هل تنجح العقوبات الأميركية في تفكيك النظام السوري؟

نشر في 23-10-2020
آخر تحديث 23-10-2020 | 00:02
تتحمل الدولة السورية مسؤولية الوضع الإنساني المريع في البلاد أكثر من جماعات المعارضة الفاسدة والمسلّحة، فمنذ 2011 منع نظام الأسد تسليم المساعدات في المناطق التي يسيطر عليها وأعاق عبورها للحدود نحو المناطق التي تقع خارج سيطرته، كذلك خضعت وكالات الأمم المتحدة للأسد ومنحته صلاحية الإشراف على توزيع المساعدات مباشرةً.
في مقالة The Pointless Cruelty of Trump's New Syria Sanctions (الوحشية غير المجدية لعقوبات ترامب الجديدة على سورية) بتاريخ 17 أغسطس 2020، اعتبر المحللان جوشوا لانديس وستيفن سايمون أن العقوبات الأميركية الجديدة المفروضة على داعمي النظام السوري تؤذي السوريين العاديين من دون أن تحقق المصالح الأميركية الأساسية، لكن يتجاهل المحللان في هذه المقالة مسؤولية رئيس البلاد بشار الأسد عن معاناة سورية، فهو يرتكب الفظائع من دون حسيب أو رقيب منذ عشر سنوات تقريباً، وقد تسهم العقوبات الأميركية الجديدة في إضعاف قدرة نظام الأسد على إيذاء الشعب، وهو تطور إيجابي لسورية والولايات المتحدة معاً.

يُلمِح المحللان إلى أن العقوبات الجديدة التي تشكّل جزءاً من قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية (صدر في عام 2019) حصلت بمبادرة من إدارة ترامب، لكن تلك العقوبات فعلياً كانت نتاج تشريع تم إقراره في الكونغرس بدعمٍ واسع من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي بعد التواصل مع جماعات من المجتمع المدني السوري. من خلال اعتبار العقوبات جزءاً من سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب، يغفل المحللان عن جهود أطراف متنوعة أخرى وواقع أنّ تلك العقوبات تجنبت تدقيق الحزبَين الأميركيَين طوال سنوات قبل أن تُضاف إلى قانون إقرار الدفاع الوطني.

يتطرق لانديس وسايمون إلى المجاعة الجماعية التي أصابت العراقيين تحت ثقل العقوبات خلال التسعينيات لتسليط الضوء على الطابع غير الإنساني للعقوبات، لكن الولايات المتحدة تستطيع أن تتعاون مع الاتحاد الأوروبي لتطبيق تلك العقوبات بطريقة تحافظ على المعايير الإنسانية.

يذكر المحللان أيضاً أن سياسة ترامب العامة في سورية تفتقر إلى التماسك، وهما محقان في رأيهما، لكن العقوبات تستطيع أن تحمي المدنيين في نهاية المطاف إذا ترافقت مع جهود شاملة أخرى على المستويَين العسكري والدبلوماسي، فقد ساهمت هذه العقوبات سابقاً في الضغط على الزعيم الليبي معمر القذافي، فدفعته إلى رفض الإرهاب والتخلي عن برامج أسلحة الدمار الشامل بعد عام 2000، ثم حثّت إيران أيضاً على المشاركة في المفاوضات بعد عام 2010، حتى أن لانديس وسايمون يعترفان بأن "الأسد سيوافق على تقديم تنازلات مهمة على الأرجح" لضمان رفع العقوبات.

لكن الولايات المتحدة تملك خيارات تفوق ما يتوقعه لانديس وسايمون، فبحسب رأيهما، يُفترض ألا تجد واشنطن مشكلة في التواصل مع الأسد، فهذا الطرح لا يتماشى مع أفكار الصينيين والروس فحسب، بل إنه يتجاهل أيضاً الجهود التي بذلتها الإدارات الأميركية السابقة، وبالتالي لا يمكن وضع نظامٍ مسؤول عن العمليات التي أشرف عليها الأسد في مصاف أي أنظمة أخرى.

