الخليج وثقافة الديمقراطية (9)... «آفة تقديس السلطة»

نشر في 18-01-2021
آخر تحديث 18-01-2021 | 00:09
 د. عبدالحميد الأنصاري تاريخ العرب السياسي هو تاريخ الصراع على السلطة، وطبقاً للمفكر السعودي إبراهيم البليهي فإن (السلطة) في الحياة السياسية العربية والثقافة العربية هي (القيمة المحورية) التي تتفرع عنها بقية القيم، وقبل ألف سنة قال الشهرستاني في "الملل والنحل" إن أول سيف سل في الإسلام كان من أجل السلطة، ولا أدل على القيمة المركزية للسلطة في تاريخنا من أن اثنين من الخلفاء الراشدين قتلا في الصراع على السلطة، وما الفتنة الكبرى وحروب الأصحاب وتداعياتها المريرة إلا صراع على الخلافة ومغانمها، ولكل مسوغه الشرعي، لخصه المفكر المغربي الجابري باقتدار في ثلاثية (العقيدة، القبيلة، الغنيمة).

هذه الآفة لازمت العرب أينما حلوا وارتحلوا، فقد حكموا الأندلس 8 قرون تنازعوا فطردوا، ولم يعرف تاريخنا الثورات الاجتماعية إنما أسرة حاكمة تمحق أخرى، وحتى الثورات العربية هي انقلابات عسكرية لا ثورات حقيقية. وقد تأسست ثقافتنا منذ الجاهلية على (التغالب)، فالصراع على موارد الماء الشحيحة في بيئة صحراوية جعلت العربي يرى الحياة لا تتسع إلا لقبيلته، والجنة لا يدخلها إلا عشيرته، لذلك تفاخر شاعر القبيلة بأنه أول من يرد الماء يشربه صفوا ويتركه للآخرين كدراً، ما ضره لو شرب الآخرون أيضاً صفواً؟! لقد كان انتماء العربي لقبيلته وافتخاره بها محور حياته، لم يتكون لديه انتماء قومي، لم يعرف معنى الأمة إلا بالإسلام الذي شكل الثورة العربية الكبرى، أحلت "الأمة" محل "القبيلة" و"الشريعة" محل "التقاليد" و"الرب" محل "الأوثان" طبقاً لـ"جمال البنا"، لكنه ظل محكوماً بمنطق القوة والغلبة، فشرعنت الثقافة العربية والفقه الإسلامي (التغلب) وجعلته سبباً كافياً للحكم، فالطاعة لمن غلب! حتى قال شاعر العربية الأكبر:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

وجاء فِي المأثور: إنما العاجز من لا يستبد.

وكل الموبقات في سبيل السلطة مبررة: فرش العباسيون البسط وأكلوا على جثث الأمويين، والأمويون، قبل، قطعوا رأس الحسين وطافوا به في الأمصار، وضربوا الكعبة بالمنجنيق، وصلبوا ابن الزبير، واستباحوا المدينة. نمر بهذه الشناعات أحداث عادية لأن العقل العربي أعطب بفعل تقديس السلطة، كان الاستبداد قاعدة والعدل استثناء.

لم تستنكر ثقافتنا (الغزو) بل رأته أمراً طبيعياً لأن الحياة قائمة على التغالب، لذلك شرعن الفقهاء غزو الأمم الأخرى (جهاد الطلب)، فعلاقاتنا كلها قائمة على التسلط: الزوج بزوجته، الأب بأبنائه، المعلم بطلابه، والرئيس بمرؤوسيه.

الإسلام والاستبداد:

في التراث "السلطان ظل الله في الأرض"، لهذا جعل الفقهاء "الخليفة" مصدر كل السلطات، فذلك فهم فقهي له سياقه التاريخي لا يلزمنا اليوم، القرآن نقيض الاستبداد والطغيان، والتوحيد تحرير للإنسان من سلطة كل الأوثان، وطبقاً للمفكر القطري عبدالعزيز الخاطر، الدين الإسلامي بريء من الاستبداد العربي مستشهداً بالكواكبي في (طبائع الاستبداد).

لكن لماذا ظلت ثقافة الاستبداد راسخة الجذور رغم عقود التحديث والتعليم والتثقيف والاستنارة؟

الإجابة ليست سهلة، لكني أتصور أن عندنا مشكلاً معرفياً متجذراً في الثقافة المجتمعية العامة، وإن تعثر رسوخ قيم الديمقراطية ليس مسؤولية النظام السياسي وحده، بل تشاركه جهتان:

الأولى: النخب الثقافية التي تهافتت على موائد الطاغية العربي مديحاً وتملقاً وتزييفاً للوعي العربي.

الثانية: إن البديل السياسي (المعارضات العربية) رديف للنخب الحاكمة التي تعارضها، بل هي (البديل الأسوأ) كون الاستبداد تجذر في المجتمع: سلطة ومعارضة.

المستبدون المحبوبون:

للدكتور الربعي مقالة رائعة عن ظاهرة تعلق مجتمعاتنا بالزعيم المستبد، حتى بعد رحيله، وأنها لا تخص الجماهير وحدها بل النخب العربية التي يتلبسها الزعيم المستبد، حنيناً إلى عصره، هم صانعو الطاغية مقننو الاستبداد.

أخيراً: ليست الثقافة العربية وحدها، ولا العرب وحدهم، من ابتلي بآفة تمجيد السلطة والزعيم، ثقافات عديدة وشعوب في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية منكوبة بها، لكن معظم هؤلاء استطاعوا تجاوز أوضاعهم السابقة ونجحوا في فرض قطيعة مع الموروث الاستبدادي، ونحن لما ننجح بعد.

*كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري

back to top