الأوبئة و«الأقليات»!

نشر في 24-02-2021
آخر تحديث 24-02-2021 | 00:08
 خليل علي حيدر من أغرب الظواهر والممارسات التي رافقت انتشار وباء الطاعون في أوروبا أو «الموت الأسود» جلد الناس أو تسويطهم أنفسهم، وكان السائطون أنفسهم فريقا من المتعبدين يمشون حفاة الأقدام عراة الظهور تعذيبا لأنفسهم، وهم يعتقدون أنهم إذا نذروا أنفسهم في حماس وغيرةٍ لهذا التعذيب هدّأوا بذلك من «الغضب الإلهي» عليهم وتراجع بذلك زحف الوباء!

وشهدت البلاد الواطئة- هولندا الحالية- أول ظهور لهم إبان الموت الأسود، وقد أطلق على إحدى جماعاتهم اسم «إخوة الصليب» لأنهم كانوا يحملون صلبانا على قبعاتهم.

(تاريخ العالم، جـ5 ص 549).

ظن الكثيرون أن الوباء ينتقل عبر المسام الجلدية، إذ كان كُتّاب العصور الوسطى يرون أن مسام الجسم هي الطريق الرئيس لدخول سموم الطاعون، وكان العلاج المقترح أخذ خلطة أدوية تدعى «معجون العنبر»، وهو معجون مكون من خليط من العقاقير العطرية مكون من «الراتنج» و«الكهرمان»، وقد ظل استعمال هذه «الكرة العطرية» إلى القرن التاسع عشر! وكانت الأدبيات الطبية التي جاءت عقب انتشار الوباء عام 1348 وتتضمن معلومات عن علاج المصابين، تنصح بالاعتدال في الأكل والشرب والنوم، وتحبذ الاستحمام الذي يفتح المسام، وقواعد دقيقة لتطهير الهواء.

وكان الشعب قد غمره الذعر من كثرة عدد الوفيات الفادحة، فكان ينتقم بالإمساك بنفر من البائسين أو بطوائف معينة برمتها كما سنرى، ويتهمهم بأنهم يحملون عقاقير تنشر الطاعون، وقد اضطر الكثيرون إلى الاعتراف بالجرم تحت التعذيب، حيث يتم قتلهم بعد ذلك، «وكان اليهود على الأخص هم ضحايا هذه النوبات من الذعر العام».

ودعا كثير من الكُتّاب إلى ضرورة شيوع روح المرح لمقاومة عدوى الطاعون، فكانت تعقد في ألمانيا حلبات عامة ليلهو الشعب وسرعان ما ظهر «هوس الرقص» في هذه البلاد، وانتشر انتشارا عجيباً حيث كانت جموع من الرجال والنساء يحتشدون في حلبة واحدة يرقصون في جموح، ويصرخون والزبد يخرج من أفواههم، وكان كثيرون منهم تظهر عليهم لوثة تؤدي بهم إلى الخوف من اللون الأحمر، وعندما فشا الطاعون في باريس عام 1533 أصدر البرلمان قرارات وتعليمات لرجال الشرطة لم تزل باقية منها الآن عدة صور، فكانت التعليمات تطالب كل المقيمين في المنازل التي ظهرت فيها حالات الطاعون أن يضعوا صليبا من الخشب في النافذة، وآخر على الباب الخارجي حتى يمتنع الناس جميعا عن دخول المنزل. كما أوجبت التعليمات على كل من أصيب بهذا المرض وعلى جميع أهل المنازل التي كان بها مصابون بالطاعون أن يمسكوا بأيديهم عصا بيضاء، وكان المجلس يحرم على جميع الجراحين والحلاقين «أن يلقوا في نهر السين، وفي جزئه الذي يخترق باريس، بدم المرضى المصابين بأي مرض كان».

