لماذا انقلب المحافظون على الجيش الأميركي؟

نشر في 15-10-2021
آخر تحديث 15-10-2021 | 00:02
الجنرال مارك ميلي مع الرئيس دونالد ترامب في ساحة «لافاييت» بواشنطن تزامناً مع احتجاجات حركة «حياة السود مهمة»
الجنرال مارك ميلي مع الرئيس دونالد ترامب في ساحة «لافاييت» بواشنطن تزامناً مع احتجاجات حركة «حياة السود مهمة»
يستطيع السياسيون الجمهوريون أن يتجنبوا تفجير أزمة الثقة في وجه الجيش عبر تخفيف مواقفهم العلنية، فلا شيء أسوأ من تبجيل الجيش المفرط إلا مهاجمته وشَتْمه، ويؤدي تبجيل القوات المسلحة بطريقة غير مبررة إلى انتشار شكلٍ من الرضوخ المدني للجيش وتهديد رقابة المدنيين.
في خضم الجدل المستمر حول «النظرية العرقية النقدية»، أي الإطار الذي يسمح بتحليل العنصرية بعدما كانت هذه العملية حكراً على أوساط مغلقة في الماضي، أصبحت القوات المسلحة الأميركية فجأةً المدافِعة الأولى عن أهمية أن تتعلم الأجيال مظاهر العنصرية المنهجية في الولايات المتحدة، فقد أثار الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، غضب عدد كبير من الجمهوريين في يوليو 2020 حين اعتذر لأنه تجوّل مع الرئيس دونالد ترامب في ساحة «لافاييت» في واشنطن تزامناً مع احتجاجات حركة «حياة السود مهمة».

ثم أحدث ميلي ردة فعل أقوى وسط المحافظين في يونيو الماضي، حين أدلى بشهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب، وأيّد أن يدرس الطلاب العسكريون «النظرية العرقية النقدية»، فبرأيه ستكون هذه النظرية مفيدة لفهم سبب «سخط البيض» وهجوم 6 يناير على مبنى الكابيتول.

جاء الرد عليه سريعاً، فاعتبر ترامب تعليقات ميلي «مؤسفة» و«مثيرة للشفقة»، وأضاف أنه كان «سيتخلص منهم خلال دقيقتَين»، في إشارة إلى ميلي وضباط عسكريين آخرين يعطون أهمية للنظرية العرقية النقدية، وفي الفترة الأخيرة، دعا الجمهوريون إلى استقالة ميلي بعدما ذكر بوب ودوورد وروبرت كوستا في كتابهما «الخطر» (Peril) أن ميلي اتصل بنظيره الصيني قبل انتخابات عام 2020 وبعدها لطمأنته إلى أن الولايات المتحدة لن تهاجم الصين فجأةً، فكتب راند بول، السيناتور الجمهوري عن ولاية كنتاكي، قبل أيام تغريدة عبّرت عن آراء الكثيرين في حزبه، فقال: «إذا كانت هذه المعلومة صحيحة، يجب أن يخضع لمحاكمة عسكرية».

يبدو أن التقارب القديم بين الجمهوريين والجيش انتهى أخيراً، وبما أن السياسيين والنقاد المحافظين بدؤوا يستهدفون الجيش الأميركي، لا سيما كبار القادة فيه، فمن المنطقي أن يلاحظ مناصروهم ما يحصل، فقد تكون عواقب هذه الأحداث مريعة على الجيش الأميركي، فطوال عقود، كانت المودة سائدة بين المحافظين والجمهوريين والقوات المسلحة، ولطالما عبّر الجمهوريون عن ثقتهم بالجيش وتقديرهم له أكثر من الديمقراطيين، وحاول المرشحون الجمهوريون لأي مناصب سياسية أن ينالوا دعم الجنرالات المتقاعدين وكبار الضباط.

لكن انتهت قصة الحب بين الطرفين بأسوأ طريقة، فقد بدأت هذه النهاية مع ترامب، على غرار معظم التغيرات التي طالت الحزب الجمهوري في السنوات الأخيرة، حيث عبّر الرئيس الأميركي السابق سريعاً عن ازدرائه بالجنرالات المتقاعدين الذين عيّنهم بنفسه وأساء معاملة مستشاريه الجنرالات، وامتنع ترامب خلال معظم فترات عهده عن انتقاد الجيش أمام الرأي العام حتى سبتمبر 2020، حين اتهم خلال مؤتمر صحافي كبار الجنرالات في فريقه بالفساد، فقال: «كل ما يريدونه هو خوض الحروب لإرضاء تلك الشركات المدهشة التي تُصَنّع القنابل والطائرات وجميع المعدات الأخرى»، ومنذ ذلك الحين، اعتاد ترامب على مهاجمة الجيش وكبار قادته واتّهمهم بالجُبن السياسي وقلة الكفاءة في العمليات.

