها، حيث تعلم علم اليقين (القيادة النرويجية وأصحاب القرار) بأن النفط لن يدوم وأن النظام السياسي-الاقتصادي هو الأمر الباقي للشعوب من بعدهم فهم يعملون لصالح الشعب وحماية مصالحه في نهاية المطاف، وبأنه كلما كان النظام السياسي عالي السقف من جهة الحريات ويحفظ حقوق الأقليات والطبقات الشعبية المهمشة كان ناجحا لا محالة وفي حالة استقرار داخلي وخارجي. بالمناسبة النرويج تملك أغنى صندوق سيادي بالعالم وهو في الواقع حديث العهد (أنشئ في التسعينيات وأعيد تشكيله في أواخرها) وبقيمة تقدر بـ1.3 مليار دولار أميركي في يونيو 2021.

وهنا يكمن الفرق ما بين النرويج وأي بلد آخر، حيث استثمرت هذه الدولة أموال النفط والغاز في أفضل طريقة ممكنة على الإطلاق من إنشاء صناعات محلية واستثمارات في شركات عظمى وبنى تحتية وسد عجوزات الدولة كذلك، طبعا ناهيك عن نظام ضريبي صارم على كبار التجار يدر على الدولة أموالاً طائلة كذلك.

كل هذه القرارات والأعمال الجميلة التي تقدمها حكومات النرويج لشعبها مصدرها نظام ديموقراطي متين وسليم يقوم على حكم الشعب لذاته، ويميل الشعب في اختيار البلديات والبرلمانات المتعاقبة في النرويج إلى الأحزاب اليسارية الليبرالية بعض الشيء، والتي تأخذ من مقومات الاشتراكية الشيء الكثير من حفاظ على عدل اجتماعي ورعاية للمواطنين والمقيمين، ينتخب الشعب أيضا سلطات من الطيف الوسطي أحيانا ونرى ذلك في تقلبات (ولو كانت طفيفة) سياسات المهاجرين مثلا بين الفينة والأخرى.

حكم الشعب بشكل ديموقراطي جعله يرى بعينه كيف للديموقراطية والسياسة الرشيدة أن تصنع أمجاد البلاد، وكيف يتبدل حاله، فالنفط لا يدوم وإيراداته كذلك، والاستثمار في العقول يعد العلامة الفارقة للشعوب الحية، فهل من متعظ؟! وهل هناك من يستخلص العبر والدروس من قصة نجاح النرويج؟!

إذا ما قلبت أحداث النرويج وقصتها في التاريخ المعاصر وجعلتها من منظور مختلف سلبي، ألا تذكرك بقصة قيام دولة أخرى وعصرها الحديث ومعاناتها مع ديموقراطيتها العرجاء؟!

● د. سلطان ماجد السالم

back to top