الولايات المتحدة تُسهّل صمود النظام في فنزويلا

نشر في 16-10-2020
آخر تحديث 16-10-2020 | 00:00
بعد مرور عشرين سنة على ثورة فنزويلا الملطخة، أصبح اقتصاد هذا البلد الأميركي الجنوبي رمزاً حقيقياً للرأسمالية الوحشية التي أمضى تشافيز مسيرته وهو يستنكرها، حيث تستفيد أقلية من الفنزويليين من التحويلات المالية ورواسب الاقتصاد الإجرامي المحلي، لكنّ أعباء الأزمة الإنسانية الكبرى في فنزويلا تقع على عاتق أضعف الناس.
بحلول نهاية 2020 سيتراجع الدخل الفردي في فنزويلا إلى أقل من ثلث المتوسط الذي كان عليه حتى انتهاء عهد الرئيس هوغو تشافيز ووفاته في عام 2013، وهذا الانكماش يساوي تداعيات ثلاث حالات من الكساد العظيم ويُعتبر الأخطر في تاريخ اقتصادات أميركا اللاتينية وواحداً من حالات الانكماش العشر الأولى في تاريخ العالم، وفي الوقت نفسه غادر أكثر من خمسة ملايين شخص البلد، أي نحو سدس العدد السكاني، وارتفعت معدلات الفقر بثلاثة أضعاف، ونادراً ما يواجه أي بلد تدهوراً قوياً لهذه الدرجة في مستوى المعيشة خارج زمن الحرب.

مع ذلك، يلازم حاكم فنزويلا نيكولاس مادورو قصر "ميرافلوريس" الرئاسي وقد رفض التحرك من مكانه رغم الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يواجهها بلده، وتُعتبر غير مسبوقة في هذه القارة، رغم العقوبات المفروضة على قطاع النفط واعتراف 58 بلداً بخصمه خوان غوايدو رئيساً شرعياً لفنزويلا. عملياً، أصبح مادورو اليوم ثاني مسؤول يحكم لهذه الفترة الطويلة في بلدان أميركا اللاتينية بعد رئيس نيكاراغوا دانيال أورتيغا الذي حاول الأميركيون أيضاً الإطاحة به لكنهم فشلوا.

استفاد مادورو، في خضم محاولاته التصدي لهذه الضغوط، من أفعال الولايات المتحدة التي تغفل عن الوقائع على ما يبدو، فمن حق مادورو أن يلوم واشنطن على دورها في تأجيج الأزمة الاقتصادية في فنزويلا ويتكلم عن العقوبات العدائية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على البلد، لكنّ شبح الإجراءات العدائية الخارجية ساعد مادورو في حشد دعم الجيش لقيادته. كذلك، زادت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة سيطرة الدولة على المواطنين الفنزويليين العاديين، لذلك يجب أن يتقبل صانعو السياسة الأميركية هذا الواقع المزعج لأنهم سهّلوا استمرار سطوة مادورو على السلطة.

ربما كانت أزمة الاقتصاد الكلي في فنزويلا متوقعة، لكنّ ضخامتها فاقت جميع التوقعات، وكان الانهيار الاقتصادي الداخلي أقوى بمرتين من الانهيار الذي تلا أسوأ موجات "شعبوية الاقتصاد الكلي" في المنطقة، على غرار ما حصل في البيرو ونيكاراغوا في أواخر الثمانينيات.

بدت أزمة فنزويلا أسوأ من غيرها أيضاً لأنها تزامنت مع خسارة أهم مصدر لعائدات العملات الأجنبية، ففي 2012 كانت فنزويلا تنتج 2.4 مليون برميل نفط يومياً وبقيت المداخيل التي تدرّها تلك المبيعات (شكّلت المصدر الوحيد لعائدات الصرف الأجنبي في الاقتصاد خلال تلك الفترة) كافية لدفع كلفة واردات بقيمة 3200 دولار لكل مواطن فنزويلي سنوياً. لكن بحلول 2020، تراجع إنتاج النفط إلى 339 ألف برميل يومياً وبالكاد يستطيع اليوم تحمّل كلفة واردات قيمتها أقل من 200 دولار للشخص الواحد سنوياً.