يبدو أن هجوم المحللين والسياسيين اليمينيين بدأ يغيّر آراء الناخبين الجمهوريين العاديين، فقد تراجع تعلّقهم بالقوات المسلحة وإعجابهم بها، فوفق استطلاعات الرأي في أواخر يونيو ويوليو الماضيَين، حصل تحوّل بارز في مواقف الرأي العام، ولم يتّضح هذا التغيير عبر أهم سؤال تطرحه استطلاعات الرأي حين تطلب من الأميركيين أن يَصِفوا مستوى ثقتهم بالقوات المسلحة، حيث تكشف الأجوبة عن هذا السؤال أن ثقة الجمهوريين بالجيش تراجعت قليلاً، في حين زادت ثقة الديموقراطيين به بدرجة معينة، لكن لطالما تزامنت هذه التحولات الحزبية مع تغيّر هوية الحزب الحاكم في البيت الأبيض، فيُعبّر الحزب الخاسر عن تراجع ثقته بجميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش، كذلك، لا يزال الجمهوريون والمستقلون الأقرب إلى الحزب الجمهوري يثقون بالجيش عموماً أكثر من الديمقراطيين والمستقلين الأقرب إلى الحزب الديمقراطي.

لكن لا يقتصر الوضع على ذلك، حيث تكشف الاستطلاعات الأخيرة أن الجمهوريين ما عادوا يقدّرون الجيش في عام 2021 بقدر ما يتوقّع الكثيرون، فبعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، كان مفاجئاً أن يبدي الديمقراطيون تقديراً إضافياً للقوات المسلحة ويلجؤوا إلى الجيش للتحقق من أداء ترامب، وفي غضون ذلك، أصبح الجمهوريون أكثر ميلاً إلى دعم تفوّق السلطة المدنية، إذ كان متوقعاً أن يؤدي فوز جو بايدن في الانتخابات الأخيرة إلى تبديل المواقف الحزبية، فيصبح الجمهوريون مجدداً أكثر تقديراً للجيش والديموقراطيون أكثر دعماً للسلطة المدنية.

لكن لم يتحقق إلا نصف التوقعات المنتظرة، فوفق أحدث استطلاع، أصبح الديموقراطيون أقل تقديراً للجيش بعد وصول حزبهم إلى البيت الأبيض، لكن لم يسترجع الجمهوريون في المقابل تقديرهم السابق للقوات المسلحة، حيث سألنا المشاركين عن صوابية أن يوافق الرئيس على مهمة عسكرية تحظى بدعم الضباط العسكريين الأميركيين «حتى لو كانت تلك المهمة لا تستحق العناء برأي الرئيس». في عام 2019، أجاب 46.5% من الديموقراطيين بالإيجاب عن هذا السؤال مقارنةً بـ30.3% من الجمهوريين، وفي هذه السنة، اقتصرت النسبة على 32.8% وسط الديموقراطيين، ويتماشى هذا التراجع البارز مع مصالحهم السياسية وميولهم الأيديولوجية، لكن أجاب 36.1% من الجمهوريين بالإيجاب، مما يعني أن الزيادة تقتصر على 5.8% مقارنةً بالعام 2019.

يبدو أن تراجع تقدير الجمهوريين للجيش، بما يتعارض مع فكر المحافظين ومصالح حزبهم، يرتبط فعلياً بتحوّل بارز آخر: لا يثق الأميركيون بالجيش لأسباب مختلفة عن تلك التي كانوا يحملونها في الماضي، فقد عبّر 15% من الديموقراطيين و12% من الجمهوريين فقط عن عدم ثقتهم بالجيش بدرجة معينة في عام 2021 (مقارنةً بـ21% للديموقراطيين و10% للجمهوريين في عام 2019). لكن من بين الأصوات التي عبّرت عن عدم ثقتها بالقوات المسلحة، اعترف 64.6% من الجمهوريين بأن السبب يتعلق بتسييس الجيش. اقتصرت نسبة من يحملون هذا الرأي على 35.8% من الجمهوريين في عام 2019، ولا تزال نسبة الديموقراطيين التي تعتبر الجيش غير جدير بالثقة لأنه مسيّس شبه ثابتة (31.3% في عام 2019 مقابل 28.2% في عام 2021)، لكن على عكس المواقف المسجّلة في عام 2019، يبدو أن الجماعات التي لا تثق بالجيش بسبب تسييسه لم تعد تكنّ له الاحترام كما في السابق. بعبارة أخرى، مهّدت المخاوف من تسييس الجيش لتراجع التقدير الذي يحظى به.