كانت معاداة السامية واليهود، كما أشرنا، بعض الظواهر التي رافقت حوادث وباء الموت الأسود، ويقول الكاتب «ستيفن ميهم» في مقال له إنه «نظراً لتمكن بعض المجتمعات الأوروبية اليهودية- أي بعض أقلياتها- من الفرار في بادئ الأمر من قبضة الوباء، اتهمهم بعض المسيحيين بأنهم «العقل المدبر» وراء تفشي الوباء، وزعم هؤلاء المسيحيون أن اليهود سمموا الآبار وأنهم في الواقع، أي اليهود، يسعون لمحو المسيحية بأكملها، وذلك عبر السموم التي يبتكرونها من مزج الضفادع والعناكب داخل الزيت والجبن!

وهكذا تعرضت تجمعات كاملة من اليهود في ألمانيا وغيرها للإبادة، وتم حرق مجموعات أحياء بشكل جماعي، كما كتب أحد المؤرخين أن نساءً وأطفالهن الصغار أُلقوا بقسوة ودون إنسانية في النار، ويذكرنا هذا كله بالتهم التي راجت بعد حادثة تفجيرات سبتمبر 2001 في نيويورك، وانهيار مباني البرجين بأن اليهود ربما كانوا وراء العملية، وأنهم لم يكونوا في المباني لحظة انهيارها!

وتبادلت في القرون اللاحقة الشعوب الأوروبية تهمة انتشار بعض الأمراض وبخاصة الجنسية منها، فألقى سكان كل منطقة باللوم على أجانب آخرين، واعتبروهم مسؤولين عن التقرحات والالتهابات والجنون الذي يبتلى به المصاب نهاية الأمر، فالألمان كانوا يسمون الزهري «المرض الفرنسي» والفرنسيون يسمونه «المرض الإيطالي» والبولنديون يسمونه «المرض الروسي» وهكذا، وعندما اشتدت هجرة الأيرلنديين الى الولايات المتحدة مطلع القرن التاسع عشر تزامن وصولهم مع تفشي الكوليرا في عدد من المدن الأميركية.

ويقول الكاتب إنه «من وجهة نظر النخبة البروتستانتية التي كانت تمقت الكاثوليكية مذهب معظم الأيرلنديين بدا من الطبيعي افتراض أن الوافدين الجدد الغرباء هم من حملوا معهم المرض الذي أصبح يعرف باسم «المرض الأيرلندي» وأطلق على السل «المرض اليهودي» أو مرض الخيّاط بالنظر إلى أن كثيرا من اليهود امتهنوا هذه المهنة أي، الخياطة، وفي عام 1916 حدثت موجة تفشٍّ واسعة لمرض شلل الأطفال في نيويورك دفعت الأطباء لإلقاء اللوم على مجموعة مختلفة من العوامل حتى استقروا نهاية الأمر على المهاجرين الإيطاليين، وعليه حرص أبناء نيويورك بشدة على تجنب الاتصال بالإيطاليين بأي صورة من الصور لاعتقادهم أنهم يحملون المرض».

(الشرق الأوسط 18/ 2/ 2020).

ويظن البعض أن كورونا المرض والوباء الذي أوقف الكرة الأرضية على محورها ووضع سكانها وبلدانها على «كف عفريت» مرض جديد، وتقول «د. روضة كريز» في مقال لها قبل أشهر إن فيروس كورونا عرف أول مرة في سنة 1937... قبل نحو ثمانين سنة!

«وقد ظهر آنذاك كمرض معد أصاب الطيور بالتهابات في الشعب الهوائية التنفسية، ثم تطور الفيروس ليصيب الثدييات وتصل بها الى حالات مميتة»، وتضيف الكاتبة «أن أول حالة بشرية مصابة بفيروس كورونا ظهرت في ستينيات القرن العشرين».

(الجريدة 18/ 3/ 2020).

