شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (6-16)

الماغوط يطلق «العصفور الأحدب» في فضاء الوجع العربي

نشر في 19-04-2021
آخر تحديث 19-04-2021 | 00:01
يتابع الماغوط حياته الدمشقية، ويباشر بكتابة أعماله المسرحية، والتي شكلت تطوراً كبيراً في المسرح السوري خصوصاً، والعربي عموماً، ليبدأ بـ«العصفور الأحدب» و«المهرج»، ولا يقف عند «ضيعة تشرين» و«غربة»، على الرغم من كل الصعوبات والعراقيل والرقابة التي واجهت نصوص الكتاب العرب آنذاك، لتخرج تلك المسرحيات من النصوص إلى خشبة المسرح في عدد من الدول العربية. وتهمس كلمات مسرحياته في أذن الإنسان محركة شغاف قلبه، وتاركة راحة وطمأنينة في داخله بأن هناك من يشعر به ويكتب عنه.
برز أهم ما قدمه قلم الماغوط في مسرحيات عدة في الستينيات، حيث قدم الشاعر للأدب العربي عملا مسرحيا هاما هو «العصفور الأحدب» عام 1960، وكان من أهم أعماله المسرحية؛ إذ يصف الماغوط في مسرحیته العصفور الأحدب الحالات الاجتماعية والسیاسیة السائدة في المجتمع الذي یعیش فیه، حیث لا قیم إنسانیة ولا حریة أبداً. وينتهي إلى نتيجة أن الثقافة والحیاة والإنسانیة تموت شیئاً فشیئا في مجتمع یكثر فیه الفقر وتنتشر فیه الأمراض. یشبه الكاتب هذا المجتمع بسجن کبیر یصاب فيه الشعب بالفقر والحرمان والتأخر الفكري والسیاسي. ویستخدم الرموز لإيضاح مقاصده بشكل غیر مباشر، فقد جرب السجن مرة ولم یتمنَّ أن یسجن مرة أخری، مختارا القلم كسلاح في وجه الحكام. نری الصبغة السیاسیة في کثیر من آثاره بوضوح جلي، مستخدما الرموز بشكل كبير فيها، كما اعتمد على الحالات الموهومة التي تشبه الكابوس والرؤیا والخیال. لقد عالج وقائع المجتمع وحوادثه معالجة واقعیة. ومن الرموز التي استخدمها الشاعر في مسرحيته: «السوط یقرع نوافذي كالمطر»، بمعنی أن السوط ینزل علی جسدي بشدة، والسوط هنا رمز للظلم المرتكب بحق الشعب. واستخدام أيضاً عبارة «السنابل الصفراء»، لیشیر إلی اللون الأصفر كدلالة علی زوال الحیاة وسیطرة الموت والجوع علی أجواء المجتمع. واستخدم أيضاً «الساقیة الخرساء»، بمعنی الساقیة التی لیست عادیة ولیست زاهیة جمیلة تسقی بالماء الصافي، بل الجو المتشائم الذي ینتشر في کل الأجواء. وقصد برمزية «الدموع تطیر» أي الدموع التي هي تعبير عن الغضب الذی یتطایر من العیون کالشرارة، والدموع هنا رمز للواقع المؤلم. وعلی الشخصیات المثقفة الواعیة في البلد أن تصرخ صرخة قویة کذئب في القفار حتی ینهض من أجلها الراقدون في نوم عمیق، الذین لا یدرکون القضایا ولا یفهمون المشاکل التي تجري من حولهم من الفقر والجوع والمرض والألم.

«العصفور الأحدب»

اقرأ أيضا

مسرحية العصفور الأحدب هي «قفص بشري مجهول في صحراء مجهولة، سماء شاحبة وغيوم رمادية، ساقية موشكة على الجفاف، أغطية خلقة، صحون، ملاعق، ضمادات ملطخة بالدم، دورة مياه، مغسلة، سجناء يتكئون على وسائدهم القذرة بإعياء. كهل، قزم، صانع أحذية عازب مصاب بالشذوذ الجنسي، وعدد آخر من السجناء المجهولين، معصبي الرؤوس، والأطراف. بعضهم يقع، وبعضهم يمشي، وبعضهم الآخر يغلي ضماداته وثيابه وسط بحيرة من الوحل».

