اغتيال «لقمان» أم الإجهاز على لبنان؟

نشر في 17-02-2021
آخر تحديث 17-02-2021 | 00:08
 خليل علي حيدر فجّر اغتيال الناشط والمفكر السياسي اللبناني "لقمان محسن سليم" من جديد خزان اليأس والأحزان والصبر، فكلما وجهت أصابع الاتهام في تصفية أو اغتيال إلى "حزب الله"، يعرف الجميع أنها المتاهة القانونية الأمنية السياسية نفسها، وأن بانتظار أهله وأنصاره ملفا آخر للحفظ!

يتساءل اللبنانيون وسط قلق طاغ مع غيرهم: ما العمل مع هذا الحزب، والتأييد والدعم الإيراني له مهما كانت نتيجة التحقيق؟ وكيف يمكن للحياة الطبيعية أن تستمر للناس وسط الفساد وخرائب الوضع اللبناني، والانهيار المالي والسياسي والاجتماعي والأمني بوجود دولة فوق الدولة؟ فالكل يشعر أن الدولة محاصرة مخترقة من هذا الحزب القوي المتسلط على مقدرات البلاد، والدولة وسلطاتها الثلاث والأربع بلا مخالب أو أنياب، والفساد متغلغل، ولولا رقي الشعب اللبناني وتراثه المتمدن ودعم محبيه لضاع كل شيء!

منذ عشرات السنين وإرادة الدولة اللبنانية مكبلة والناس في خوف وصمت، تقول بعض المراجع إن ظهور "حزب الله" أو تكوينه كان عام 1982 إثر تحالف ثلاث قوى شيعية: الأولى "حزب الدعوة" العراقي الذي أوجده السيد محمد باقر الصدر أبرز مفكري التشيع السياسي، والثانية الجناح المنشق من "حركة أمل" الشيعية في لبنان، والثالثة مجموعات لبنانية يسارية وثورية متعاطفة مع النهج المنشود، وبخاصة بعد الإطاحة بنظام الشاه في إيران وتأسيس الحرس الثوري و"الباسداران"... إلخ.

يعترف قائد الحزب السيد حسن نصرالله أمام كاميرات التلفاز علنا وبصراحة أن الحزب يعتمد كليا على تمويل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالتالي فإن قدرات الحزب المادية والتسليحية مدعومة من إيران نقودا ووقودا، وبالتالي فالحزب في لبنان يعبر بالدرجة الأولى عن السياسة والأهداف الإيرانية الخارجية في المنطقة.

ماذا عن علاقة الحزب بالطوائف الشيعية في العالم العربي؟ يعرف الجميع حجم الضرر الفادح الذي ألحقته السياسة الإيرانية الخليجية والعربية والدولية بمصالح الشيعة في كل مكان وإثارة الشكوك في موقفهم من مختلف القضايا السياسية، ويعرف المتابعون والمراقبون تهديد الحزب الدائم لمعارضيه وناقديه، وخصوصا أن الجمهورية الإسلامية نفسها لم تتردد منذ قيامها سنة 1979 عن تصفية معارضيها في الخارج والداخل، فقضت بذلك على أي منافس أو ناقد أو معارض حتى في أوساط رجال الدين، حيث أخرست أصوات كل مجتهد منهم أو "مرجع تقليد" يعارض سياساتها، ومن الواضح فيما يبدو أن من يعارض السياسة الإيرانية الخارجية يعد خصما كذلك لحزب الله ومن يعارض حزب الله وينتقد سلوكه بمثابة خصم لدود للجمهورية الإسلامية نفسها.

من جانب آخر لا تعطي إيران أي أولوية لمصالح وآراء الشيعة داخل أوطانهم، ومن الواضح كذلك أو المرجح أن أولوية اهتمام إيران بمصالح الشيعة تعطى أساسا لأي جماعة مؤيدة لمبدأ ولاية الفقيه، ومناصرة لسياسات إيران بمصادقة من تصادق ومعاداة من تعادي، بل ثمة جو من التقديس لشخصية مرشد الثورة، حيث يروج أنصاره في الوسط القيادي بإيران أن فضيلة المرشد يستلهم هذه السياسات المعصومة من الخطأ من عالم الغيب ومن المهدي المنتظر، كما يدعي غلاة المتشددين من مؤيديه داخل النخبة الحاكمة فمن يجرؤ على النقد والاعتراض؟

ولا نعرف إن كان "حزب الله" يروج كذلك لهذه النظرة التقديسية والمعصومة عن الخطأ نفسها في قرارات زعيمه السيد حسن نصرالله والذي اعترف بتعجله وعدم عصمته في بعض قراراته العسكرية، "وقال إنه لو توقع رد الفعل الإسرائيلي لما أمر باختطاف الجنديين الإسرائيليين، وعندما قيل لناطق بلسان حزب الله إن الموسم السياحي دُمِّر أجاب بأن السياحة "حمص ودعارة" لا أكثر".

