طابع أوروبا العالمي... مجرّد سراب!

نشر في 17-09-2021
آخر تحديث 17-09-2021 | 00:02
أصبح الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي محاصراً أكثر من أي وقت مضى، تزامناً مع توسّع نفوذ اليمين المتطرف في أنحاء القارة وإصراره على تحجيم أجندة اليمين الوسطي، وحتى بعض أحزاب اليسار الوسطي مثل «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» الدنماركي، مما يعني أن الهوية المدنية بدأت تعطي مكانها لهوية ذات طابع عرقي معاد للإسلام.
حين سقطت كابول في منتصف شهر أغسطس الماضي، شعر القادة الأوروبيون فوراً بالخوف من وصول موجة جديدة من اللاجئين إلى القارة الأوروبية، فقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "يجب أن نستبق المشكلة ونحمي أنفسنا من موجات تدفق المهاجرين غير الاعتيادية"، أما أرمين لاشيت، مرشّح حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" لمنصب المستشار الألماني بعد أنجيلا ميركل خلال الانتخابات المقررة بعد أسبوعين، فقد أعلن أن أزمة اللاجئين التي وقعت في عام 2015 لن تتكرر: استقبلت ألمانيا في تلك السنة أكثر من مليون طالب لجوء، وبحلول نهاية هذا الشهر، وافق المجلس الأوروبي على التحرك جماعياً لمنع تكرار حركات الهجرة الواسعة وغير القانونية والخارجة عن السيطرة كتلك التي شهدتها أوروبا في الماضي.

يعكس التركيز على "حماية" أوروبا من تدفق طالبي اللجوء تحولاً مقلقاً في طبيعة الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي، ففي مرحلة معينة، كان مؤيدو التكامل الأوروبي واثقين بأن العالم سيُعاد تشكيله على صورة الاتحاد الأوروبي الذي راح يوسّع قواعده بشكلٍ متكرر ويُصدّر نموذجه المبني على "اقتصاد السوق الاجتماعي" ودولة الرفاهية، لكن مند بدء أزمة الديون في منطقة اليورو في عام 2010، زادت المواقف الأوروبية الدفاعية ولا يرى الأوروبيون إلا التهديدات في العالم اليوم.

أمام هذا الوضع، باتت أوروبا أكثر تركيزاً أيضاً على أهميتها الثقافية، فبعد تراجع مصداقية النموذج الأوروبي وجاذبيته (لأن الأوروبيين أفرغوه من مضمونه بقيادة ميركل في محاولةٍ منهم لزيادة قدرتهم التنافسية)، لا يكف مؤيدو التكامل الأوروبي اليوم عن التكلم حول "القيم الأوروبية"، حتى أن المفوضية الأوروبية "الجيوسياسية" التي تقودها أورسولا فون دير لاين تشمل مفوضاً مُكلّفاً بتسويق أسلوب الحياة الأوروبي (كان الهدف الأساسي يتعلق سابقاً بالحماية بدل التسويق)، يكون هذا المفوض مسؤولاً أيضاً عن مسائل اللجوء والهجرة.

حين أصبح ماكرون رئيس فرنسا في عام 2017، تكلم عن أوروبا "التي تحمي"، وتكلم بشكلٍ أساسي عن حماية المواطنين من السوق، وكان يأمل في إصلاح منطقة اليورو لإنشاء اتحاد أوروبي مبني على توسيع ممارسات إعادة التوزيع، لكن ميركل أعاقت جميع خططه أو تجاهلتها بكل بساطة، فمنذ ذلك الحين، وبضغطٍ من اليمين المتطرف وفي ظل توسّع النزعة إلى تقليد تحركات هذا المعسكر، أعاد ماكرون ابتكار فكرة الحماية الثقافية من المسلمين تحديداً، بدل الحماية الاقتصادية، وكان الاتحاد الأوروبي يتّكل على استخلاص الدروس من الصراعات داخل أوروبا، لكنه لم يتكلم يوماً عن الاستعمار.

يتعامل الوسطيون المؤيدون للتكامل الأوروبي، من أمثال ماكرون، مع السياسة الدولية انطلاقاً من مبدأ "صراع الحضارات" الذي طرحه صامويل هنتنغتون، فقد كان هذا الأخير يعتبر الغرب حضارة واحدة ومعدّة للتصادم مع الصين والإسلام في حقبة ما بعد الحرب الباردة، لكنّ المعسكر الوسطي اليوم يعتبر أوروبا حضارة مختلفة عن الولايات المتحدة وبحاجة إلى إثبات قوتها أمام الأميركيين.

هذا الجانب الحضاري في المشروع الأوروبي يزيد تعقيد قصة "بريكست" التي سردناها لأنفسنا، فلطالما اعتُبر مؤيدو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي جماعة تتوق إلى بريطانيا ذات الأغلبية البيضاء، كما كان الوضع قبل بدء موجة الهجرة الجماعية خلال خمسينيات القرن الماضي، لكنّ الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، حيث صوّت ثلث السود والآسيويين في بريطانيا لقرار الانسحاب في عام 2016، ثم أثبتت العالِمة السياسية نيما بيغوم أن جزءاً كبيراً من تلك الجماعة اتخذ هذا القرار لأنه اعتبر الاتحاد الأوروبي "قلعة لأصحاب البشرة البيضاء"، وحتى الجماعات التي صوّتت للبقاء في الاتحاد لم تكن تعتبر نفسها أوروبية. بشكل عام، تتفوق بريطانيا على أوروبا القارية من حيث المساواة العرقية، فقد أدت خطة "بريكست" مثلاً إلى تخفيض عدد النواب المنتمين إلى أقليات عرقية في البرلمان الأوروبي بدرجة كبيرة (ما من أرقام دقيقة في هذا المجال لأن الدول الأعضاء، مثل فرنسا وألمانيا، لا تجمع أي بيانات عرقية).

