الاقتصاد ضحية الخلافات السياسية بين دول الخليج

تزيد الإنفاق العسكري وتسيّل الأصول السيادية وتضر مصالح المستثمرين
• المنطقة لم تكد تتجاوز «أزمة قطر» حتى ظهرت بوادر أخرى بين السعودية والإمارات

نشر في 08-07-2021
آخر تحديث 08-07-2021 | 00:05
محمد البغلي
محمد البغلي
رغم اتساع الفجوة عند المقارنة بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي ككيانين، فمن الحصافة أن نتعلم كيف تدير الدول خلافاتها لتحقيق مصالحها، من دون أن تمس علاقاتها أو تدخل في أزمات أخرى كان بالإمكان تحاشيها.
لم تكد منطقة الخليج تطوي صفحة الخلافات بين أعضاء منظمة دول مجلس التعاون الخليجي، العام الماضي، فيما عرف بـ «أزمة قطر»، حتى ظهرت على السطح هذا الأسبوع بوادر أزمة جديدة بين أهم حليفين على مستوى المنطقة وأكبر اقتصادين عربيين.

فبينما اتخذت السعودية قرارات اقتصادية في اتجاه تعزيز دورها كمنطقة جاذبة للاستثمار الأجنبي، عبر اشتراط فتح الشركات الأجنبية مقرات إقليمية في السعودية قبل منحها عقوداً حكومية، ومنافسة الكيانات الخليجية الأخرى، من خلال إطلاق المملكة شركة طيران جديدة تستهدف مسارات دولية تنافس خطوط الطيران الخليجية الكبرى كطيران الإمارات والخطوط القطرية، بالتزامن مع التوسع اللافت في قطاعات الترفيه والسياحة، وأخيرا تعديل قواعد قواعد الاستيراد من الدول الأخرى الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، مع استبعاد السلع المنتجة في المناطق الحرة من الامتيازات الجمركية التفضيلية- كان للإمارات موقف آخر مُغاير، عبّرت عنه أبوظبي في اجتماع «أوبك بلس» هذا الأسبوع.

خلاف وتعثر وتأجيل

فلم يسبق أن ظهر للعلن في اجتماعات «أوبك» أو «أوبك بلس» أي خلاف أو حتى اختلاف في وجهات النظر بين أعضاء المجموعة الخليجية (الكويت والسعودية والإمارات) غير أن الاجتماع الأخير للمجموعة النفطية شهد اختلافاً أدى الى تعثر الاجتماع وتأجيله إلى أجل غير مسمى، وبالتالي عدم التوصل إلى قرار، فالإمارات رفضت ما توصلت إليه معظم الدول المشاركة في اجتماع «أوبك بلس» بشأن تمديد استراتيجية خفض إنتاج النفط الحالية، ما لم يتم مراجعة نسب نقط الأساس لمرجعية التخفيض، لضمان عدالة الحصص لجميع الأعضاء عند التمديد، حيث قال وزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي سهيل المزروعي إنه «لا يُعقل أن نقبل باستمرار الظلم والتضحية أكثر مما صبرنا وضحينا»، في حين دعا وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان إلى «شيء من التنازل وشيء من العقلانية»، للتوصل لاتفاق، مشيراً إلى ان المملكة كانت أكثر الدول تضحية في سبيل التوصل الى اتفاق.

وفي الحقيقة، فإنه لا غبار بشأن أي خلاف خليجي، إذا ظل الأمر ضمن الإطار الفني. ومع التأكيد على أن العلاقة الاقتصادية بين الدول الخليجية مختلة في أساسها، الذي يعتمد على مبدأ التنافس أكثر من التكامل، فإن التجارب السابقة في الخلافات الخليجية، التي لا يتمنى أحد تطورها، دائما تشير في اتجاه الأسوأ من قطع للعلاقات والحملات الإعلامية المضادة، وما يواكبهما من نمو لافت في الإنفاق العسكري لدول المنطقة، وتسييل للأصول السيادية، وتراجع في التجارة البينية، وتجميد لأي أفكار او مشاريع وحدوية اقتصادية أو تجارية على قائمة أعمال مجلس التعاون، فضلاً عن إنفاق مئات الملايين من الدولارات على تحسين أو تشويه صورة هذه الدولة أو تلك، في عملية كسب الرأي العام الخارجي لتأجيج الأزمات، فضلاً عن تضرر مصالح آلاف المستثمرين في قطاعات الأسهم والعقار والصناعة والخدمات وغيرها، في حال تطورت الخلافات الخليجية الى اجراءات عقابية بين دول الخلاف.