(ثلاث مدن مشرقية، جـ2، الكويت - وزارة الإعلام، عالم المعرفة 455، ص272، عن صحيفة إنترناشيونال هيرالد تربيون الأميركية 30/ 5/ 2007).

لقد انطلق حزب الله من مناطق الشيعة جنوبي لبنان وبيروت، ولكن لخدمة أهداف وسياسيات الحرس الثوري الإيراني التوسعية المدمرة، لا تطلعات شيعة لبنان ومستضعفيه الآخرين، الذين تتركز مطالبهم في تحسين الأوضاع المعيشية والتي لا تستدعي تأسيس حزب مسلح كحزب الله بالمدرعات والدبابات والصواريخ وأجهزة الاستخبارات وخطط الاغتيال وغير ذلك، ويتساءل الكثير من الشيعة في لبنان وغيره: لو كان لتحسن أحوال الشيعة ورفاهيتهم في لبنان أو سورية وحتى اليمن أولوية في حسابات حزب الله لتبنى الحزب بمنتهى السهولة والنجاح وبدعم داخلي وعربي وخليجي سياسة تنموية وشجع السياحة التي كانت تدخل عام 2016 على لبنان نحو 7 مليارات دولار، وشجع التجارة والاستثمار وأفسح المجال لافتتاح المصانع والجامعات وأفرع الشركات الطبية والكيميائية التي ستقدم أفضل الوظائف والرواتب لشباب لبنان رجالا ونساء شيعة وسنة ومسيحيين بدلا من هذا البؤس والشقاء الذي يخنقهم بلا أمل في الخلاص.

ولحسن الحظ تحدث السيد الأمين الناطق باسم حزب الله يومذاك عام 1982 عن علاقة الحزب بإيران وثورتها وهو ما جلب لجنوب لبنان وشيعته ولكل تلك المنطقة الكوارث على مدى ثلاثة أو أربعة عقود الى اليوم.

قال الأمين عن العلاقة بالجمهورية الإيرانية الثورية عام 1982 في مجلة "الشراع": "نحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا جزءا منفصلا عن الثورة الإيرانية، ونسأل الله تعالى أن نكون كذلك جزءا من الجيش الذي يريد الإمام (يقصد الخميني) تشكيله من أجل تحرير القدس ونأتمر بأوامره". (ص150-151 الحركات الإسلامية في لبنان).

بمثل هذا الحديث الإسلامي الجهادي وبهذه المنطلقات الكارثية بدأ جر لبنان منذ أربعين سنة الى الجحيم الإيراني السوري العراقي اليمني... إلخ، وبالكاد نجت مصر من هذا المصير تحت عجلات مدحلة الأحزاب الإسلامية عام 2013.

استغل حزب الله كالعديد من الأحزاب العربية والإسلامية القضية الفلسطينية ومشاكلها وتعقيداتها ووظف كل ذلك بذكاء وإتقان في خدمة صعوده المتواصل ونيل الشرعية ومحاربة منافسيه وإسكات خصومه، غير أن الحزب نال كذلك من الإعلام العربي والكتاب والمثقفين لسنوات طويلة الإشادة والإعجاب، وظل الحزب لفترة مديدة مهبط المديح والتقدير والإشادة بقدرته المعجزة في التصدي لإسرائيل وحل مشاكل لبنان الحدودية ومشاكل الفلسطينيين الوجودية و"إنهاء الذل العربي".

لم يدرس أحد مدى أولوية قضايا كتحرير القدس أو استرداد فلسطين أو جوهر السياسة الإيرانية الإسلامية أو غير ذلك ولم يعبأ الكثير من المحللين بالمشاكل البنيوية في تركيب الحزب وعالمه الداخلي وطبيعة علاقته بإيران، كما لم يهتموا بالطريقة التي كان الحزب يشق بها طريق صعوده وتغلغله وانفراده بالسلطة وابتلاع لبنان تدريجيا وإلغاء الدولة والجيش والكرامة الوطنية والهيبة والهيمنة وكل شيء بحجة التصدي للعدو الإسرائيلي والعدوان الأميركي وغير ذلك.

