سباق بوتين ولوكاشينكو

نشر في 09-09-2020
آخر تحديث 09-09-2020 | 00:00
من المرجح أن يعتمد لوكاشينكو على استراتيجيته المُجربة والحقيقية للتعامل مع روسيا، وسيُعرب عن نيته في البقاء مُتحيزاً بشكل وثيق مع جارته الشرقية، مؤكداً ارتباطهما الجيوسياسي الممتد لقرون من الزمان.
 بروجيكت سنديكيت كانت التصريحات العلنية التي أدلى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الاحتجاجات الجماهيرية في بيلاروسيا قوية وغامضة في الوقت نفسه، فعلى سبيل المثال، يقول إنه تم إعداد قوة "احتياطية من قوات إنفاذ القانون" للمشاركة المحتملة في بيلاروسيا، لكن هذا قد يعني مجموعة تتكون من رجال المرور وعناصر الشرطة الذين يفرقون المظاهرات وجهاز الأمن الفدرالي الروسي (الخلف الرئيس لجهاز الاستخبارات السوفياتي في الحقبة السوفياتية كي جي بي) والوحدات العسكرية المدججة بالسلاح مثل "روس كفارديا" (الحرس الوطني الروسي).

ما الظروف التي قد تدفع روسيا للتدخل بشكل فعلي؟ يقول بوتين إن هذا "الاحتياطي" لن "يُستخدم طالما لم يخرج الوضع عن السيطرة"، لكن من يقرر ذلك؟ إذا كان الأمر يعود إلى دكتاتور بيلاروسيا المُحاصر ألكسندر لوكاشينكو، فيمكن لبوتين أن يقول إن الكرملين لن يتصرف إلا "بناءً على طلب رئيس الجمهورية المنتخب قانونيا". بعد كل شيء، هذه هي الطريقة التي صاغ بها الاتحاد السوفياتي تدخلاته العسكرية في المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968.

لكن بوتين لم يقل شيئا من هذا القبيل، ففي الواقع، تُشير تصريحاته العلنية إلى أنه يعتقد أنه يجب أن يكون المسؤول عن العملية السياسية في بيلاروسيا لا لوكاشينكو، وقد ترك هذا لوكاشينكو أمام مفارقة واضحة: سيكون من الأفضل المخاطرة بالإطاحة بدلاً من اللجوء إلى بوتين للحصول على الدعم العسكري. يُدرك لوكاشينكو أنه ما دامت السلطة في بيلاروسيا تعتمد على القوة، فإنها تقع على عاتق من يقود معظم القوى الأمنية والعسكرية، فإذا أصبح عدد كبير من الجيش مواليا لشخص آخر، فيمكن تحويل لوكاشينكو إلى دمية في يدي بوتين وإزاحته فعليا من السلطة. هذا من شأنه أن يكون مُناسبا للكرملين، ولكن ليس للوكاشينكو، ومن وجهة نظره، يُشكل المحتجون السلميون تهديدا أقل من القوات الروسية المُسلحة.

من المرجح أن يعتمد لوكاشينكو على استراتيجيته المُجربة والحقيقية للتعامل مع روسيا، وسيُعرب عن نيته في البقاء مُتحيزاً بشكل وثيق مع جارته الشرقية، مؤكداً ارتباطهما الجيوسياسي الممتد لقرون من الزمان (على الرغم من أن هذه العلاقة قد انتهت منذ فترة طويلة). بعد ذلك، سيسعى للحصول على دعم سياسي ومالي مقابل الإعلان عن هذه الالتزامات. لقد أعلن الكرملين بالفعل استعداده لإعادة هيكلة ديون لوكاشينكو القديمة عن إمدادات النفط والغاز، لكن شطب الديون القديمة لا يعني دفع اعتمادات جديدة، وهذا ما يحتاجه لوكاشينكو، ولذلك، من المحتمل أنه يأمل استقرار الوضع الداخلي إلى حد ما حتى يتمكن من ابتزاز الكرملين، وبدلاً من المطالبة بالسداد، قد يُجادل أنه على الكرملين أن يرسل له المزيد من الأموال لدعم الدور الذي تؤديه بيلاروسيا كحاجز استراتيجي ضد حلف شمال الأطلسي.