غالباً ما تتكل الاقتصادات "البتروستاتية" على الواردات (يعتمد هذا الاقتصاد بشكلٍ أساسي على استخراج النفط أو الغاز الطبيعي وتصديرهما)، ولم تكن فنزويلا استثناءً من القاعدة.

تصبح معظم النشاطات في القطاعات غير النفطية ممكنة في هذا النوع من الاقتصادات بفضل البضائع المستوردة بعد شرائها بالدولارات التي ينتجها قطاع النفط، وتشكّل الخدمات جزءاً كبيراً من الناتج المحلي الإجمالي وتحتاج السلع القليلة المخصصة للتجارة من إنتاج فنزويلا (مثل تجميع السيارات) إلى واردات كثيرة، بحيث يكون هذا الاقتصاد محكوماً بالتفكك دوماً حين تنهار صادرات النفط، وتبخّر أكثر من تسعة أعشار عائدات التصدير في فنزويلا بعد 2012، مما أدى إلى مستوى هائل من الانكماش.

العقوبات وتداعياتها المؤلمة

تهتم البلدان "البتروستاتية" بالحفاظ على نفسها، ولهذا السبب تمتنع عن قتل الدجاجة التي تبيض لها ذهباً، ومع مرور الوقت تمكنت كاراكاس من إدارة جزء كبير من قطاعها النفطي عبر مشاريعها المشتركة مع شركات متعددة الجنسيات مثل "شيفرون" وإيني" و"توتال"، فكانت هذه التدابير جزءاً من الأدوات التي سمحت للبلد بإعادة الاستقرار إلى إنتاج النفط، بمعدل 2.4 مليون برميل يومياً بين العامين 2008 و2015، لكن هذا النموذج تعرّض لضغوط شديدة في 2016، حين تراجعت أسعار النفط إلى أقل من 30 دولاراً للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات، وبسبب هبوط الأسعار اضطرت شركات كثيرة لتخفيض إنتاجها، وتعافت أسعار النفط مجدداً في 2017، لكن تابع إنتاج النفط في فنزويلا هبوطه على نحو غريب.

أثرت العقوبات الأميركية بقوة على الانهيار الذي شهده البلد في المرحلة اللاحقة، ففي أغسطس 2017 شطبت واشنطن الحكومة الفنزويلية والشركات المملوكة للدولة والمشاريع المشتركة بين القطاعَين العام والخاص من أسواق الائتمان الدولية، ثم منعت إدارة ترامب جميع أنواع تجارة النفط بين فنزويلا والولايات المتحدة في يناير 2019، وفي فبراير من هذه السنة فرضت عقوبات على الشركات الأجنبية، مثل شركة الطاقة الروسية العملاقة "روسنفت"، مما ساهم في نقل النفط الفنزويلي إلى أسواق غير أميركية. وتراجع إنتاج النفط في فنزويلا بقوة بعد كل قرار مرتبط بهذه العقوبات، حتى أن بعض التقديرات ينسب جميع خسائر الإنتاج بعد العام 2017 إلى العقوبات الاقتصادية الأميركية.

يشتق الانهيار الاقتصادي في فنزويلا من أزمتَين: حصلت الأزمة الأولى بين العامين 2013 و2016، وهي تعكس التداعيات النموذجية والمتوقعة في أي اقتصاد يحكمه الشعبويون، ولكن بدءاً من 2016، اجتاحت أزمة سياسية الاقتصاد أيضاً وشكّلت آخر مسمار في نعش قطاع النفط الفنزويلي.

