ملامح التعافي الاقتصادي في الصين

نشر في 31-12-2020
آخر تحديث 31-12-2020 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت الاقتصاد الصيني في طريقه إلى التعافي بعد صدمة «كوفيد 19»، التي بدأت في ربيع عام 2020، حيث انقلب مسار معدلات النمو السلبية في الاستثمار والنشاط التصنيعي والاستهلاك، وانتقل إلى المنطقة الإيجابية، بل إن بعض المؤشرات فاقت التوقعات، مثل الصادرات، التي سجلت معدل نمو إيجابياً تجاوز 10% في الربع الثالث من العام.

تحدد الكيفية، التي يتعافى بها أي اقتصاد من صدمة اقتصادية، مدى قوة تعافيه. وبالعودة إلى عام 2009، أدت خطة التحفيز التي قدمتها الحكومة الصينية، والتي بلغت أربعة تريليونات يوان صيني (605 مليارات دولار أميركي) في أعقاب الأزمة المالية العالمية، إلى تحفيز حدوث طفرة ائتمانية أدت بدورها إلى تضخم قطاع الظل المصرفي، ورفع مستويات الديون إلى مستويات مرعبة.

لا شك أن استجابة الصين الشاملة أنقذت الاقتصاد وحافظت على معدلات نمو مذهلة، لكن تدفق الاستثمارات على مشاريع البنية التحتية والإسكان، وعلى الميزانيات العمومية للشركات الكبرى المملوكة للدولة، تسبّب في إحداث تشوهات اقتصادية تتجاوز تلك التي كانت قائمة بالفعل قبل الأزمة، وظل نمو الإنتاجية الإجمالي في حالة انخفاض خلال العقد التالي.

هذه المرة، يعتمد تعافي الصين مرة أخرى على وضع خطة تحفيز ضخمة، إلى جانب اتخاذ تدابير للسيطرة على الفيروس، حتى يتسنى استئناف الأعمال والأنشطة الاقتصادية الأخرى، لكن معظم الإنفاق حتى الآن يأتي من القطاع العام، لا من الشركات الخاصة. علاوة على ذلك، تُظهر الأرقام الأخيرة أن الاستثمارات في البنية التحتية والإسكان تصدرت مظاهر تعافي الصين ما بعد أزمة كوفيد 19، في حين كان نمو الاستهلاك بطيئاً ولم يقترب من اتجاه ما قبل الأزمة.

ورغم أن السكان بدأوا يعيشون حياتهم الطبيعية بأمان، فإن قطاع الخدمات لا يزال بعيداً كل البعد عن التعافي الحقيقي؛ فمن باب الحرص، يدخر الناس المزيد من المال ولا يخرجون من منازلهم إلا قليلاً، وقد ينذر هذا الاتجاه بالسوء، ليس بالنسبة إلى الصين فقط، ولكن أيضاً لبقية العالم، لأنه قد يكون بمنزلة مؤشر على ما ينتظر الاقتصادات الأخرى.

توجد أيضاً ثلاثة أسباب أخرى، على الأقل، تدعو للقلق:

أولاً، في حين تجاوزت أرقام الصادرات الصينية التوقعات هذا العام، من المحتمل أن تكون مخيبة للآمال في العام المقبل. في عام 2020، عملت الصين بمنزلة «ملاذ أخير للإمدادات العالمية»، حيث أبقت مصانعها مفتوحة في حين أُغلقت المصانع في أماكن أخرى. ونظراً لأن جزءاً من نمو الصين الحالي تقوده صادرات البضائع ذات الصلة بالتصدي للجائحة (مثل أقنعة الوجه) إلى بقية العالم، لا تعكس إحصاءات التجارة الإيجابية انتعاشاً في الطلب العالمي بقدر ما تعكس تحولاً في الإنتاج إلى الصين. لكن في الواقع، سينقلب اتجاه هذه العملية عندما يُعاد فتح مواقع الإنتاج العالمية وتبدأ سلاسل التوريد في العمل مرة أخرى.

الشاغل الثاني هو أن الانتعاش تسبب في تدهور بنيوي على نطاق أوسع، بعد سنوات من إعادة توجيه الاقتصاد نحو الاستهلاك، بعيداً عن الصادرات والاستثمار، وقد تحقق بعض التقدم في هذا الصدد في السنوات الأخيرة، لكن الميزان يتحول الآن مرة أخرى نحو الاستثمار والتجارة، حيث يسبق العرض الطلب خلال عملية التعافي الاقتصادي.

