حل الأزمات الأميركية بعد رحيل ترامب

نشر في 30-12-2020
آخر تحديث 30-12-2020 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت تعتمد استطاعة أميركا استعادة مكانتها العالمية، خلال السنوات الأربع المُقبلة، على قدرة الشعب الأميركي على العمل بشكل موحد كأمة واحدة لقيادة العالم في معالجة التحديات العالمية على نحو يتماشى مع سيادة القانون.

خلال السنوات الثلاث الأولى من رئاسة دونالد ترامب، واجهت أميركا أزمات ذاتية مُتعمدة على الأغلب. ومع ذلك، تُسلط كارثة وباء «كوفيد 19» الضوء على نقاط ضعف ترامب بشكل واضح: السياسات الفاشلة، والوعود الكاذبة، والترويج للمؤامرات.

يُدرك الجميع اليوم أوجه القصور العميقة التي تتمثل في هواجس ترامب المُتعلقة بـ«الصفقات». لقد تسبب نهجه القائم على المُعاملات - الذي تميز بموجة عنيفة من التهديدات، والانتقام المتبادل، والتقلبات المُفاجئة، وعمليات التقاط الصور الجوفاء- بتدمير العلاقات والتحالفات القديمة المبنية في الأصل على روابط حقيقية للمصالح المتبادلة والمودة والثقة والتعاون والتضحية.

والأسوأ من ذلك أن ازدراء ترامب للعلاقات كان مُقترناً بازدراء مُماثل للحقيقة والدبلوماسية والبيروقراطية والمكونات الأساسية الأخرى للإدارة السليمة، على الصعيدين الوطني والمُتعدد الأطراف.

فقد أدى تجاهله الواضح للخبرة والعلوم إلى تآكل وتدهور المؤسسات الوطنية المستقلة والفعالة سابقاً، مثل خدمة البريد الأميركية، ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ووكالة حماية البيئة، وإدارة الغذاء والدواء، ومكتب التحقيقات الفدرالي، ومجتمع المخابرات الأميركي.

مع اقتراب رئاسة ترامب من نهاية عامها الفوضوي الرابع، كشفت استجابته الكارثية لمكافحة وباء «كوفيد 19» عن نهجه الشامل المَعيب للحكم. يتقاطع فشله في تنفيذ خطة وطنية لتوفير أدوات الاختبار، ومعدات الوقاية، وأجهزة التنفس الاصطناعي، وتنفيذ تدابير حماية الأجور، وتتبع المخالطين، وتطوير اللقاحات التي تشتد الحاجة إليها، مع جهود إدارته المُستمرة لتقويض الرعاية الصحية للأميركيين من خلال التعيينات القضائية الرجعية. وساهم انسحاب أميركا الكامل من الجهود العالمية المُنسقة لمعالجة الجائحة في خروج أزمة الصحة العامة والأزمات الاقتصادية عن نطاق السيطرة.

وكانت النتيجة تراجعاً ملحوظاً في سمعة أميركا الطويلة فيما يتعلق بالكفاءة. من خلال إهمال التقليد الأميركي المتمثل في المشاركة البناءة مع المؤسسات المتعددة الأطراف (غير الفعالة)، شجع ترامب سباقاً مُدمراً نحو القاع بشأن القضايا الاقتصادية والمناخية الرئيسية، مما أثار اتجاهاً خطيراً نحو القومية فيما يتعلق بتوزيع اللقاحات. وبدلاً من الدفاع عن الحقيقة والعدالة و«الطريقة الأميركية»، نجح ترامب بالتعاون مع رفاقه في تحويل أميركا إلى نموذج حزين للخداع والانتهازية واستغلال الآخرين.

والأهم من ذلك، كما أوضحت الانتخابات الأخيرة، فقد أظهر ترامب ازدراءً للقيم والمؤسسات التي تقوم عليها سيادة القانون، والتي تشمل الانتخابات الحرة والنزيهة، والنقل السلمي للسلطة، والقضاء والخدمة المدنية المستقلين، والملاحقات القضائية غير السياسية، ووسائل الإعلام المُستقلة، وحماية الأقليات العرقية والدينية والجنسية.

لقد منحت قواعد القانون الدولي الموثوقة، لاسيما عندما يتم دمجها في القانون الوطني، منذ فترة طويلة، الجهات الفاعلة الاقتصادية الخاصة والعامة الضمانات اللازمة بأن العملية القانونية عبر الوطنية، والتي يمكن التنبؤ بها، ستحمي مصالحها عندما تعمل في الخارج. لكن ترامب لم يُظهر أي احترام للأسس التي تقوم عليها ثقة المستثمرين، والتي تتمثل في المصداقية، والإجراءات القانونية، والاستقرار التنظيمي، وحماية التوقعات الثابتة، والحفاظ على النتائج المُتشابهة.

من الناحية الجيوسياسية، واجه ترامب أشد الانتقادات عندما أضعف تحالفات الولايات المتحدة والمنظمات متعددة الأطراف وآليات تسوية النزاعات الدولية.

