هل اقتربت الأزمة الدستورية في أميركا التي طال انتظارها؟

نشر في 29-10-2020
آخر تحديث 29-10-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت منذ انتخاب دونالد ترامب في عام 2016، أُمـطِـر الأكاديميون القانونيون من أمثالي بوابل من رسائل البريد الإلكتروني من صحافيين يسألون ما إذا كانت الولايات المتحدة تمر "بأزمة دستورية" أو تتجه نحوها، كانت أغلب هذه الاستفسارات مدفوعة بإصرار الرئيس على خرق القواعد، بما في ذلك تدخله في تحقيقات المستشار الخاص روبرت مولر في التدخل الروسي في الانتخابات، وهجماته اللفظية على الصحافيين والقضاة، وجهوده لإطلاق تحقيقات ضد خصومه السياسيين.

الواقع أن الأزمة الدستورية، المفهومة على الوجه الصحيح على أنها نقطة تحول قد تؤدي إلى انهيار أو تحول النظام، لم تحدث حقا. لكن مثل هذه الأزمة تبدو الآن مرجحة على نحو متزايد. أنا لا أتحدث عن الانتخابات، بل أشير إلى أزمة قد تحدث حتى لو خسر ترامب، فقد تنشأ هذه الأزمة من التوتر الذي ظل قائما طوال التاريخ الأميركي: على وجه التحديد، التوتر بين المحاكم ونظام ديمقراطي يعطي سلطة مطلقة للشعب.

شهد التاريخ الأميركي أزمتين دستوريتين، وكل منهما كانت تنطوي على صِـدام بين المحكمة العليا ومسؤولين منتخبين مدعومين بالرأي العام. بدأت الأولى بقضية دريد سكوت ضد ساندفورد الشائنة في عام 1857، وفي هذه القضية، قضت المحكمة العليا بأن الأميركيين من أصل إفريقي ليسوا من مواطني الولايات المتحدة، وأن تسوية ميسوري لعام 1820، التي أبعدت شبح الحرب الأهلية بتقديم صيغة لتقسيم الأراضي بين ولايات العبيد والولايات التي حررت العبيد، كانت غير دستورية.

أدى قرار المحكمة إلى تأجيج التوترات بين الشمال والجنوب، وساهم في اندلاع الحرب الأهلية. جزئيا من خلال عرقلة مسار إلى التسوية، ودامت الأزمة الدستورية التي أعقبت ذلك عشر سنوات بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، مع استمرار المحكمة في تقويض التشريعات والتعديلات الدستورية التي حاولت توفير الحماية للعبيد المحررين، ومع انتقام الكونغرس بتجريد المحكمة العليا من الولاية القضائية، وأَكَّـدَ القرار النهائي على إلغاء العبودية واتحاد الولايات، لكنه حافظ على نظام الفصل العنصري في الجنوب.

حدثت الأزمة الثانية في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما ألغت المحكمة العليا قوانين الصفقة الجديدة التي كان المقصود منها معالجة حالة الطوارئ الاقتصادية في زمن أزمة الكساد الأعظم، وفي عام 1937، بعد فوز انتخابي ساحق، اقترح الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت تشريعا يسمح بتعبئة المحكمة العليا بالقضاة المؤيدين للصفقة الجديدة، وعلى الرغم من رفض مشروع القانون، تراجعت المحكمة، فتخلت عن معارضتها للتنظيم الاقتصادي، وحتى بعد أن تمكن روزفلت من شغل المقاعد الشاغرة وتأمين أغلبية متعاطفة، ظلت المحكمة مذعورة عشرين عاما أخرى.

في ضوء التقلبات السياسية المتصاعدة اليوم، لا أحد يستطيع أن يجزم على وجه التحديد بالهيئة التي قد تبدو عليها الأزمة الدستورية المقبلة؛ غير أن الخطوط العريضة بدأت تتضح، كما حدث في سباقات سابقة، استولى اليمين على المحكمة العليا، لكنه خسر معركة الفوز بتأييد الرأي العام، ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، أدت الأحكام المحافظة على نحو متزايد إلى تقييد التنظيمات الاقتصادية الوطنية- مرددة صدى النهج الذي فقد مصداقيته والذي تبنته المحكمة قبل عام 1937- وأوجدت الحق الفردي في حيازة السلاح، وعززت الحقوق الدينية، وألغت القيود المفروضة على تمويل الحملات الانتخابية، وأضعفت تدابير حماية الأقليات الـعِـرقية، وقلصت حقوق الإجهاض.

على اليسار، كان السخط على المحكمة يختمر منذ الثمانينيات، لكن في السنوات الأخيرة أدى تطوران إلى دفع الغضب إلى نقطة الغليان:

أولا، جرى تعريض قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير)، الإنجاز التدريجي المهم الذي تحقق على مدار السنوات العشرين الأخيرة، لخطر جسيم. أقرت المحكمة العليا القانون بالكاد في عام 2012، ومنذ ذلك الحين تعرض لضربات من قِـبَـل مجموعة متنوعة من التحديات القانونية في المحاكم الأدنى، وإذا استمرت المحكمة العليا في إصدار المزيد من الأحكام المعاكسة ضد قانون الرعاية الميسرة، فستحيط الشكوك ليس بقانون الرعاية الميسرة فقط، بل أيضا بأي تشريع تقدمي طموح.