وبالتالي، يخفي تعافي الصين على الصعيد الكلي تحديات على المستويات الأصغر، فبحلول الربع الثالث من عام 2020، لم يحقق نمو الدخل أي تعافٍ يُذكر، وانكمش الدخل المتاح للأسر، كما تضرر الطلب على العمال المهاجرين بشدة ولم يُظهر أي بوادر للتعافي. وظل معدل المشاركة في القوى العاملة في حالة تقلص منذ أن انخفض مع بداية الجائحة.

يتمثل السبب الثالث، الذي يدعو للقلق، في مخاطر مالية تلوح في الأفق، وهي هذه المرة ناشئة عن الاقتصاد الحقيقي. ستبدو الميزانيات العمومية للشركات أسوأ كثيراً بمرور الزمن، خصوصاً بالنسبة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، حيث ارتفعت الفجوة بين اقتراض الشركات والادخار، خلال النصف الأول من عام 2020، إلى مستويات غير مسبوقة، لتصل إلى أكثر من 10 تريليونات يوان صيني. وقد تستغرق هذه المشكلة ما لا يقل عن سنة إلى سنتين لحلها، حتى في ظل الظروف العادية، وإذا ظلت التدفقات النقدية منخفضة فترة طويلة فسوف ترتفع مخاطر الديون المعدومة، خصوصاً في قطاعات النقل والسفر والمطاعم. وستشكل هذه الديون تهديدات كبيرة للمؤسسات المالية، في ظل تدهور جودة أصول البنوك (وبالتالي محافظ القروض).

لحسن الحظ، على الرغم من أن إجراءات التعافي القصيرة الأمد، التي اتخذتها الحكومة، أبطأت التقدم فيما يتعلق بالإصلاحات الطويلة الأمد، فإن فورة الإنفاق ما بعد الجائحة أصبحت ذات أهداف أكثر تحديداً من المرة السابقة، وبالتالي من غير المرجح أن تغذي نشوءَ فقاعة ائتمانية أخرى. ومن بين السمات البارزة لهذه الحزمة تركيزها على الاستثمار في الابتكار، حيث تعيد الحكومة توجيه الموارد من المشاريع التقليدية إلى مراكز البيانات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي ومحطات شحن السيارات الكهربائية، تحت شعار تشييد «بنية تحتية جديدة»، مما يزيد من الاستثمار في التصنيع والخدمات العالية التقنية بنسبة تبلغ 10 في المئة تقريباً على مدار السنة.

في ضوء كل ذلك، لابد أن نتوقع التزاماً مستمراً بانفتاح الاقتصاد، وخصوصاً في الخدمات المالية، ففي الواقع، يدرك صانعو السياسة في الصين أن النظام المالي المحلي بحاجة إلى أن يصبح أكثر قدرة على المنافسة وأكثر تكاملاً مع المؤسسات والشركات الغربية وسط توترات جيوسياسية متزايدة.

أخيراً، يُعد قرار الصين الأخير بالاستغناء عن معدل النمو الوطني المستهدف موضع ترحيب، فمع تخفيف الضغوط على الحكومات المحلية لإنتاج أرقام عالية من الناتج المحلي الإجمالي، يمكنهم التركيز بدلاً من ذلك على تعزيز فرص العمل، وتحسين سبل المعيشة، وتعزيز الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وخلق فرص للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.

في غضون عقد من الزمن، أصبحت الصين أكثر حكمة مما كانت عليه عندما واجهت أول تحدٍّ اقتصادي كبير لها في حقبة ما بعد عام 1978 من «الإصلاح والانفتاح»، وبعد أن نضجت وازدادت قدرتها على التحمل والصبر، أصبحت أقل تهوراً عندما يتعلق الأمر بتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، وأكثر استثماراً في خلق فرص لشعبها على المدى الطويل. قد يكون التعافي بطيئاً، لكنه سيتبع مساراً أكثر سلاسة وأماناً من المسار، الذي سلكه في المرة السابقة.

* أستاذة الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد ورائدة عالمية شابة في المنتدى الاقتصادي العالمي.

كيو جين - بروجيكت سنديكيت

back to top