تبدأ الرواية في سجن بالصحراء، وتدور أحداثها بين الكهل، القزم، العازب، المجهول وصانع الأحذية؛ لا نستطيع بسهولة أن نستخلص حبكة من «العصفور الأحدب»، ولا أن نجد عناصر دراميَّة أو أن نبحث فيها عن عوامل أساسية في الفن المسرحي. ففي حوار بين القزم والكهل يقول القزم:

«ماذا لو أصبحتَ أميراً يا أنت؟ هل ستظل قريباً من الفقراء الذين كنتَ يوماً تنادي بحقوقهم؟ هل ستنادي بالعدل الذي تنادي به الآن؟».

العصفور الأحدب كان يحلم بعالم أبيض، مثلنا جميعا، لكنه عندما أصبح أميراً، طرد أصدقاء السجن والجوع من قصره. هذا النص المسرحي تلتئم فيه أفكار سياسية، استعارات وصور مجازية يُسخِّرها الماغوط لفضح الأنظمة، وهنا يعتبر العمل عبارة عن صرخة ولطمة للضمائر، بَزقة ازدراء لما اقترفناه في حق أنفسنا.

في نهاية المسرحية تدور حوارية بين عصفورين:

عصفور: «إذا نبتت زهور ما...»

العصفور الآخر: «قد لا تنبت زهور ما»، مما يعني أن الماغوط يبشر في هذين السطرين بثورة قد تأتي وقد لا تأتي! (ملخص قراءة المسرحية من مقالات للدكتور يوسف هادي بور والصحفية نجيبة عامر).

قسمت مسرحية «العصفور الأحدب» في كتابه الأعمال الكاملة إلى أربعة أقسام، ففي الجزء الأول، وفي حوار بين الكهل والقزم والعازب، بعد أن يندفع الجميع نحو النافذة ويتسلقون قضبانها بشكل وحشي، وكل منهم يريد أن يبرز جبينه من بين القضبان قبل الآخر، ينظرون إلى شيء يعتقدون أنه طائر أو شيء ما ويحتارون...

الكهل: لقد أفزعتموه أيها الوحوش. لقد ذهب طائري الجميل وولى

القزم: يا إلهي، إنها حقاً لزريبة مجانين. لقد سخر منه ذلك الكهل اللعين وانتهى الأمر. إنه طائر ما. ذهب وولى

كان لهذه المسرحية شأن كبير لدى الماغوط، ولدى نقاد المسرح الذين اختلفت آرائهم حولها، ويقول عنها شاعرنا في حوار تلفزيوني: بالنسبة لـ«العصفور الأحدب» فقد كتبتها عندما كنت ملاحقا من كل أجهزة الامن، كالعادة، وكان هناك غرفة نصية، عندما أقف يطرق رأسي بالسقف، فكنت دائما منحنيا وأنظر من زاوية على «مطعم أبو كمال»، حيث كان كل قادة الثورة يتناولون طعامهم فيه، وأنا أقول لهم: «بورجيكن». ثم يتابع:

لن أضع رأسي حيث يضعه الآخرون

مثل الشهيد «عدنان المالكي»

في أرقى شوارع دمشق

بقبعة وسيف

بيدي

ونياشين على صدري

حتى أعرف من صرعه

في ريعان شبابه

وقلَب المنطقة عاليها سافلها

وجعلها تتدحرج بكل طاقاتها

ومواردها

وأحزابها ومثقفيها ومطربيها

صعودا وهبوطا

يمينا ويسارا

من جبل إلى هضبة

إلى سفح إلى نفق

إلى كامب ديفيد

إلى أوسلو

إلى صبرا وشاتيلا

إلى قانا

إلى مدريد

إلى ابن لادن

إلى علي الكيماوي

إلى علي الديك

ورسم خريطة جديدة

لنا وللعالم أجمع

لن نكون... أكثر من جدار لتعليقها

أو... بعوضة على إطارها

ويتابع في حديثه: كل مشاكلنا وتشردنا وجوعنا لم تشفع، وسمونا خونة. في الجيش لم يسلمونا سلاحا من وراء مقتل «عدنان المالكي».

المهرج

يتابع الماغوط نتاجه المسرحي في مسرحية المهرج، التي مثلت على المسرح عام 1960، ولكنها طبعت سنة 1998 من قبل دار المدى في دمشق.

