في ظل الدستور: استقلال القضاء مظهر من مظاهر حضارة الأمم

نشر في 14-03-2021
آخر تحديث 14-03-2021 | 00:09
 المستشار شفيق إمام وزراء العدل في حمايتهم لاستقلال القضاء والذود عن حصنه وملاذه الأمين، كحراس لسيادة الدولة وتطبيق قوانينها وصون دستورها، ومنظومة حقوق الإنسان من عدل ومساواة وحرية، ومنع التدخل في سير العدالة، إنما يدافعون عن حضارة أممهم.

وقد كان استقلال القضاء في الكويت أسبق من استقلالها كدولة ذات سيادة، وأسبق من دستورها الذي كفلت نصوصه هذا الاستقلال، لأن القضاء في الكويت، اقتدى وسار مسيرة القضاء في صدر الإسلام، عندما ولّى الأمير صباح الأول أول حاكم للكويت الشيخ محمد بن عبدالرحمن العدساني ولاية القضاء، بعد أن أخذ عليه عهدا بأن يحكم بشرع الله، وهو العهد الذي أخذه الناس على الشيخ، عندما ولوه أمرهم في خيمة القرين التي نزحت اليها القبائل والجماعات من مختلف الأعراق والأجناس من شبه الجزيرة العربية والعراق وفارس، وكانوا يديرون أمورهم بأنفسهم على قدم المساواة.

القضاء في الإسلام

ولعل ما حير الباحثين والمستشرقين، استقلال القضاء في صدر الإسلام، في قوم لم يكن لهم نصيب كبير من الحضارة وقت نزول القرآن، ولكن بعضهم لم ينتبه الى حقيقة هامة وهي أن العقيدة الدينية القوية التي ملأت قلوب المسلمين في صدر الإسلام، وقد كان الرسول يقضي بينهم بالحق والعدل، فكان قدوة ومثلا يحتذى لكل قضاة هذا العصر، هي التي أرست استقلال القضاء ليحكم بين الناس بالعدل، كما أمر المولى عز وجل، وإقامة العدل هي جوهر الإسلام ومن صفات الإمام العادل، وما وصفته به رسالة الحسن البصري الى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه "صلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف كالأب الحفي على أولاده، والأم الشفيقة البرة الرحيمة بأولادها، كالقلب بين الجوانح، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده".

ومن هنا كان خطاب سيدنا عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري، بعد أن ولاه قاضيا على الكوفة "إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة.. آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف في عدلك، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر على الخصومة، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر".

وفي القضاء في صدر الإسلام قصص كثيرة لقامات من القضاة، منهم قاضي الكوفة شريك بن عبدالله، عندما نظر في شكوى امرأة ضد الأمير موسى بن عيسى ابن عم الخليفة أمير المؤمنين، لعدوانه على حائط لها، فأمر القاضي صاحب الشرطة باستدعاء الأمير إلى مجلس القضاء، ولمّا ذهب رئيس الشرطة إلى الأمير يبلغه أمر مثوله أمام القاضي، كلفه الأمير بأن يبلغ القاضي رسالة يقول فيها للقاضي: "يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوى لم تصح، أعديتهــا عليّ"، فذهب رئيس الشرطة إلى القاضي يبلغه الرسالة، فأمـر القـاضي بحبس رئيـس الشرطة، لعدم إحضاره الأمير، ولما بلغ ذلك الأمير، أرسل حاجبه إلى القاضي يطلب منه إطلاق سراح رئيس الشرطة، مُصرّاً على عدم حضور مجلس القضاء، فأمر القاضي بحبس حاجب الأمير، وكلما أرسل الأمير وسيطاً في الأمر قرر القاضي حبسه، قائلاً لهم: "حتى لا تعودوا إلي برسـالة ظالم"، فما كان من الأمير إلا أن ذهب إلى السجن وفتح بابه وأخرجهم جميعاً منه.

فلما علم القاضي بذلك قال: ما طلبنا هذا الأمر (يعني القضاء) ولكن أُكرهنا عليه وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذا تقلدناه، وقرر الذهاب إلى الخليفة مستعفيا، فلما علم الأمير، خشي غضبة ابن عمه الخليفة فسارع إلى القاضي مناشداً إياه ألا يفعل، فأصر القاضي على حضوره مجلس القضاء، بعد أن يعيدهم جميعاً إلى السجن، وامتثل الأمير لأمر القاضي، وحضر مجلس القضاء، جنباً إلى جنب مع المرأة الشاكية، التى قال لها القاضي: هذا خصمك فاشرحي دعواك عليه، وكلما كانت تنتهى من كلامها، كان القاضي يسألها هل هناك شيء آخر تريدين إضافتـه.

ولما فرغ القاضي من سماع الدعوى وسماع الأمير والشهود فصل فيها لصالح المرأة وفض مجلس القضاء، ودعا الأمير ليجلس مكانه.

ولهذه القصة دلالات كثيرة، وهي:

الأولى: أن حق التقاضي، مكفول للناس كافة، وأنه أمام منصة القضاء يتساوى الأمير وامرأة من أحاد الناس.

الثانية: خطورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي، فالقضاة هم ورثة الأنبياء والرسل، يؤرقهم أن يناموا على ضيم ولهذا قال قاضي الكوفة وقد عزم على ترك ولاية القضاة "نحن مكرهون على هذا الأمر".

الثالثـة: أن هيبة القضاء من هيبة الدولة، وفي هذا السياق يقول القاضي شريك "وضمنوا لنا الإعزاز فيه إذا تقلدناه".

الرابعة: استقلال القاضي عن سلطة الحكم، وأنه لا تأثير لهذه السلطة عليه، فالقاضي يأمر بحبس رئيس الشرطة، ويرفض الرسالة التي بعث بها الأمير إليه.

والجدير بالذكر أن استقلال القضاء في الكويت، كان أسبق من استقلال دولة الكويت ومن حضارتها، بسبب النشأة الإنسانية الأولى للمجتمع الكويتي في خيمة القرين التي جمعت القبائل والجماعات التي نزحت من شبه الجزيرة العربية والعراق وفارس لتقيم مجتمعا في واحة السلام في هذه الخيمة بعيدا عن الاضطرابات التي عمت الجهات التي نزحت منها، فكانوا على اختلاف أجناسهم وأعراقهم يديرون أمورهم بأنفسهم على قدم المساواة إلى أن ولوا أول حاكم عليهم وهو الشيخ صباح الأول، فولى بدوره الشيخ العدساني على أن يحكم بشرع الله ليأخذ عليه عهدا بذلك كالذي قطعه على نفسه للناس كافة، فسار وسار من يخلفه على النهج ذاته الذي عرف به القضاء في الإسلام من استقلال وعدل وحيدة وتجرد.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام

back to top