فهل كان خلف ظهور الفيروس مؤامرة ما أو تجارب مختبرات مثلا آنذاك؟ هذا متروك للباحثين في التهم المتبادلة اليوم بين الصين ودول أخرى.

وتقول د.كريز في المقال نفسه إن العلماء يعددون سبعة أنواع تحمل شراسة فيروس MERS وSARS قبلهم «وهذه الفيروسات تسببت في موت الكثيرين من كبار السن بسبب الالتهابات الرئوية والمجاري التنفسية، وبينما الأبحاث دائرة في المخابر الطبية لإيجاد لقاحات فيروسية- لتلك الفيروسات- ظهر كورونا ثانية في أواخر 2019 (Covid19) وانتشر خبر أنه مفتعل مخبريا أو نتيجة أكل الخفافيش كما في الفيلم الأميركي Contagion وغيرها من الآراء التي لم تثبت علميا، ربما لأن انتشاره هذه المرة بدأ من الصين كما في الفيلم، ولكن حقيقة هذا كله لم تقر بصحته منظمة الصحة العالمية».

وبينت د.كريز أن «كورونا»- التي نعاني منها منذ عام 2019 أو 2020- أطول عمراً بالالتصاق على الأسطح، وأقصر عمراً كرذاذ في الهواء، إلا عن قُرب. وتفاءلت د.كريز أن الفيروس يموت مع ارتفاع درجات الحرارة، وأضافت «الحمد لله الجو في الكويت يتعقم بشكل رباني»، غير أن حرارة جو الكويت صيف عام 2020 لم تقض للأسف على الفيروس، بل تحدى الفيروس كذلك حرارة الشمس العمودية الاستوائية في أميركا الجنوبية وآسيا وكل مكان.

ورصدت الصحف مازحة في الوقت نفسه «أماكن لن يزورها الفيروس!»، فهنالك مثلا محطة فضائية دولية تحلق على ارتفاع 400 كلم فوق الأرض بسرعة 27000 كلم في الساعة، قالت صحيفة لوفيغارو، إننا بالنسبة لروادها الروس والأميركان «كالميكروبات غير مرئيين، إن أطلوا علينا من سمائهم البعيدة»، قبل عودتهم في أبريل 2020. وفي مكان آخر، أفادت الصحيفة بأن «هناك 110 غواصات على عمق 300 متر من المفترض أنها سترد بشكل دائم على جميع الهجمات، ولن يصلها الفيروس، وقالت لوفيغارو إن فرنسا «تُبقي واحدة من أربع غواصات تعمل بالطاقة النووية وتتناوب على الخدمة في قاع المحيط وغير قابلة للكشف وذلك في سياق الردع النووي». وتضيف الصحيفة «إن طاقم هذه السفن معزول عن العالم، ويمكن لأعضائه تلقي رسالة- يراقبها القبطان- مكونة من أربعين كلمة فقط من عائلاتهم في الأسبوع ولا تصلهم أي أخبار مقلقلة أو سيئة حتى لا تضر بالروح المعنوية لديهم وتستمر مهمتهم في المتوسط مدة 70 يوما».

ومن المناطق المعزولة فيما تقول الجريدة الفرنسية القطبية الجنوبية «انتاركتيكا»، وكذلك بعض المجموعات البشرية المعزولة في الجزر النائية: «ففي جزر آدمان في المحيط الهندي يرفض الحراس الذين يقدر عددهم بنحو 150 أي تعامل مع الآخر، ففي نوفمبر 2018، هبط منصّر أميركي متهور بشكل غير قانوني على شاطئهم فأردوه على الفور بسهم. وتعيش قبائل أخرى في الجبال التي لا يمكن الوصول إليها في غينيا الجديدة».

(القبس، 23/ 3/ 2020).

في المقابل كان اكتساح وباء كورونا للولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا من أكثر صفحات الداء الوبيل قتامة... وسنتأمل بعض ما جرى في إيطاليا!

خليل علي حيدر

back to top