هدى الدّغاري: الشعر هويتي ونافذتي على العالم

شاعرة تونسية تنبجس قصيدتها من حقول بلدتها المزيّنة بأشجار الخوخ

نشر في 24-01-2021
آخر تحديث 24-01-2021 | 00:02
قصائدها حالة إبداعية فريدة، يعيشها ويستمتع بمناخاتها الدافئة كل عاشق للحرف والكلمة، حين تتحدث عن نشأتها تتيقن أنها مولودة تحت نجمة حظ، من فرط روعة ذلك العالم الذي تربت في رحابه ولا تزال ذاكرتها متعلقة به وسط حقول بلدتها المزينة بأشجار العنب والخوخ وحكايات الجدات المفعمة بالخيال والجمال.
وفي حوار أجرته معها "الجريدة" من القاهرة، قالت الشاعرة التونسية هدى الدّغاري، إن الشعر هويتها ونافذتها التي تطل منها على العالم، مؤكدة رغبتها في تطوير النص المرأة الشعري، لتكون ذاتاً فاعلة ومتحررة، لافتة إلى أنها تكتب الشعر بلغة بسيطة كآلة تصوير تقتنص الصور من الحياة... وفيما يلي نص الحوار:

● سنوات النشأة الأولى تترك أثراً في الشاعر ينعكس على إبداعه لاحقاً. حدثينا عن ذلك من واقع تجربتك؟

- أرى نفسي دائماً وﺃنا ﺃنسج قصائدي، مشّاءة. أقطع مسارب معتّمة وأخرى مضيئة بين كهولتي وطفولتي. طفولتي أشبه بصندوق الجدّات السّاحر المليء بالحلوى وصرر البخور وقوارير العطر، ﺃحتمي بها متعثّرة بالذكريات، قد تعترضني قصص الحب البريئة، عرائس القطن، وقد تفاجئني نفسي بمريلة المدرسة وﺃنا أشق حقول العنب قبل الوصول إلى البيت، أشجار السرو العالية، عاملات الفلاحة المحمّلات بقفاف الزّاد.

أتذكر معلّمي وجملته التي قالها لأبي وبقي صداها في صدري إلى اليوم: "ابنتك سيكون لها شأن في عالم الكتابة"... حلم سكنني منذ الطفولة وظللت أرعاه إلى الآن. الطفولة ماء الشعر الذي ندعك به عجين اللغة، فتنفتح أمامنا مناخات دافئة، حكايات الجدات، آمالنا وآلامنا... هشاشتنا.

الطفولة تمنحنا القدرة الدّائمة على الدّهشة وتحسّس العالم على نحو شفّاف. لهذا ﺃعتقد ﺃن الشاعر متى لم تغادره طفولته سيظل يقول العالم بدّهشة وبالتماع لافت، فهي القادرة على حمايتنا من ترهّل الكتابة.

ما زلت إلى اليوم أتذكر شجرة الخرّوب قبالة محطّة الحافلة، تلك الشجرة التي نحفر عليها أسماءنا... إلى حدّ هذه اللحظة ما زلت أقيم في طفولتي، لم أبرح حقول بلدتي المزيّنة بالعنب وأشجار الخوخ ومنها تنبجس قصيدتي.

● تبحِرُ قصائدك باحترافية في عالم العلاقة بين الرجل والمرأة... ما الذي يحمله هذا العالم من خفايا شائقة تجذبك إليها دائماً؟

- لا تبحر قصائدي كلها في بحر هذه العلاقة. ﺃكتب قصائد كثيرة بخصوصية الذكورة وفي غيرها بخصوصية الطبيعة، كأن أكون شجرة ﺃو حباحب مضيئة ﺃو أكون مثلاً روحاً خالصة تنصت إلى العالم بلا جنس محدد، تغيب فيه الذكورة والأنوثة لأقول العالم بشفافية مفرطة.

لم تكن العلاقة بين المرأة والرجل شائقة دائماً في قصائدي، فيّ أيضاً مخالب ومناورات المعتق في العشق.

ﺃعتقد ﺃن رغبتي الحقيقية هي الإسهام في تطوير نص المرأة الشعري من كونها موضوعاً للشعر ﺃو ذاتاً منفعلة داخل القصيدة إلى ذات فاعلة متحرّرة وخالقة لصور جريئة، بعيداً عن سلطة الرجل: حبيب مسيطر بادئ بالحب وحبيبته تحمرّ وجنتيها وتصمت خجلاً، أصبحت صوراً مستهلكة. فلتكن في قصائدها كما في قصائده متأرجحة بين القوّة والضعف.

● في ديوانك "سبابتي ترسل نيراناً خافتة" قصائد جريئة بأسلوب ﺃنيق ومن دون فجاجة كيف تصنعين نصاً بهذا الجمال؟

- صدقاً لا ﺃعرف ﺇن كنت قد نجحت في صنع نص بتلك الجرأة وبذلك الجمال كما قلت، فإن حصل ذلك فهذا قمة مبتغاي. عموماً ﺃعتقد أنه ليس على الشاعر في جميع الأحوال أن يقدم تحليلاً لشعره أو يتحدث عن مكامن الجدة في قصائده، فهذا يعدﹼ استحواذاً على دور الناقد.