تعالج مسرحية المهرج، من وجهة نظر الكاتب والناقد خالص مسور، موضوعاً يتكرر الحديث عنه كثيراً في حياة الشعوب العربية هذه الأيام، ألا وهي قضية الاستبداد وضياع فلسطين وأجزاء من الأرض العربية وبيعها للأعداء بأبخس الأثمان والأسعار. وتتألف المسرحية من ثلاثة فصول، حيث جاء العنوان (المهرج) مناسباً لجزء من موضوع المسرحية وليس كلها، إذ يمثل المهرج البطل الثاني للمسرحية، هذه الشخصية التي تثير دينامية الحدث ومحاربة الفساد والمفسدين في الأرض واستعادة الأراضي العربية المغتصبة، والدعوة إلى التغيير والبناء والتجديد والتطوير؛ فنرى المهرج يقف يناصر بطل المسرحية الأساسي (صقر قريش)، وهو الشخصية التاريخية التي استدعاها الماغوط من أعماق التاريخ العربي ليكون بطلا ًلمسرحيته، وصقر قريش هو عبدالرحمن الداخل، والذي تصفه المصادر العربية بالحنكة والشجاعة والإقدام، وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عام 755م، وكانت دولة قوية راسخة الجذور مزدهرة الأركان والركائز. ومن أهم الاقتباسات من المسرحية والشخصيات البارزة فيها وما قالته فيها:

المسؤول (العربي): إلى الجحيم، لن يذهب صقر قريش رخيصاً، ثلاثون ألف طن كلمة أخيرة.

المسؤول العربي (للمسؤول الإسباني): مبروك. لقد تمت صفقة بيع الصقر.

المدير: .... ليس كل من ادعى الوطنية هو وطني، معظم الذين نقبض عليهم على الحدود يتظاهرون بالوطنية.

صقر قريش: ..... جئت أسألكم كيف أضعتم فلسطين والأندلس وإسكندرون؟

الممثل الثاني: ولابد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر(تصفيق).

المهرج: ..... لو قدر لك أن تخرج حراً من هنا، وهذا لن يحدث أبداً، وترى خلف الجدار من خوف وجوع ولامبالاة، وما يتراكب في خنادق الحرب من الغبار وبول المارة.....

صقر قريش: فإلى السلاح أيها العرب.

صقر قريش: ...... قد يتزعزع برج بابل من أساسه، وتنهار جبال الكون من جذورها، ولكن ثقتي بهذه الأمة لن تتزعزع، وإيماني بهؤلاء الأحفاد لن ينهار.

وكذلك في قوله (صقر): والعربي أشجع إنسان في التاريخ.

اقتبس عن هذه المسرحية عدة نصوص ربما بلغت العشرات منها وتمت تأديتها على مسارح كثيرة عربيا، ومن العروض المسرحية المقتبسة عن نص «المهرج» ومقالات من كتاب «سأخون وطني» تم عرض مسرحية «السيرك الأوسط» عام 2018 في سورية، على مسرح راميتا، وهي من بطولة كل من الفنانين «محمد خير الجراح وأريج خضور وكفاح الخوص وليث المفتي وغيرهم». أما الإخراج فكان من نصيب المخرج غزوان قهوجي.

ويعتمد أسلوب تقديم المسرحية على إسقاطات تاريخية لأحداث يشهدها العالم العربي.

ونذكر أنه في بيروت مطلع السبعينيات، قدم يعقوب شدراوي نص الشاعر السوري الكبير، على خشبة «مسرح بعلبك»، ثم «مسرح أورلي» من بطولة أنطوان كرباج... وشاب كان مبتدئاً آنذاك في عالم التمثيل اسمه أحمد الزين، وعلى خشبة «مسرح غلبنكيان» في الجامعة اللبنانية-الأميركية، انبعث بعد 35 عاماً مع لينا أبيض التي أدارت مجموعة من طلابها في هذه المسرحية التي «لا تشيخ»، بما أن الأوضاع السياسية العربية لم تتغير بل يزداد تدهورها.

يذكر أنّ المسرحي الكبير يعقوب الشدراوي كان قد بذل جهداً لإقناع الماغوط بعد إنجازه النصّ، بتطعيمه ببعض العامية لضرورات الاحتفال، ولبننت لينا أيضاً بعض «القفشات» لتعطي العرض بُعده الشعبي. وبأي حال لم يكن النص ذاته بحاجة إلى تغيير كبير. ومع مرور السنوات، ندرك مدى قدرة «المهرج» على التطور والتأقلم- وفقا لصحيفة الأخبار اللبنانية.