تاريخياً، كان السياسيون اليمينيون يميلون إلى تأييد الضباط العسكريين أكثر من مهاجمتهم، وبعدما أقال الرئيس هاري ترومان الجنرال دوغلاس ماك آرثر من منصبه القيادي في كوريا بسبب عصيانه للأوامر، اعتبره كبار الجمهوريين عند عودته إلى بلده «قيصر أميركا». تتعلق مقارنة تاريخية أكثر وضوحاً باليسار السياسي: سرعان ما تحوّلت المعارضة لحرب فيتنام إلى نفور من الضباط العسكريين كونهم الواجهة التي تمثّل الحرب أمام الرأي العام، ومع ذلك، تلاشت هذه العدائية الواسعة تجاه الجيش مع نهاية المهمة العسكرية في عام 1973 وإعادة إحياء الحرب الباردة في وقتٍ لاحق من ذلك العقد.

لكن يُعتبر الوضع الراهن غير مسبوق تاريخياً ويتحمّل الجيش جزءاً من اللوم، فمنذ نهاية الحرب الباردة، أساء كبار الضباط العسكريين إلى سمعة الجيش المعروف تقليدياً بابتعاده عن السياسة، ونتيجةً لذلك، أصبح انتقادهم ممكناً لأنهم يمثّلون مجموعة ذات مصالح سياسية على غرار الجماعات الأخرى في واشنطن، ومن خلال خوض معترك السياسة، فاز الضباط أحياناً بمعارك سياسية معينة، مثل الموافقة على زيادة القوات العسكرية في أفغانستان في عام 2009، لكن كانت التكاليف التي تكبّدتها المؤسسة العسكرية والوطن عموماً هائلة على المدى الطويل.

يجب أن يزيد الجيش الأميركي التزامه بديموقراطية العلاقات المدنية العسكرية حفاظاً على سمعته وعلى مصلحة البلد أيضاً، ويجب ألا يزعم الجنرالات أنهم لم يشاركوا في الانتخابات يوماً، كما فعل جورج مارشال سابقاً، بل يُفترض أن يتذكّر الضباط الذين يتابعون خدمتهم أن القرارات المرتبطة باستعمال القوة بالشكل المناسب تكمن في يد السياسيين المُنتخَبين كونهم يخضعون لمحاسبة الشعب مباشرةً، فمن مسؤولية القادة العسكريين الأميركيين أن يعبّروا عن آرائهم الاحترافية بكل صراحة أمام القائد الأعلى وممثّليه، لكن تعوق أي أساليب أخرى للتأثير على السياسات المعتمدة السيطرة الديموقراطية وتزيد ارتباك الرأي العام حول دور الجيش، وينطبق هذا المبدأ على الجنرلات المتقاعدين ونشاطاتهم السياسية وكتبهم وإطلالاتهم التلفزيونية: لا يستطيع هؤلاء أن يعطوا لأنفسهم الحق بالتكلم بناءً على صفتهم المدنية المستجدة تزامناً مع الاستفادة من امتيازاتهم العسكرية، ولا عجب في أن تكشف الاستطلاعات أن الأميركيين لا يميّزون بين العسكريين الذين يتابعون خدمتهم والجنرالات المتقاعدين الذين يشاركون في نقاشات سياسية علنية.

لكن سيكون استرجاع مكانة الجيش غير المُسيّسة مشروعاً طويل الأمد وعابراً للأجيال، فعلى المدى القصير، يستطيع السياسيون الجمهوريون أن يتجنبوا تفجير أزمة الثقة في وجه الجيش عبر تخفيف مواقفهم العلنية، فلا شيء أسوأ من تبجيل الجيش المفرط إلا مهاجمته وشَتْمه، ويؤدي تبجيل القوات المسلحة بطريقة غير مبررة إلى انتشار شكلٍ من الرضوخ المدني للجيش وتهديد رقابة المدنيين، وفي المقابل يجازف تشويه سمعة القوات المسلحة بإضعاف قدرات الجيش الأميركي عموماً، فلا يطالب الناخبون الجمهوريون بمهاجمة مؤسسة كانوا يحترمونها تقليدياً، بل إنهم بدؤوا يفقدون الثقة بها، حتى أنهم يزدرون بها أحياناً، إذاً يجب أن يوقف القادة والنقاد المحافظون هجومهم السياسي قبل فوات الأوان.

● رونالد كريبز- روبرت رالستون

منذ نهاية الحرب الباردة أساء كبار الضباط العسكريين إلى سمعة الجيش المعروف تقليدياً بابتعاده عن السياسة

لا يزال الجمهوريون والمستقلون الأقرب إلى الحزب الجمهوري يثقون بالجيش عموماً أكثر من الديموقراطيين والمستقلين الأقرب إلى الحزب الديموقراطي
back to top