شاكر الأنباري: القصة لم تعد تستوعب رؤيتي للحياة

الأديب العراقي المقيم في كوبنهاغن يكرّس نفسه للرواية ولا يهتم بالجوائز

نشر في 27-11-2020
آخر تحديث 27-11-2020 | 00:13
تنقّل الأديب العراقي شاكر الأنباري بين العديد من عواصم العالم، إلى أن استقرت به الحال في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، مما منح قلمه مساحة من الحرية في السرد على مستوى القصة أو الرواية، لكن الحنين إلى الماضي، حيث البلد الأم وسنوات الطفولة، ترك بصمته في العديد من أعماله الروائية.
وفي حوار أجرته معه "الجريدة" من القاهرة، قال صاحب "بلاد سعيدة" و"نجمة البتاويين" و"مسامرات جسر بزيبز"، إنه كرّس نفسه للرواية، لأن القصة لم تعد تستوعب رؤيته للحياة، لافتاً إلى أن القراءة المتنوعة تجنب الكاتب تكرار نفسه، لكنه يضع كل ما قرأه وراء ظهره حين يعيش مشروعاً روائياً جديداً... وفيما يلي نص الحوار:

● كل بداية تترك أثراً عميقاً، فماذا عن سنوات حياتك الأولى، وكيف انعكس أثرها على رؤاك وأفكارك ككاتب لاحقاً؟

- وُلدت وترعرعت في قرية تقع على ضفاف نهر الفرات، تبعد عن المدينة عشرات الكيلومترات. هذا الواقع جعلني في تماسّ مباشر مع الأشجار والنباتات والسمك والطيور. كنت أعرف اسم كل نبتة في محيطي وصوت كل طائر يعبر الأفق، وتقضي القرية لياليها في رواية الحكايات والأساطير ونوادر ما يجري بين الفلاحين. من هنا نشأ لديّ حُب القصص والروايات، وأنا من الجيل الثاني المتعلم في العائلة، وبسبب جفاف الأيام، وتكرارها الثقيل، اتجهت إلى الكتاب، والقصص خاصة، فهي تنقلني إلى عالم آخر خصب الخيال، ممتلئ بالمدن الضاجّة بالمغامرات والنساء والأحداث، وأسهم كل ذلك في توجهي نحو الكتابة.

● تترك الغربة بصمة، ولو كانت خافية، في نصوص الأديب المهاجر، كيف تأثرت أعمالك بحياتك في الدنمارك والبلدان التي عشت فيها؟

- نصوص الكتّاب الذين عاشوا في الغربة، سواء كانت قصصاً أو روايات أو شعراً، عادة ما تحكمها روح الحنين إلى الطفولة والبلد الأم، صحيح أنها تستفيد من الحرية الممنوحة في البلدان الأوروبية والتفرغ للعمل الأدبي، إلا أن آثار الماضي، وثقل الذاكرة، وذلك الحنين الشجي، تبقى بارزة في طريقة كتابته مثل الاهتمام بالتفاصيل، والالتفات إلى الخلف، وتصفية الحساب مع المكان الأول الذي دفع به نحو الاغتراب. يظل المرء يفتقد شيئا ما، ويصيبه خلل ما في روحه، وقد يصبح ذلك دافعاً قوياً لتأسيس وطن من كلمات، وقصص، ورؤى تسامر عمره الممتد.

● ما الذي يستفز قلمك لتكتب عنه وتناقشه في عمل روائي؟

- انشغلت معظم قصصي ورواياتي بأوضاع العراق والشرق عموماً، خاصة أنني عدتُ في عام 2003 إلى العراق، وبعد غربة امتدت أكثر من 20 سنة، وعشت التحولات الرهيبة في الواقع الاجتماعي، وتواصلت ثانية مع روح المكان والأحداث غير المعقولة التي كانت تجري. كتبت عدداً من الروايات تستلهم تلك التحولات مثل: بلاد سعيدة، ونجمة البتاويين، وأنا ونامق سبنسر، ومسامرات جسر بزيبز، وأقسى الشهور. كلها تدور جزئياً أو كلياً في البيئة العراقية، وجاءت جميعها ناضحة بالمرارة والخراب والتمزق العميق للبشر. كتابة الرواية بالنسبة إليّ هي تقديم شهادة إبداعية على ما عشته في فترة زمنية كُتب لي أن أسبح في أحداثها السياسية والاجتماعية، مع وضع الخيال كرافعة لكل ذلك.

● برأيك، الروائي الجيد يقرأ أم يكتب أكثر؟!