الجمهور الكويتي

أما خليجيا فكانت الكويت على موعد مع عرض لمسرحية «المهرج» عام 1981، ويعرف الجمهور الكويتي الذي تابع هذا العمل مقدار النجاح الذي حققته المسرحية أثناء عرضها هناك، والتي أعدها: عبد الرحمن الضويحي، وألف أغانيها: ماجد السلطان، وأخرجها: أحمد مساعد، أما الممثلون فكان هناك نخبة من نجوم الكويت: جاسم النبهان، وإبراهيم الصلال، وأحمد الصالح، وجاسم الصالح، وإبراهيم الحربي، وسعد العنزي، وحسين نصير، وعبدالرزاق خلف، وعبدالله سفيان، ومحمد الفهد، ورضا علي حسين وغيرهم.

وفي حوار خاص لـ«الجريدة» بتاريخ 24 يوليو سنة 2014، تحدث النجم المسرحي الأول في الخليج العربي جاسم النبهان عن التجربة المسرحية الكويتية والانفتاح على الدول العربية قائلا: لقد أخذنا نصوصا عربية عديدة لم تقدم في تلك البلدان، مثل «رأس الملوك» للأديب السوري سعد الله ونوس سنة 1975، و»المهرج» للشاعر محمد الماغوط، مضيفا: وعمل في الكويت فنانون مسرحيون عرب مثل: الطيب الصديق والمنصف السويسي وفنانون من العراق والشام.

ومما ورد في كتاب الأعمال الكاملة للماغوط عن المسرحية، نأخذ من مقدمة الفصل الأول: صباح شتائي مبكر في حي شعبي قديم. يتناهى من بعيد صياح ديكة وصرير عجلات تقترب، مع قرع طبل وصناجات رقص، وكل الضجة التي تسبق فرقة مسرحية متجولة تضم شرذمة من أدعياء الفن حتى «خلعوه»، وهم في سبيل جمع المال لا يتورعون عن تشويه أرقى النصوص المسرحية ومسخ أبرز الشخصيات التاريخية، وكل ما من شأنه تملق الجمهور وتلبية رغباته الأنيقة المرتجلة. ويدير الفرقة قارع طبل نصف أمي يستخدم في تقديم البرامج ميكروفونا يتدلى منه شريط كهربائي مقطوع، كتأكيد غير مباشر على عدم ارتباط الفرقة بأية غاية سوى إضحاك الجمهور.

مقهى أبوشفيق... الملاذ ومنبع المسرحيات

أعطى صاحب مقولة «دمشق مدينة تحبها ولا تحبك» لدمشق صدره أربعين عاماً، ولم يجرؤ على إعطائها ظهره ثانية واحدة، وقد سكنته، فلا يعرف أن يبتعد عنها، فعاد من بيروت إليها، واختار الأرصفة والمقاهي والفنادق، وبيوت الأصدقاء أمكنة للتواجد فيها، حتى يأخذ مكانه الطبيعي في عالم الأدب، بعد أن نضجت تجربته وفلسفته الحياتية، واكتوى بأسيد الكلمة الواعية، والأهم أنها سترد توازنه النفسي، وفي دمشق أزاح الخوف من أغوار أعماقه، واختار مكاناً لا يجلس فيه الشعراء والمثقفون، ولا الأثرياء ومحدثو النعمة، بل الناس الذين يحكون، على دخان أراجيلهم وصوت النرد على الطاولة، عن همومهم ومشاكلهم العالقة على جلودهم منذ ولادتهم، هذا المكان هو مقهى «أبو شفيق» المتكئ على نهر بردى في الربوة.

كان هذا المقهى هو الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الماغوط ليقيم علاقته السرية والمشبوهة مع نهر بردى ومع السوريين. كان قدومه إليه واجباً يومياً لا يجرؤ على التقاعس عن ممارسته: الاستيقاظ فجراً، ثم المشي على القدمين لمسافة خمسة كيلومترات للوصول إليه، إلى طاولته الثابتة التي يجرى بردى تحتها، وإلى صحفه، وأوراقه الكثيرة والباذخة، وقلمه القاطع، ليكتب مسرحياته وأفلامه وشعره.

شادي عباس

الماغوط كتب مسرحية «العصفور الأحدب» بداية الستينيات كصورة للحالة السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمع العربي وقتها

«العصفور الأحدب» كتبها الماغوط عندما كان ملاحقاً من أجهزة الأمن مختبئاً في غرفة ضيقة تطل بنافذتها على مطعم أبوكمال الدمشقي

«المهرج» مسرحية من 3 فصول تعالج قضية الاستبداد وضياع فلسطين وأجزاء من الأرض العربية

مسرحيات عدة اقتبست عن نص «المهرج» منذ السبعينيات في لبنان حتى أواخر العقد الماضي في سورية مروراً بالكويت سنة 1981
back to top