ثانيا، لم يعد الديمقراطيون يثقون بالتزام الحزب الجمهوري باللعب وفقا للقواعد عندما يتعلق الأمر بالتعيينات القضائية، نظرا لتحول اتجاه الحزب الجمهوري في ما يتصل بتعيينات المحكمة العليا، بعد أن رفضت الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ حتى عقد جلسات استماع لمرشح الرئيس باراك أوباما للمحكمة العليا، ميريك غارلاند، في عام 2016، متعللة باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، نراها الآن تهرع إلى عقد جلسات التأكيد لتعيين إيمي كوني باريت، مرشحة ترامب، قبل أقل من شهر من الانتخابات التالية.

الواقع أن سوء النوايا هذا، إلى جانب سوء حظ أحاط بتوقيت وجود مناصب شاغرة في المحكمة العليا، يضمنان وجود أغلبية محافظة في المحكمة قادرة على عرقلة التشريعات الديمقراطية طوال السنوات الأربع المقبلة على الأقل، وربما لفترة أطول كثيرا.

كانت هذه التركيبة التي تجمع بين محكمة عليا يمينية ونوايا سيئة من جانب الحزب الجمهوري سببا في تشجيع الديمقراطيين على ممارسة "شكل من أشكال اللعب الخشن". يرى كثيرون على اليسار أن خصم ترامب، جو بايدن، يجب أن يلتزم بـ"تعبئة المحكمة" في حال انتخابه، وهذا يعني زيادة عدد المقاعد- من تسعة إلى ثلاثة عشرة في الأرجح- حتى يصبح من الممكن تعيين أربعة قضاة آخرين لخلق أغلبية 7 إلى 6 أكثر دعما للأجندة الليبرالية.

لن نبالغ مهما أكدنا على أهمية هذا الاقتراح. لقد انتهت خطة روزفلت لتعبئة المحكمة إلى هزيمة مدمرة وتسببت في إحداث أضرار سياسية دائمة لرئاسته، وإن السعي إلى تعبئة المحكمة بالأنصار ممارسة راديكالية، والتكتيك المفضل لدى الحكام المستبدين، ولا تزال المحكمة العليا تتمتع بشعبية نسبية بين عامة الناس، ومع ذلك، لم يكن بايدن، على الرغم من غرائزه المعتدلة، قادرا على التخلص من هذه الفكرة، متأثرا بلا شك بالقلق إزاء ردة الفعل المعاكسة من قِـبَل جناح اليسار في الحزب الديمقراطي.

لكن مشكلة بايدن ليست مع اليسار؛ بل هي مع، أو ستكون مع، المحكمة، فقد ركزت حملته بشكل متزايد على الرعاية الصحية الواعدة والاستجابة الأقوى للجائحة، وهما مجالان أظهر القضاة المحافظون قدرا كبيرا من العداء في التعامل معهما، وعلى هذا فإذا فاز بايدن في الانتخابات وحصل على الأغلبية في كل من المجلسين- وهو ما سيحتاج إليه لتنفيذ أي خطة لتعبئة المحكمة- فسيواجه معضلة، فإذا حاول تعبئة المحكمة بأنصاره، فإنه بذلك يجازف بخسارة دعم الديمقراطيين المعتدلين، وتعميق الاستقطاب السياسي، وإلحاق الضرر بمكانة المحكمة في نظر عامة الناس، لكنه إذا لم يفعل، فقد يصبح عاجزا سياسيا.

حتى روزفلت كان يشعر بحرج شديد في وصف مشروع قانونه بخطة تعبئة المحكمة، وبدلا من ذلك، ادعى أن القضاة المتقدمين في السن في مختلف قطاعات القضاء الفدرالي يجب تكميلهم بزمرة من القضاة الأحدث سنا، ومن الواضح أن بايدن، الذي لا يقترب حتى من شعبية روزفلت، ليس لديه خيارات جيدة سوى الأمل في أن يُـظـهِـر القضاة المحافظون في المحكمة حسا راشدا فيخففون من عدائهم للتشريعات الشعبية والإجراءات الحكومية.

حتى وقتنا هذا، أظهر رئيس القضاة جون روبرتس أن هذا في حكم الممكن، ولكن مع إضافة باريت إلى المحكمة، ربما يجد روبرت نفسه ضمن الأقلية، وإذا انضم باريت إلى المحافظين المتشددين الأربعة الآخرين في نقض إرادة حكومة منتخبة ديمقراطيا، فقد يستغرق حل الأزمة الدستورية الناجمة عن ذلك سنوات وسنوات.

* أستاذ في جامعة شيكاغو، وأحدث مؤلفاته كتاب "دليل زعيم الدهماء: المعركة من أجل الديمقراطية الأميركية من المؤسسين إلى ترامب".

*إريك بوزنر

back to top