ومع ذلك فإن التهديد بالعدوان من جانب حلف الناتو تحول على نحو متزايد إلى خدعة، ويُدرك كل من لوكاشينكو وبوتين هذا الأمر، إذ إن عدداً متزايداً من المواطنين، وخصوصا مستخدمي الإنترنت الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما، ليسوا مستعدين مثل الأجيال السابقة لتصديق لوكاشينكو عندما يدعي أن "قوات الناتو تشق طريقها نحو بواباتنا، وأن هناك حشدا من القوات العسكرية على الحدود الغربية لبلدنا".

ومع ذلك، فإن مثل هذا الخطاب يدعم مصالح كل من بوتين ولوكاشينكو، إذ يسمح لهم التهديد الغربي المفترض بتبرير حُكمهم المطول، حيث إن دوافع بوتين واضحة للغاية، فخلال مسيرته السياسية الطويلة، تمتع بثلاث محطات من الشعبية، أعقبت كل منها حملات عسكرية صغيرة مُنتصرة: في الشيشان عام 2000، وجورجيا عام 2008، وأوكرانيا عام 2014، ونظرا إلى هذا السجل الحافل، فليس من المستغرب أنه سيحاول أن يلعب اللعبة نفسها في بيلاروسيا، ويقدم للروس شيئا لامعا آخر يدل على عظمة روسيا. علاوة على ذلك، يسعى بوتين بلا شك للانتقام بعد رفض لوكاشينكو العلني العام الماضي النظر في عملية تكامل أعمق مع روسيا، ففي ذلك الوقت كان بوتين قلقا بشأن انتهاء فترة ولايته في عام 2024 ويأمل إعادة ضبط الساعة من خلال توحيد بيلاروسيا وروسيا في دولة "جديدة" (تحت قيادته بطبيعة الحال)، لكن لوكاشينكو يشعر بالغيرة من سلطته بحيث لا يستطيع تقديم مثل هذه التضحية. في هذه المرحلة، أجرى بوتين بدلاً من ذلك "تصويتا شعبيا" هذا العام لتعديل الدستور وضمان استمرار حكمه حتى عام 2036 على الأقل، ولأن الاستفتاء كان أكثر صعوبة وتكلفة وإثارة للجدل مما كان متوقعا، فإن الكرملين الآن حريص على إذلال ومعاقبة لوكاشينكو، حتى لو كان ذلك يعني شطب ديونه. في هذه الأثناء، كان لوكاشينكو يحاول أيضا قلب الموقف لمصلحته، إذ لم يكن هو وصناع السياسة الوحيدين في أوروبا الذين قاموا بتحليل ملاحظات بوتين حول تشكيل "احتياطي" من قوات إنفاذ القانون، حيث يواجه المتظاهرون في شوارع مينسك وغيرها من المدن البيلاروسية خطر إضعاف دكتاتور واحد فقط ليحل محله دكتاتور أقوى وأبعد، وإذا اتخذت الأحداث منعطفا خطيرا نحو الأسوأ، فقد يواجه البيلاروسيون نزاعا عسكريا عنيفا داخل حدودهم. لكن السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن قوات الأمن البيلاروسية ستستمر في محاولة قمع المظاهرات، وسيقاوم لوكاشينكو مبادرات بوتين الرامية إلى إرسال "الرجال الخضر الصغار"، كما فعل في احتلال شبه جزيرة القرم ثم ضمها في عام 2014.

في الواقع، لا ينبغي لبوتين أن يكلف نفسه عناء التفاوض مع لوكاشينكو ما لم يكن لديه عصا في يده وجزرة في جيبه، ومن الواضح أنه لا يزال لدى الكرملين المزيد من الأوراق الاقتصادية الرابحة في جعبته، ولذلك سيبقى التدخل الروسي في بيلاروسيا شفهيا في الوقت الحالي.

* محلل سياسي مستقل مقيم في موسكو، ومؤلف كتاب الملحمة الإحصائية السوفياتية.

«دميتري أوريشكين »

back to top