تتحمل الدولة السورية مسؤولية الوضع الإنساني المريع في البلاد أكثر من جماعات المعارضة الفاسدة والمسلّحة التي يشير إليها لانديس وسايمون، منذ عام 2011، منع نظام الأسد تسليم المساعدات في المناطق التي يسيطر عليها وأعاق عبورها للحدود نحو المناطق التي تقع خارج سيطرته، كذلك رضخت وكالات الأمم المتحدة للأسد ومنحت دمشق صلاحية الإشراف على توزيع المساعدات مباشرةً من دون أن تشرف بنفسها على عمليات التسليم بدرجة كافية، مما أدى إلى توزيعها بطريقة غير متكافئة في المناطق المحسوبة على النظام، ويكشف تقرير من إعداد حملة "من أجل سورية" في عام 2016 أن الأمم المتحدة سمحت للنظام السوري بتوجيه 88% من المساعدات الغذائية نحو المناطق التي يسيطر عليها.

يقارن لانديس وسايمون السياسات الأميركية التي تهدف إلى زيادة الضغوط على الأسد وداعميه بالسياسات التي كانت معتمدة خلال حرب فيتنام، لكن من الأفضل أن تحصل المقارنة مع لبنان، إذ لم تتعرض الطبقة الحاكمة الفاسدة هناك لأي محاسبة على جرائمها خلال الحرب الأهلية التي استمرت طوال 15 سنة. كان غياب المحاسبة في بلدان تمتد من الفلبين والصين إلى السودان ومصر كفيلاً بزيادة قوة القادة في تلك البلدان ودفعهم إلى قمع المواطنين بعنف.

أخيراً، يزعم المحللان أنهما يهتمان في المقام الأول بمصالح السوريين، لكنهما يدعوان إلى إقامة تواصل شامل مع مجرم حرب دمّر حياة ملايين المواطنين، ومن المتوقع أن يتابع كبح أي جهود رامية إلى ترسيخ نظام حُكْم شفاف ومسؤول وتحقيق مصالح أميركية أخرى في المنطقة، بدعمٍ من إيران وروسيا والمستفيدين المحتملين من إعادة إعمار سورية. لإنهاء "الحروب اللامتناهية"، يقضي أفضل حل دوماً بتحديد الأسباب الأصلية لأي صراع والالتزام بمعالجتها، فبغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي بعد يناير 2021، سيبدأ أصعب اختبار لهذا النوع من الالتزامات في سورية.

رد لانديس وسايمون على الانتقادات

نُقدّر تعليق أدهم سحلول وسناء سكرية وساندي القطامي على مقالتنا ونشاركهم الرأي حول أهمية محاسبة مجرمي الحرب، لكنّ العقوبات التي يدافعون عنها لن تحقق العدالة للأسف، إذ يستحيل أن نراجع الأدلة التاريخية، كما فعلنا، من دون أن نستنتج أن العقوبات الاقتصادية الواسعة، كتلك المفروضة على دمشق اليوم عبر قانون قيصر، لا تحاسب الجهات الصحيحة، بل إن عقوبات قيصر تزيد الظلم الذي يعيشه المدنيون السوريون بكل بساطة.

كذلك، لا تدعم الوقائع الفكرة القائلة إن تشديد العقوبات قادر على ردع أي حكام آخرين ذوي نزعة استبدادية، فبدءاً من ألمانيا النازية وصولاً إلى كوريا الشمالية، لم تنجح العقوبات الصارمة في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، ولم تضمن سلامة المدنيين الخاضعين لحكمها، ولم تنقذ العالم من ظهور أمثال بول بوت أو صدام حسين، وحتى لو أدى تجويع المدنيين عمداً في أحد البلدان إلى إحباط الطغاة الطموحين في بلدان أخرى، نظن أن التضحية بحياة ملايين السوريين لمنع انتهاكات محتملة في أماكن أخرى مستقبلاً مقاربة خاطئة جداً.