في القارة الأوروبية، يظن مؤيدو التكامل الأوروبي أنهم يتقاسمون نقاطاً مشتركة مع الأوروبيين الآخرين، وهي النقاط نفسها التي تفصلهم عن بقية دول العالم، فهم يعتبرون أوروبا "مجتمع المصير" كما يقول الألمان، ولا يفكر الكثيرون في معسكر مؤيدي البقاء في الاتحاد بهذه الطريقة، بل يؤيد جزء كبير منهم الحفاظ على الطابع العالمي للقارة، لكن المشكلة تكمن في جهلهم لواقع الاتحاد الأوروبي بقدر مؤيدي الانسحاب من الاتحاد، فهم يدعمون نسخة خيالية من الاتحاد الأوروبي بدل دعم الاتحاد بشكله القائم اليوم، ويظن الكثيرون في معسكر اليسار البريطاني تحديداً أن الاتحاد الأوروبي هو أكثر انفتاحاً وتطوراً مما هو عليه، ففي الأسبوع الماضي، دعا ميشال بارنييه، مفاوض الاتحاد الأوروبي في ملف "بريكست" ومرشّح حزب "الجمهوريون" للرئاسة الفرنسية خلال السنة المقبلة، إلى تعليق إجراءات الهجرة من خارج أوروبا.

من الغريب أن يُعتبر التقرب من "أوروبا" تعبيراً عن العالمية، فأوروبا ليست مرادفة للعالم ولن يجعلنا دعم الاتحاد الأوروبي أو اعتبار أنفسنا أوروبيين "مواطنين عالميين"، فكيف بالأحرى "مواطني اللامكان"، وهي العبارة الشهيرة التي استعملتها تيريزا ماي في عام 2016، بل إن هذه المواصفات تجعلنا مواطنين في منطقة محددة يصادف أنها تشمل أكبر عدد من أصحاب البشرة البيضاء في العالم، فتاريخياً، كانت كلمتا "الأوروبي" و"الأبيض" مترادفتَين بشكل عام، ويكفي أن نفكر مثلاً بمعنى كلمة "أوروبي" في جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت هوية أوروبية جديدة وذات طابع مدني متزايد، وسط النُخَب على الأقل، وكانت تتمحور حول الخصائص التي مهدت لنشوء الاتحاد الأوروبي لاحقاً، لكن لطالما ارتكزت تلك الهوية على أفكار عرقية وثقافية قديمة حول أوروبا لكسب الشرعية والتعاطف، إذ تحمل أرقى جائزة تُعطى لمؤيدي التكامل الأوروبي مثلاً اسم شارلمان الذي يجسّد هوية أوروبية مرادفة للمسيحية في حقبة القرون الوسطى، وحتى مصطلح "التكامل الأوروبي" يوحي بأن الأفكار المدنية أو العرقية أو الثقافية في الهوية الأوروبية كانت تُحذَف دوماً.

وبعدما كان الاتحاد الأوروبي يرتكز على استخلاص الدروس من الصراعات الأوروبية الداخلية التي امتدت على قرون وبلغت ذروتها خلال الحرب العالمية الثانية، ثم عاد وأضاف تدريجاً الذكريات الجماعية المرتبطة بمحرقة اليهود إلى خطاباته، لم يحاول مؤيدو التكامل الأوروبي تعلّم الدروس مما فعله الأوروبيون لبقية العالم ولم يذكروا شيئاً عن تاريخ الاستعمار.

لقد أصبح الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي محاصراً أكثر من أي وقت مضى، تزامناً مع توسّع نفوذ اليمين المتطرف في أنحاء القارة وإصراره على تحديد أجندة اليمين الوسطي، وحتى بعض أحزاب اليسار الوسطي مثل "الحزب الاشتراكي الديموقراطي" الدنماركي، مما يعني أن الهوية المدنية الهشة التي ظهرت في حقبة ما بعد الحرب بدأت تعطي مكانها لهوية ذات طابع ثقافي أو عرقي متزايد، إنها هوية معادية للإسلام تحديداً، وبعبارة أخرى، بدأ التعصب لأصحاب البشرة البيضاء يزداد أهمية في المشروع الأوروبي بدل أن ينحسر.

● هانز كوندناني - الغارديان

التركيز على حماية أوروبا من تدفق طالبي اللجوء يعكس تحولاً مقلقاً في طبيعة الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي

بعدما كان الاتحاد الأوروبي يرتكز على استخلاص الدروس من الصراعات الأوروبية الداخلية الممتدة على قرون فإن مؤيدي التكامل الأوروبي لم يتعلموها

مؤيدو التكامل الأوروبي يظنون أنهم يتقاسمون نقاطاً مشتركة مع الأوروبيين الآخرين وهي النقاط نفسها التي تفصلهم عن بقية دول العالم
back to top