كانت العقوبات الأميركية إذاً جزءاً من مشهدٍ أوسع حيث تصبح الأزمات السياسية سامة لدرجة أن تُسقِط اقتصاداً بأكمله، وقد بدأت هذه الأزمة في 2016، حين دعت المعارضة الفنزويلية إلى إجراء استفتاء لإسقاط مادورو من السلطة، فمنع مادورو ذلك الاستفتاء في أكتوبر من تلك السنة لأنه كان سيخسر فيه حتماً. ثم استعملت المعارضة الغاضبة نفوذها في البرلمان لمنع الحكومة من تلقي أي تمويل دولي، ففي بداية 2017، أعلنت "الجمعية الوطنية" التي تسيطر عليها المعارضة أمام البنوك الأجنبية والوسطاء الماليين أنها ستطعن بشرعية أي قرض يصل إلى نظام مادورو، وردّاً على انتهاكات النظام لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، بدأ المعارضون وداعموهم، بما في ذلك الولايات المتحدة، يلوّحون بالمخاطر القانونية وتضرّر سمعة كل من يتعامل مع فنزويلا لدرجة أن يصبح أي تعامل مماثل ممنوعاً على الجهات المحترمة.

فشلت هذه الاستراتيجية في إقناع مادورو بالتراجع، لكنها شكّلت ضربة موجعة للاقتصاد الفنزويلي، ويعارض جزء كبير من الفنزويليين العقوبات النفطية الأميركية، فقد أوصلت المعارضة المحاصرة نفسها إلى مأزق يستحيل الخروج منه حين حاولت تبرير الأسباب الكامنة وراء زيادة صعوبة الحياة أمام الفنزويليين، ولم يكن مفاجئاً أن تتراجع نِسَب تأييد غوايدو إلى 24% وفق استطلاعات معهد "داتاناليسيس".

صمود النظام أولاً!

يُفترض ألا يكون نجاح مادورو في إحكام قبضته على السلطة خلال هذه المحنة حدثاً مفاجئاً، ففي هذا السياق صرّح ديفيد كوهين وزوي واينبيرغ لصحيفة "فورين أفيرز" في السنة الماضية بأن العقوبات قد تنجح في إقناع الحكومات بتغيير سلوكها أحياناً، لكنها لا تقنع الأنظمة الاستبدادية بالتخلي عن السلطة. حتى أنها قد تعطي أثراً معاكساً في هذه الحالة: تُقنِع العقوبات الحكام المستبدين بأن الخيارات المنطقية لرحيلهم من السلطة معدومة وبأن فرص نجاح أي عملية انتقالية يتم التفاوض عليها تبقى منخفضة.

في الأنظمة الديمقراطية الناجحة، غالباً ما تؤدي الأزمات الاقتصادية إلى استبعاد الأنظمة الحاكمة خلال الانتخابات، وفي المقابل، تبسط الأنظمة الاستبدادية سلطتها على المجتمعات حين يزداد الناس فقراً، فعندما خاض تشافيز حملته مثلاً لإعادة انتخابه للمرة الثالثة حين بلغت فورة النفط ذروتها في 2012، عرضت حكومته شققاً جديدة ومليئة بأجهزة صينية الصنع على أتباعه. وبعد مرور ست سنوات، وزّع مادورو مكافآت نقدية بقيمة عشرة دولارات على الناخبين المحتملين، وبرأي عدد كبير من الفنزويليين، كان رفض مكافأة مادورو بالغ الصعوبة لأنهم يجنون دولارَين فقط شهرياً.

وفي حين يتخذ اقتصاد فنزويلا طابعاً غير رسمي مع مرور الأيام وتتجه عناصر إجرامية إلى السيطرة عليه تدريجاً، يزيد إصرار النظام على التمسك بالسلطة، وفي مساحات الأمازون في فنزويلا أشرفت عصابات مسلّحة على انفجار مرتبط بنشاطات تعدين غير شرعية بتعاون ضمني مع قوات الأمن المحلية، إذ يؤمّن مادورو حاجات حلفائه في الجيش عبر توزيع السلطات على هذا النوع من الإقطاعيات الخارجة عن القانون.