دروس البريكست

ورغم اتساع الفجوة في المقارنة بين كيانين -مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي- فمن الحصافة أن نتعلم كيف تدير الدول خلافاتها لتحقيق مصالحها، من دون أن تمس علاقاتها أو تدخل في أزمات أخرى كان بالإمكان تحاشي الوقوع فيها... فغير بعيد عنا درس «البريكست»، الذي شهد مفاوضات طويلة لحل خلافات معقدة بين بريطانيا والاتحاد الاوروبي في قضايا التجارة والضرائب والعمل وصيد السمك والمنافسة العادلة، وحتى مدى انطباق أجزاء من الاتفاقية على أيرلندا، وصولا إلى تفاصيل دقيقة عما يعرف بـ التنقل الحر، بمعنى أن اتفاق البريكست شمل في مفاوضاته كل شيء تقريبا، في الوقت الذي كان من اللافت إصرار كل من لندن وبروكسل -مقر الاتحاد الأوروبي- على التوصل إلى اتفاق قبل البريكست في كل مرة من المرات التسع التي تعثرت بها المفاوضات.

هذا الدرس من «البريكست» لا يبين فقط آلية حل الدول المتقدمة لخلافاتها، بل يوضح لنا أيضا أن الخلاف حول «البريكست» اقتصادي في طبيعته ولم يتطور إلى خلاف سياسي بين الدول المعنية، وكذلك لم يمس قضايا أخرى اقتصادية لا شأن لها بـ «البريكست»، وهذا ما نفتقده كدول خليجية من آليات تمنع انزلاق الخلافات الى قضايا يجب ان تكون بعيدة كليا عن أصل الازمة، لكن أزمات الخليج السياسية، للاسف، يكون أول ضحاياها الملفات الاقتصادية، ويكون الأثر السلبي فيها على القطاع الخاص والمعاملات التجارية والمستثمرين قاسيا جدا، ويتسبب في خسائر مالية واقتصادية لم تكن بالحسبان.

تجفيف منابع الأزمات

فما ينقص دول الخليج فعلا هو تجفيف منابع الأزمات في المنطقة، التي تجعلها دائما منكشفة على أي خلاف بسيط، عبر: أولاً إصلاح آليات الإدارة العامة في جميع دول الخليج بما يسمح بالتمثيل الشعبي في مؤسسات الحكم والإدارة، من خلال مؤسسات المجتمع المدني، ويقلل من فرص نشوء الأزمات بسبب الصراع السياسي، وثانياً وجود مشروع اقتصادي تنموي في المنطقة يشبك المصالح المتبادلة... فكلما تشابكت المصالح أكثر كانت فرص حدوث الخلافات، أو بالأحرى تعطل المصالح والأعمال، أقل. وفي مثال حي على أهمية تشابك المصالح، خصوصا المقترنة بمصالح المستثمرين الاجانب، نستذكر استمرار عمل مشروع دولفين للغاز بين قطر والإمارات، لوجود شركاء أجانب كبار، بحجم «توتال» الفرنسية و«أوكسيدنتال» الأميركية، يمتلكون نحو نصف المشروع، وهنا يكون الحديث عن أهمية وجود نماذج متنوعة من «دولفين» بشركاء أجانب او غيرهم، كضمانة، للوصول إلى قناعة بأن مصالح دول وأبناء المنطقة وتشابكها أكثر أهمية وأولوية من أي خلافات اقتصادية او سياسية مهما كانت.

كل دول العالم معرضة للخلافات الفنية، وحتى السياسية، لكن العالم المتقدم بات يحصر الخلافات ضمن إطارها السليم، بحيث لا تؤثر قضية مهما كانت حساسيتها على العلاقات الدولية، لذلك فإن تطور الدول و«شبابها» يكون في جانب مهم منه في كيفية إدارتها للازمات التي تواجهها والحصافة في التعامل معها، مع التأكيد على أهمية رفع كفاءة مجلس التعاون الخليجي في معالجة الخلافات بين الأعضاء، خصوصا أنه مع عدم تحقيقه أي انجاز اقتصادي يذكر فإن محافظته على متانة العلاقات بين أعضائه تبدو كأنها مهمته الوحيدة.

محمد البغلي

العلاقات الاقتصادية الخليجية مختلة في أساسها لاعتمادها على التنافس أكثر من التكامل

تطور الدول و«شبابها» يتعلقان في جانب مهم منهما بكيفية إدارتها للأزمات وحصافة التعامل معها
back to top