النصّ متن جمالي أو مشهديّة تشرّع على تأويلات عدّة، ليس من دور الشاعر الحديث عنها لكن ما يمكن قوله، إنني أقيم في الجسد إقامة كامل، بل ﺃكتب من خلاله من دون مراوغة، بعيداً عن كل ﺃشكال وصاية الإرث الذكوري، ﺇذ لا يمكن ﺃن نتحدث عن حداثة الشعرية العربية تحديداً من دون التحدث عن تعاطينا مع هذا الجسد الذي نتحسس به العالم. فهو مصدر اللذة والشهوة وهو ﺃيضاً مكمن الألم وموضع الجرح، فكيف لا نقوله شعرياً!

لأقول كامرأة مبدعة إننا أمام معاناة حقيقية نتيجة ما تمارسه الفحولة العربية من اللبس المتعمد بين نص الكاتبة المتحرر من المكبوت وذاتها الشاعرة من أجل إخراسها.

إن هذا الوعي التام بهذه الإكراهات التي تواجهها المرأة الخائضة في عوالم الجسد من أجل تحرير صوتها الشعري وكسر شوكة الفحولة الزائفة ومن أجل أيضاً جعل الجسد موضوعاً للتعاطي الشعري والجمالي واستنطاقي له في قصائدي ليس للحديث فقط عن رغباته، وﺇنما استدعيته إلى ممارسة جمالية لما يحققه ذاك الاتصال الجسدي من انبجاس للروح وللمعنى.

● اللغة تقنية الكتابة، والصورة الشعرية، أي هذه العناصر تنشغلين بها أكثر حين تكتبين القصيدة؟

- طبعاً معنية بالاثنين، فاللّغة صانعة الصّور، لاقطة للاعتيادي وللتفاصيل اليومية من أجل تلميعها وتقديمها في مشهديه متحرّكة كأنّما التقطت للتوّ بعدسة كاميرا. هكذا أكتب الشعر بعين لاقطة، وبلغة بسيطة كأنّها آلة تصوير، تقتنص الصور من الحياة وتسكبها في قصيدة بلغة حارّة، دافقة، كأنما تخرج للتّو من حمّامٍ ساخنٍ.

● بما أنك تكتبين قصيدة النثر، هل هي وحدها قادرة على استيعاب ما بداخلك من إبداع أم ربما تخوضين تجربة الكتابة السردية ذات يوم؟

- ﺃنا شاعرة في المقام الأوّل والشعر هوّيتي ونافذتي التي ﺃطل منها على العالم. ﺃنا أؤمن بقوة الشعر وحضوره اللّافت في وجدان الناس رغم اللّغط المحفوف بهذا القول وﺃؤمن أكثر بحضوري الشعري الملتمع وسطوته على المتلقي.

● من يقرأ قصائدك يلمس حالة من الصوفية الممتزجة بالفلسفة وكذا الفن التشكيلي في رسمك مشاهد مدهشة

مثلما الحال في أحدث دواوينك "يا كلّي الناقص يا فداحتي الكاملة"، هل تحرصين على هذه التوليفة ﺃم تخرج القصيدة تلقائية؟

- تأتي القصيدة متى تشاء وكيفما تشاء لا كما نشاء. ﺃمّا كونها مزيجاً من تقاطع المعرفة والفنون فتلك هي قصيدة النثر: نهر تغذّيه نسوغ متنوعة، فلسفية، صوفية، مسرح... وعوالم شتى، ما يجعلها بذاك الزخم وذاك الدفق الهائل الذي يسهم في صنع إيقاعها الداخلي.

● يكتب الشاعر ليندهش المتلقي والفيسبوك وسيلة سريعة لقياس تفاعل الجمهور. هل يتحقق ذلك بالنسبة إليكِ؟

- لا شك ﺃن مواقع التواصل الاجتماعي مثل التلفزيون في فترة ما أو الصحافة المكتوبة أو المذياع.. كلها وسائل انتشار وتعريف بالكاتب أو المطرب أو المسرحي على حدّ السواء. لكن علينا الانتباه إلى ﺃن انتشار الكاتب على الفيسبوك لا يتحقق بكثرة الـ"لاّيكات" المسندة إلى منشوره وإنما بعلوّ نصه ﺃو جدّة ما يكتبه وتميز تجربته.

● ما المشروع الشعري الذي تعكفين عليه الآن؟

- ﺃشتغل على قصائد جديدة مختلفة، في انتظار إصدار جديد.

أحمد الجمَّال

أرغب في تطوير نص المرأة لتكون ذاتاً فاعلة متحررة بعيداً عن سلطة الرجل
back to top