هناك حاجة ماسة لمثل هذه المؤسسات لتسهيل الحلول التي تُساعد على الخروج من الأزمات العالمية مثل الأوبئة والهجرة القسرية وتغير المناخ.

على مدى عقود من الزمان، اتبعت الإدارات الأميركية المُتعاقبة من كلا الحزبين استراتيجية خارجية تقوم على «المشاركة، والإجراء، والنفوذ» عندما تعلق الأمر بالتحديات العالمية. في حالة الشك، يقوم قادة الولايات المتحدة بالتعامل مع الحلفاء والخصوم، وترجمة القواعد القانونية الحالية إلى مواقف جديدة، وتحويل الاستجابات القانونية إلى حلول استراتيجية مُستقرة وواسعة النطاق.

ومع ذلك، اتبع ترامب الفلسفة المُعاكسة تماماً: «الانسحاب، والتدمير، واتخاذ قرارات أحادية»، فحين ساورتها الشكوك، قامت إدارته بالانسحاب، وزعمت أن المواقف الجديدة توفر «ثقوباً سوداء» لا ينطبق عليها أي قانون، واستبدلت سياسة الترهيب أحادية الجانب بالحفاظ على الحلول طويلة الأجل.

سعى ترامب إلى استبدال الرؤية «الكانطية» في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لمجتمع من الديمقراطيات التي تتعاون على أساس القيم المشتركة، برؤية «أورويلية» خالية من القيم لمناطق نفوذ القوى العظمى. إن الرؤية «الأورويلية» لا تكتفي بازدراء القيم الأميركية الأساسية فحسب، بل إنها لا تُقدم إجابة معقولة لأي من الأزمات القومية الأميركية الثلاث، التي تلوح في الأفق.

تُواجه الولايات المتحدة أزمة اقتصادية بشأن مُشكلة عدم المساواة، وأزمة ثقافية حول مسألة كيفية استيعاب التنوع والشمول في وقت يتزايد الانقسام السياسي؛ وأزمة عالمية نابعة من الحاجة إلى التعاون الدولي في عصر تسوده قومية خبيثة غير مُجدية.

استعادة روح الأمة

وسط هذه الخلفية، ستواجه إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن تحديات هائلة، تتمثل أولوياتها الأكثر إلحاحاً في الانضمام من جديد إلى اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وإجراء بعض التغييرات في الاتفاق النووي الإيراني. ومن المحتمل أن يستعيد بايدن مشاركة الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو ومعاهدة تجارة الأسلحة أيضاً.

علاوة على ذلك، يتعين عليه رفع العقوبات التأديبية العكسية عن مسؤول المحكمة الجنائية الدولية، وإلغاء حق النقض الذي تتمتع به الولايات المتحدة ضد القضاة المُعينين في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية. يجب التعامل مع لوجستيات الانضمام مُجدداً إلى كل هيئة من هذه الهيئات على أساس كل حالة على حدة. وبطبيعة الحال، سيكون التصديق على المعاهدة الجديدة صعباً جداً، نظراً إلى الانقسام الحاد الذي يُعانيه مجلس الشيوخ الأميركي.

يمكن جذب دعم الحزبين من خلال تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لمدة خمس سنوات، واللتين تم التصديق عليهما من كبار مسؤولي السياسة الخارجية في كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية لأكثر من 20 عاماً.

وعلى الرغم من معارضة أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين المُستمرة لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؛ لأسباب تتعلق بالسيادة، فقد أصبحت مُعارضتهم غير منطقية على نحو متزايد.

ومن خلال عدم التصديق على الاتفاقية، تنازلت الولايات المتحدة عن هيمنتها للروس في القطب الشمالي وللصين في بحر الصين الجنوبي. علاوة على ذلك، يجب على إدارة بايدن أن تسعى للحصول على دعم مجلس الشيوخ للتصديق على اتفاقية منظمة الصحة الإطارية بشأن مكافحة التبغ، والتراجع عن عدم تصديق الولايات المتحدة المخزي على اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وبالمثل، فإن إغلاق معتقل الولايات المتحدة في غوانتانامو سيساعد في النهاية على التغلب على الأزمات التي تشهدها الولايات المتحدة منذ حكومة جورج دبليو بوش.

وبالمثل، يحتاج بايدن إلى اتخاذ إجراءات سريعة لملء فراغات الحوكمة العالمية، التي أحدثها ترامب، والتي كانت روسيا والصين حريصتين على استغلالها، فقد تصرفت روسيا دون أدنى شعور بالخوف من العقاب في إطار محاولاتها لقتل شخصيات مُعارضة بارزة، ودعم حكام مُستبدين مثل ألكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا، وشن حملات إلكترونية وعسكرية ضد إستونيا وجورجيا وأوكرانيا ودول أخرى.

وذهبت الصين إلى أبعد من ذلك، فقد سعت إلى استبدال مؤسسات بريتون وودز بقيادة الولايات المتحدة بإبداعاتها المؤسسية الخاصة، بما في ذلك البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومبادرة الحزام والطريق.