- تجربتي الشخصية تنصحني دائماً بالقراءة، إن أراد الكاتب ألا يكرر نفسه وأساليبه وأفكاره، فعليه بالقراءة المتنوعة. وأنا أمتلك اهتمامات غير الأدب، كاهتمامي بالتاريخ والفلسفة وعلوم الفضاء والسينما، وأحب مشاهدة اللوحات التشكيلية وقراءة السِير الشخصية، مما نوّع مفرداتي الكتابية وأسهم في اتساع خيالي ورؤيتي للحياة وقاموسي اللغوي، ولي لغتان عدا العربية أقرأ بهما أحياناً، هما الإنكليزية والدنماركية، لكن معظم قراءاتي الجادة باللغة العربية، قديمها وحديثها، ويمكن رصد عمق الكاتب وثقافته وسعة أفقه من خلال نصه، فالمعرفة والاتساع والعمق لا تخفي نفسها.

● من "ثمار البلوط" إلى "أقسى الشهور"، كيف يمكن أن تصف لنا تطور ملامح مشروعك الروائي في محطات؟

- لديّ سمة بارزة في مسيرتي الإبداعية هي التجريب، سواء في القصة أو الرواية، محكومة بقناعتي الصلدة، وهي أنني أكتب عمّا لم يعشه أو يختبره أحد سواي، وربما هذا ما يمنح نصوصي تجريبيتها، وأطمح دائماً إلى كتابة تمثّلني أنا فقط، حتى لو جاءت غريبة عن المواصفات المتعارف عليها في كتابة القصة والرواية. صحيح أنني اطلعت، إلى حد ما، على أنماط الكتابة الإبداعية، وقرأت النقد حول ذلك، لكنني أضع كل ما قرأته وراء ظهري حين أعيش مشروعاً روائياً جديداً.

● أيهما تنشغل به أكثر: اللغة أم تقنية الكتابة؟

- عندما أشتغل على مشروع روائي استنفر كل ما أمتلك من طاقة، سواء كانت لغوية أو فنية، فربما تعمل كلمة واحدة على نحت مسار جديد في التقنية، وقد يفضي مشهد ما إلى الكتابة بلغة أعمق، لغة تشريحية أو وصفية أو فلسفية، فأنا لا أفصل اللغة على التقنية، ولا المضمون على الأسلوب، فالنص الناجح هو ما يتوّحد فيه كل ما سبق، اللغة، والتجربة، والثقافة، والرؤية الفلسفية، والموهبة، والأخيرة تأتي وشاحاً يخرج النص كي يكون فنياً ينتمي إلى هذا النمط من الكتابة.

● إنتاجك الإبداعي يتركز في الرواية أكثر من القصة القصيرة، ما الذي تحققه لك الرواية ولا تقدر على استيعابه القصة؟

- أصدرت خمس مجموعات قصصية، ثم كرست نفسي للرواية تماماً، بعد أن وجدت أن القصة لم تعد تستوعب رؤيتي للحياة، وأصبحت ضيقة على تجربتي الحياتية المتشعبة التي مرت بانتقالات مكانية عديدة. عشت في سورية والدنمارك ولبنان وإنكلترا والبرازيل والعراق، ورسيت أخيراً في كوبنهاغن، وكل هذه التنقلات المكانية صاحبها نضوج في الثقافة، والحساسية الجمالية، والاحتكاك مع مجتمعات تختلف في اللغة والثقافة. ووجدت أن الرواية وحدها تستوعب تلك التحولات بأساليبها في التذكر والاسترجاع والاختلاف في الرؤى بين الشخصيات، وثقل التاريخ المضغوط في حياة واحدة. والرواية تلهم الكاتب حرية واسعة في التناول، وتقليب الأفكار، والحكمة المستمدة من الأيام. قوانين القصة تغاير قوانين الرواية، ومن كتب النوعين يدرك ذلك.

● قلت من قبل إنك لا تهتم بالجوائز ولا تفكر فيها، أليست الجائزة تقديراً معنوياً ومادياً، وكلاهما مهم للأديب؟

- حين أكتب عملاً روائياً لا أضع في ذهني أية جائزة أو مكافأة، بمعنى أنني لا أكتب حسب متطلبات وشروط الجوائز والبيئة المحيطة بها، وعادة ما يهمني إنجاز العمل بالشروط الفنية التي أقتنع بها فقط، أما نجاح العمل فيحكم عليه الزمن لا لجان الجوائز، والزمن ممتد في المستقبل البعيد ولا يخضع لشروط الحاضر. لكنني لست ضد الجوائز فهي تحفز الأجيال الشابة على نيل الشهرة والمال، وهذا ليس بالأمر السيئ.

● أخيراً، ما جديد مشروعاتك الأدبية؟

- أنجزت رواية تتناول حياة المغتربين في دولة اسكندنافية، كيف هربوا من بلدانهم وكيف اندمجوا في حياتهم الجديدة "البيئة الأوروبية"، وكيف انتهى بهم المطاف إلى مقبرة، أرواحاً تهيم فوق الشجر والبنايات والطرق. يقضون لياليهم في رواية الحكايات عن سنواتهم الماضية قبل أن يموتوا في تربة البلد الباردة، واستغرق زمن الرواية نحو ثلاثة عقود.

نصوص الكتّاب المغتربين تستفيد من الحرية ويظل حنينها للماضي
back to top