ولم يعنوا بما يطور الحزب سرا في الخفاء وحتى علناً من أسلحة وتهديدات لاستخدامها ضد الخصوم والمعارضين الذين تم الخلاص من بعضهم بطريقة مروعة، بل لم يعبأ إعلام العرب وكتابهم كذلك بمدى اختناق الحياة السياسية والاجتماعية وشحوب لبنان وهو يودع القرن العشرين كدولة منهوشة مفككة مبهدلة بمعنى الكلمة... إذا لم تكن المرة الأولى!

دفع لبنان وكتابه على الدوام ثمنا غاليا مع صعود كل موجة وتيار في العالم العربي الحديث ومع بروز كل قائد وزعيم قبل أن تقع البلاد بيد حزب الله والجمهورية الإسلامية وأيديولوجية ولاية الفقيه بعد الثورة الإيرانية، وهكذا بدأ التلاعب بمصير الدولة اللبنانية ومقدراتها منذ سنة 1958 على الأقل وخلال السبعينيات وما تلاها الى اليوم 2021! ولو لم تتناوب على لبنان هذه التيارات التي هدمت أركانه ودمرت مصالحه وأفقرت سكانه لكان لبنان بما فيه من قدرات وإمكانات أعظم دول المنطقة وشعبه أسعد شعب، ولكانت إمكاناته السياحية والتجارية والتعليمية والزراعية والصناعية تضاهي دول المجموعة الأوروبية وبدخل فردي لا يقل عن 30 أو 50 ألف دولار، ولا أريد أن أشيد هنا بالقدرات الإدارية والتجارية والعلمية والثقافية التي عرف بها شعبه العريق.

وانظر اليوم إلى سقوط الليرة اللبنانية ودمار الحسابات وتعطل البنوك وانحدار دخل المواطن، وفناء الشريحة المتوسطة وانحدار الخدمات المدنية والتعليمية والصحية، وانتشار الفقر، بعد تحالف الفساد والطائفية والمغامرات العسكرية.

كانت دول المنطقة وقوى الشارع تبحث بيأس عن قوة ما تصارع إسرائيل فوجدت في "حزب الله" القوة الصاروخية والنارية الخارقة التي تتصدى لها، أما مظاهر وحقائق طغيان الحزب ومصادرته للإرادة السياسية اللبنانية والاتهامات الدامغة وتغول الحزب مذهبيا وسياسيا وإعلاميا والضغط على كل صعيد على حرية الرأي والصحافة ومحاصرة حتى رجال الدين المعارضين للحزب من مختلف المذاهب والأديان، فلم يكن هذا كله يعطي أي اهتمام علني في الأوساط المفتونة بقدرات الحزب في الإعلام والثقافة السياسية العربية!

ومن المؤسف حقا أن القانونيين والحقوقيين والأكاديميين في العالم العربي لم يتساءلوا في قليل أو كثير عن مشروعية تجاوز وتجاهل قوانين الدولة اللبنانية ودستورها وتهديدات الحريات من قبل "حزب الله" ولا انتقدوا بقوة وبصوت مسموع أن يكون لحزب الله وهو في النهاية حزب لبناني مرتبط علنا بدولة أجنبية جيش أقوى من جيش الدولة، وقدرات سياسية وأجهزة أمنية لا تخضع لأي محاسبة قانونية واضحة، بل أن يدخل الحزب لبنان كله في حروب مدمرة متى وكيفما شاء الحزب!

ولم يتساءل الكتّاب والساسة بإلحاح عن دلالة هذا التدخل الإيراني السافر في الشأن اللبناني والتلاعب بالتركيبة الطائفية وفي استقرار المجتمع، ولم يتساءل المؤيدون لحزب الله عما كانت ردود فعلهم أو ردة الفعل الإيرانية كيف ستكون لو تجرأت دولة عربية أو أي دولة مجاورة لإيران بتحريك أهل السنة في إيران أو تكوين حزب أو جماعة أو هيئة للسنّة حتى تحت شعارات من قبيل تحرير كشمير أو الدفاع عن الروهينغا أو حتى لتحسين الظروف المعيشية في مناطق أهل السنّة ومنحهم بعثات تعليمية جامعية مثلا دون موافقة إيران، ونسأل كذلك هل دفاع حزب الله وإيران عن غزة وفلسطين والقدس يبرر بالضرورة تجاهل حقوق الشعب اللبناني؟ وهل يمكن أن يرضى الفلسطينيون أن تتم حماية حقوقهم على حساب الآخرين؟ وهل تحسنت حقا أحوال الشيعة والمستضعفين في لبنان؟

سنرى في المقال القادم نماذج من إشادة الساسة والمثقفين العرب والأحزاب بحزب الله!

خليل علي حيدر

back to top