لكن نظراً إلى مدى التغيير الذي شهده العالم خلال السنوات الأربع الماضية، لا يمكن لإدارة بايدن ببساطة استعادة الوضع السائد في عهد ترامب.

ومع استئناف التعاون مع شركاء وحلفاء الولايات المتحدة، سيتعين عليها ضمان أن التدابير التي سيتم اتخاذها في السنوات الأربع المقبلة ستستمر في المستقبل. وتحقيقاً لهذه الغاية، قد يقرر بايدن إعادة المشاركة بقوة من خلال الاتفاقات السياسية غير الملزمة أو «الاتفاقات التنفيذية الإضافية» (الاتفاقيات الدولية التي لم يُصادق عليها الكونغرس بشكل واضح، ولكن يمكن القول إنها تتوافق مع الأطر التشريعية الحالية).

قد يبدو هذا النوع من المشاركة أقل فعّالية، ولكن كما أوضحتُ في مقالات سابقة، فإن المشاركة القانونية الدولية في القرن الحادي والعشرين قد توسعت على نحو متزايد لتتجاوز الأدوات التقليدية مثل المعاهدات والاتفاقيات الدولية. وتسمح هذه المشاركة اليوم بالتفاهم غير القانوني، والتعاون مُتعدد المستويات، و«الحوار القانوني» الدبلوماسي على نحو منتظم: المحادثات الدولية حول المعايير العالمية المُتطورة التي تُحيي ذكرى التفاهم المُتبادل على الورق دون إنشاء اتفاقيات قانونية مُلزمة.

نظراً إلى أن أدوات القانون غير المُلزم هذه أثبتت فعاليتها في «بناء النظام» القانوني، فقد أصبح من الشائع اليوم تطوير الترتيبات والمؤسسات القانونية الدولية بشكل أقل من خلال الأجهزة الرسمية، وأكثر من خلال الحوار الثنائي والمُتعدد الأطراف بين المحامين الدوليين من مختلف البلدان.

مع تشكيل هذه الأنظمة، يعمل أصحاب المصلحة على تحديد معايير جديدة مُعتدلة، ومن ثم العمل من خلال عملية مُتكررة لوضع ممارسات قياسية للتعاون مُتعدد المستويات بين القطاعين العام والخاص، كما حدث مع بيانات «أكسفورد» الأخيرة بشأن حماية القانون الدولي ضد العمليات الإلكترونية التي تستهدف قطاع الرعاية الصحية، وحماية أبحاث اللقاحات، وأمن الانتخابات.

إن أفضل أمل في اتباع نهج أكثر شمولاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي والكونغرس لإعادة إشراك الولايات المتحدة على المستوى الدولي قد يتحقق بموافقة بايدن ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل لإيجاد حلول مشتركة عاجلة، مماثلة لتلك المُستخدمة بالفعل في السياسة التجارية.

وهذا من شأنه أن يسمح بالتصويت الحازم في الوقت المناسب على مجموعة الاتفاقيات القابلة للتعديل، مما يمنح الكونغرس مزيدًا من العمل ويُوفر لبايدن الدعم التشريعي الحاسم الذي يحتاج إليه لسن قوانين دولية فعّالة.

لن تشكل «قائمة المهام» الشاقة هذه اختباراً للإدارة الجديدة فحسب، ولكن أيضاً لمهاراتها السياسية. ولحسن الحظ، ستضم حكومة بايدن خبراء بارعين ومُشرعين قدامى، مما يمنح دوراً بارزاً للسناتورة السابقة ونائبة الرئيس المنتخب كامالا هاريس. وعندما يقترن بتاريخ بايدن الطويل من التعاون بين الحزبين، يمكن لفريق مؤهل ومُتمرس صياغة إجماع سياسي جديد (على الصعيدين المحلي والدولي)، واستعادة الالتزامات الأميركية العالمية، ومواجهة الحسابات الثلاثة للبلاد بشكل مباشر.

بعد أربع سنوات من الصدمات، يحتاج الأميركيون وحلفاؤهم بشدة إلى تصحيح دائم لهذا المسار، ولن يكون الأمر سهلاً، لكنه ليس مستحيلًا. في الواقع، يتمتع بايدن بخبرة تشريعية رفيعة المستوى، مقارنة بأي رئيس أميركي منذ ليندون ب. جونسون. وكما هو الحال دائماً، سنحتاج إلى بعض المساعدة من أصدقائنا.

• أستاذ القانون الدولي والعميد السابق في كلية الحقوق بجامعة ييل، عمل مستشاراً قانونياً (2009-2013) ومساعداً لوزير الخارجية للديمقراطية وحقوق الإنسان والعمالة (1998-2001) في وزارة الخارجية الأميركية. وهو مؤلف كتاب «إدارة ترامب والقانون الدولي» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2018).

هارولد هونغجو كوه - بروجيكت سنديكيت

back to top