رياح وأوتاد: خذوا العبرة من لبنان

نشر في 06-09-2021
آخر تحديث 06-09-2021 | 00:09
 أحمد يعقوب باقر أثار مقال الزميل حمزة عليان يوم الخميس الماضي في نفسي ذكريات لا تنسى عن لبنان الذي بدأت رحلات العائلة إليه منذ صيف عام 1957، واستمرت حتى إرهاصات الحرب الأهلية، فقد كان الوالد، رحمه الله، متيماً بحب جبل لبنان، وخاصة حمانا حيث كان يصر على قضاء الصيف 90 يوماً كاملة فيها، حتى كانت الدراسة تبدأ في الكويت وهو يصر على عدم العودة إلى أن يستكمل هذه المدة، أما في الشتاء فقد كنا نقضي عطلة نصف السنة في فندق النورماندي في الزيتونة.

لبنان كان مكمناً للجمال والطبيعة الخلابة، ففي الطريق إلى حمانا من المطار تطل علينا الجبال الخضراء وأشجار الصنوبر ونسيمها، وترى عريش العنب لا تكاد أي بلكونة في الضيعة تخلو منه، ويستقبلنا جيراننا بالترحاب وبالذوق الذي عرفوا به والأطباق اللذيذة الطبيعية المذاق والفاكهة الطازجة التي تم قطافها منذ دقائق، وكان والدي، رحمه الله، معروفاً ومحبوباً من معظم أهل حماناً خاصة البيت الذي ولدت فيه أصغر أخواتي أم محمد عام 1959.

كان الدينار الكويتي يقابله سبع أو ثماني ليرات، وكان مصروف الواحد منا في الخمسينيات وبداية الستينيات ليرة أو ليرتين، فيكفينا هذا المصروف للعب الفليبرز والبلياردو والعشاء ثم العودة إلى البيت.

في حمانا كنا نعشق تسلق الجبل فننطلق من الشاغور الفوقاني حتى نصل إلى النبع، حيث الشلال الذي يهدر الماء منه في بحيرة صغيرة جداً ينساب منها الماء البارد إلى مركز السوق أمام سينما روكسي، حيث النافورة التي يشرب منها المارة، ويملأون الأباريق التي يرفعونها عالياً لتصب في أفواههم، وكنا نحاول تقليدهم فلا نستطيع، أما الآن فيقول الأستاذ حمزة في مقاله: "إن زجاجة الماء الباردة أغلى من الزجاجة الفاترة بخمسة آلاف ليرة لأنها تستهلك الكهرباء!!". وأصبح الدولار الأميركي يساوي حوالي 23 ألف ليرة، فيا له من تراجع مخيف والله يعين المواطن البسيط.

وأحياناً كنت أصحب أقربائي جاسم العوضي وجاسم الزنكي وأخي يوسف وصديق الطفولة والشباب عبدالرحمن القاضي، رحمه الله، في رحلات إلى الجبل لا تزال ذكراها الجميلة حية في الذاكرة، خصوصاً عندما قمت بإنقاذ أحد الشباب من السقوط من أعلى الجبل، فأخرج كل ما جمعه من الكرز والتوت الجبلي وقدمه لنا.

وفي بحمدون كان والدي كعادته لا يغادر مسجد الخرافي بين صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك كان يفعل الأعمام علي وعبدالعزيز القاضي، رحمهما الله، يحفظون القرآن، أما أنا وعبدالرحمن وعبدالله وصالح القاضي فقد كنا نخرج بعد الصلاة لنتجول مع حشود المارة في شارع بحمدون ونرتاد المقاهي، ثم نعود إلى المسجد لصلاة العشاء.

كانت الموديلات الجديدة والسيارات والكاميرات تصل إلى أسواق لبنان قبل معظم دول الشرق الأوسط، وفي عام 1966 اشترى لي والدي كاميرا سينمائية (8 ملم) بمناسبة نجاحي في الشهادة المتوسطة، فصورت الجبل والشلال الصغير الرائع ومنزل حمانا وأخواتي الصغيرات اللاتي أصبحن جدات الآن وقلعة بعلبك ومعظم الأماكن التي كنا نرتادها.

في عام 1994 (وكنا في مجلس 1992) دعانا الأخ الكبير جاسم القطامي، رحمه الله، إلى مؤتمر أقامته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بيروت، فذهبت في معية الأخ الكبير محمد المرشد إلى حضور المؤتمر، وبعد انتهاء الجلسات أصررت على الذهاب وحدي إلى حمانا رغم الأوضاع الأمنية وفي الطريق لاحظت حجم الدمار والخراب الذي لحق بمباني بيروت وبحمدون والذي نجت منه حمانا، وبعد الوصول طرقت بيت جيراننا وعرفوني بعد غياب حوالي عشرين عاماً، وبعد استرجاع ذكريات الماضي تطرقنا إلى ويلات الحرب ومعاناة الشعب والاقتصاد اللبناني منها.

جمع لبنان الجو الجميل والماء الوفير والشعب المضياف ومختلف الخدمات والمائدة المليئة بخيرات الله، أما الآن فقد تفاقمت الأزمات في لبنان، وذهبت معظم تلك الخيرات، وتهاوى الاقتصاد، وتبخرت مذخرات الناس في البنوك، وتضرر المواطن البسيط، يقول الأستاذ حمزة "لبنان الذي نعرفه انتهى وهو يتهاوى يوما بعد آخر، تجار محميون بالرشوة، يتلاعبون بقوت الناس وبرغيف الخبز وتنكة البنزين وقنينة الغاز وحبة الدواء".

نعم لبنان الجميل أضاعوه بالفساد والطائفية والحريات المزعومة وعدم الالتزام بالعهود والمواثيق، قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ".

إن من الدروس التي أراها شخصياً مما حدث في لبنان وجوب طاعة الله تعالى وشكره على النعم الكثيرة التي حبانا بها، وضرورة العمل على حفظها، وأن الإنسان هو المسؤول عن الإصلاح، وهو أيضاً المسؤول عن الفساد، فيجب اختيار القيادات السياسية والنواب الذين يعملون من أجل مستقبل البلاد والأبناء، لا من أجل الكراسي أو تجميع الثروات، وإن الإصلاح إذا كان مطلوباً فيجب ألا يترتب عليه فساد أكبر من الفساد المطلوب إصلاحه، كما يجب رفض الولاءات لأي قوى خارجية أو حتى داخلية خارج إطار الدولة، ووجوب الحفاظ على المواثيق التي تمت بموافقة جميع الأطراف، وأن الحوار هو سبيل الإصلاح وحل النزاعات، وأن الفساد هو المستفيد الأكبر من حالة الفوضى وغياب القانون وزعزعة الاستقرار، وأن الخاسر في النهاية هو المواطن البسيط.

فهل سنأخذ العبرة من لبنان؟

● أحمد باقر

back to top