تمكّن مادورو من طلب مساعدة حلفائه المختلفين مع الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى، حيث وفّرت الصين وروسيا القروض بكل سرور وقدمتا المساعدات الإنسانية للتعامل مع فيروس كورونا. كذلك، أرسلت إيران شحنات ضرورية من البنزين، وهي تساعد فنزويلا على إصلاح بناها التحتية الخاصة بتكرير النفط، وكانت تركيا واحدة من أهم شراة الذهب الفنزويلي، وكلما توسّعت معارك إدارة ترامب في الخارج، زاد تكاتف خصومها.

تكيّفت حكومة مادورو مع هذه الظروف المضطربة كي تضمن صمودها، حتى أنها قبلت بالدولرة وخففت دعم الوقود بدرجة كبيرة. كذلك، أدى المواطنون الفنزويليون العاديون دورهم في هذا المجال، واليوم يرسل العمال المهاجرون نحو 4 مليارات دولار إلى بلدهم الأم على شكل تحويلات مالية، فيسهمون بذلك في تدعيم اقتصاد بلدهم، وخلال هذه السنة وللمرة الأولى منذ فترة العشرينيات، ستتلقى فنزويلا الدولارات من التحويلات المالية أكثر من صافي صادرات النفط.

حياة الفنزويليين مهمة أيضاً!

بعد مرور عشرين سنة على ثورة فنزويلا الملطخة، أصبح اقتصاد هذا البلد الأميركي الجنوبي رمزاً حقيقياً للرأسمالية الوحشية التي أمضى تشافيز مسيرته وهو يستنكرها، حيث تستفيد أقلية من الفنزويليين من التحويلات المالية ورواسب الاقتصاد الإجرامي المحلي، لكنّ أعباء الأزمة الإنسانية الكبرى في فنزويلا تقع على عاتق أضعف الناس، بحيث يعاني طفل واحد من كل ثلاثة أولاد فنزويليين من قصر القامة بدرجة غير طبيعية نسبةً إلى عمره بسبب تفاقم مظاهر سوء التغذية.

تبقى أي عملية انتقالية سياسية في فنزويلا غير مؤكدة في أفضل الأحوال، وفي الوقت نفسه يحتاج الفنزويليون إلى حماية عاجلة من تداعيات الأزمة المحلية، ففي وقتٍ سابق من هذه السنة، وقّعت "الجمعية الوطنية" التي تسيطر عليها المعارضة وحكومة مادورو على اتفاق لاستيراد 370 ألف حزمة اختبار لفيروس "كوفيد19"، ويُفترض أن تسمح أي مبادرة مماثلة لفنزويلا بالعودة إلى أسواق النفط الدولية مجدداً شرط أن تُستعمَل عائدات مبيعات النفط لأغراض إنسانية تحت إشراف منظمات دولية، ويجب أن يسعى المجتمع الدولي أيضاً إلى الجمع بين الأطراف للتفاوض على هذا النوع من الاتفاقيات.

تتطلب السياسة الأميركية تجاه فنزويلا إعادة تقييم شاملة، وتبقى إزاحة أي نظام استبدادي مهمّة صعبة في جميع الظروف، وقد تكون الديناميات السياسية أفضل من الضغوط الخارجية لتحقيق هذا الهدف، فعملياً، طلبت الولايات المتحدة من الفنزويليين أن يدفعوا ثمن الفظائع التي ارتكبها مادورو، لكنّ الإصرار على هذه المقاربة لن يجعل الأميركيين يكسبون دعم الشعب هناك، بل إنه سيمعن في عزل النظام عن إخفاقاته وانتهاكاته.

*فرانسيسكو رودريغز

نيكولاس مادورو يلازم قصر «ميرافلوريس» الرئاسي ويرفض التحرك من مكانه رغم الأزمة الاقتصادية والإنسانية التي يواجهها بلده

الولايات المتحدة طلبت من الفنزويليين أن يدفعوا ثمن الفظائع التي ارتكبها مادورو، لكنّ الإصرار على هذه المقاربة لن يجعل الأميركيين يكسبون دعم الشعب هناك
back to top