نتفهم أن يشعر سحلول وزملاؤه بالحزن من نتيجة الصراع في سورية وأن يتمنوا تغيّر الوضع، لكن في ظل العجز عن تحقيق هذا الهدف ميدانياً، هم يبحثون عن جهات خارجية كما فعلت جميع الأطراف الأخرى على مر الحرب، كما أنهم يأملون الآن في أن ينجح التدخّل الأميركي عن طريق العقوبات بعد فشل الجهود الأميركية في تسليح المقاتلين المحليين وتدريبهم. كان تأييد الكثيرين في واشنطن لهذا التوجه مخيباً للآمال لكن غير مفاجئ، فالولايات المتحدة معتادة على استعمال العقوبات لمواجهة التحديات التي لا ترقى إلى مستوى الرد المسلّح لكنها تكون عدائية بدرجة لا يمكن تجاهلها، ومع ذلك، لا تُعتبر العقوبات خياراً بديلاً عن الحرب في جميع الحالات، ولن تكون الخيار المناسب أصلاً. غالباً ما تعكس هذه العقوبات نوعاً آخر من الحروب بكل بساطة، وهي تضمن إيذاء أفقر الناس وأكثرهم ضعفاً قبل أن يتأثر بها المقاتلون أو أعضاء النخبة الحاكمة.

يحق للمحللين في مقالتهم النقدية أن يفصّلوا وحشية الجيش العربي السوري الذي قصف الأحياء والمستشفيات والمخابز التي يسيطر عليها الثوار في خضم جهوده لتحقيق النصر، لكنهم يخطئون حين يعتبرون المحنة السورية الطويلة صراعاً بين الخير والشر. ما يحصل هو عبارة عن حرب أهلية، وكان عالِم السياسة ستاثيس كاليفاس المتخصص بالحروب الأهلية مُحقاً حين اعتبر هذه الصراعات أكثر همجية من الحروب التي تندلع بين الدول. كانت تجاوزات ميليشيات المعارضة بارزة أيضاً: في المناطق التي سيطرت عليها تلك الميليشيات، لم يبقَ إلا عدد قليل من العائلات المنتمية إلى أقليات عرقية أو دينية بعدما تهجّر آلاف المسيحيين واليزيديين والدروز والأكراد أو تعرّضوا للقتل، كذلك، قُتِل أكثر من 100 ألف علوي من أصل مليونَين ونصف المليون نسمة هناك، في حين تمسّك عدد كبير من أبناء الطبقة الوسطى في المدن بوعود إرساء الاستقرار، حتى لو جاء ذلك الوعد من طرف قمعي بقدر نظام الأسد. نحن لا نريد شيطنة الثوار أو تبرير وحشية النظام، بل نرغب في التشديد على تجاهل الطرفَين لقواعد الحرب المتعارف عليها دولياً لأن كل طرف منهما أدرك على الأرجح أن الهزيمة تعني زواله نهائياً.

أخيراً، كان الادعاء القائل إن العقوبات المستهدفة و"الذكية" لا تؤذي إلا المسؤولين في النظام على خطأ، حيث تكثر البيانات والأدلة التي تثبت عكس ذلك، وهي متاحة للجميع، ولم يختلف أحد يوماً حول آثار العقوبات المدمّرة على الشعب العراقي خلال فترة التسعينيات، ويذكر تقرير المراقبين في الأمم المتحدة أن معالم كارثة إنسانية مشابهة بدأت تتّضح اليوم في سورية، وفي هذا السياق، يقول المقرر الخاص للأمم المتحدة إدريس الجزائري إن "العقوبات أحادية الجانب التي فُرِضت على سورية سبّبت معاناة لا توصف للناس العاديين، وستكون مساعي محاربة انتهاكات حقوق الإنسان عبر فرض العقوبات أشبه بمحاولة إطفاء الحرائق بالنار بدل الماء"، لذلك يجب أن يأخذ صانعو السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا تحذير الجزائري بالاعتبار!

*أدهم سحلول وسناء سكرية وساندي القطامي

لحملة "من أجل سورية" في عام 2016 تقرير يكشف أن الأمم المتحدة سمحت للنظام السوري بتوجيه 88% من المساعدات الغذائية نحو المناطق التي يسيطر عليها

النظام والمعارضة تجاهلا قواعد الحرب المتعارف عليها دولياً لأنهما أدركا على الأرجح أن الهزيمة تعني زوال المهزوم نهائياً

العقوبات لا تُعتبر خياراً بديلاً عن الحرب في جميع الحالات ولن تكون الخيار المناسب أصلاً
back to top