افتتاحية: من يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟

نشر في 30-08-2020
آخر تحديث 30-08-2020 | 00:10
No Image Caption
في سبتمبر 2004، وأمام مؤتمر عن «الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية»، قدم الدكتور إسماعيل الشطي (النائب ورئيس اللجنة المالية والاقتصادية الأسبق) ورقة عن «الديمقراطية كآلية لمكافحة الفساد»، ختمها بالقول إن «إفساد الديمقراطية أشد ضرراً من فرض نظام شمولي، لأن من شأنه زعزعة ثقة الناس وإيمانهم بجدوى الديمقراطية وصلاحها»، وضرب مثلاً على دور المال في إفساد الديمقراطية بالكويت بأن أحد أشهر الضالعين في شراء الأصوات الانتخابية في الكويت قد تولى منصب رئيس لجنة حماية المال العام في مجلس الأمة.

من المفيد أن نكرر هنا أن هذه الورقة تعود إلى سبتمبر 2004. ومن المستحق أن نتقدم هنا إلى الدكتور الشطي بالشكر، لأنه لم يحدِّث ورقته.

من الثابت قطعاً أن هناك علاقة ارتباط عكسية بين صلاح الحكم من جهة ودرجة انتشار الفساد من جهة أخرى، فكلما حققت الدولة قدراً أعلى من الديمقراطية والشفافية والمشاركة الشعبية زادت قدرتها على مكافحة الفساد وتطويقه. غير أن الإشكالية الحقيقية ليست في اختيار الديمقراطية باعتبارها النظام السياسي الأفضل لمحاربة الفساد، بل الإشكالية في حماية الديمقراطية ذاتها من الفساد؛ فالنظام الديمقراطي الذي ينخره الفساد يصبح أشد خطراً من النظم الاستبدادية. وألدُّ أعداء الديمقراطية هم الديمقراطيون الفاسدون؛ ذلك أن دور الرشوة المالية والعزوة العائلية والفزعة القبلية والنزعة الطائفية في شراء وتوجيه الانتخابات النيابية أولاً، وفي التحكم بمواقف النواب بعد ذلك، يهز شرعية المقعد البرلماني، ويحول دور المجالس النيابية من التشريع إلى الشرعنة، ومن الرقابة إلى التقرب، وإذا تمكن الفساد من التأثير على تشكيل السلطة التشريعية وتوجهاتها، أصبح بمقدوره أن يفرّغ الحريات من مضامينها، بما في ذلك حرية التعبير، وحرية الوصول إلى المعلومات، وحرية الاقتصاد، بل ربما يصبح بمقدور الديمقراطية الفاسدة وأهلها أن يقوضوا استقلال القضاء، ويجرحوا هيبته ونزاهته. وبالتالي، يمكن القول وبدرجة عالية من الثقة انَّ من المتعذر على أية دولة أن تربح معركتها ضد الفساد بمعزل عن الإصلاح السياسي، لأن المعركة على الجبهتين جزآن من حرب واحدة. وفي الحالة الكويتية - إذن- من المتعذر على الديمقراطية أن تحتفظ بثقة الشعب (ولا نقول أن تستعيد ثقة الشعب) ما لم تربح معركتها ضد الفساد، خصوصاً أن كل أبواب هذه المعركة وأعلاها قد فتحت، وجميع أسلحة هذه المعركة وأعتاها قد استُخدمت.

والفساد هنا لا يقتصر مفهومه على الفساد المالي بل يتسع نطاقه إلى الفساد الإداري والفساد السياسي، ونكاد نقول الفساد المجتمعي... فعرقلة التشريع فساد، وقصور القوانين وثغراتها فساد، واستخدام الآليات البرلمانية لغير أغراضها ودون مراعاة شروطها فساد، والاصطفاف العائلي أو القبلي أو الطائفي فساد.

إننا نعرف تماماً أن مسؤولية الإصلاح تقع في المقام الأول على السلطة التنفيذية قبل غيرها، وعلى قيادات هذه السلطة قبل أجهزتها، ولا يجوز لها في هذا الصدد أن تتنازل عن صلاحياتها الكاملة للنهوض بهذه المسؤولية، ولا يجوز لها أن تضع صلاحياتها موضع المساومة للخروج من مأزق ما، أو للمحافظة على وزير ما، ولكننا نعرف تماماً أيضاً أن الحكومة - أي حكومة - لا يمكن أن تنجح في إحداث التغيير المطلوب، ما لم يساعدها مجلس الأمة في ذلك بعيداً عن تهديد «المقصلة»، ودون ربط هذا التعاون بمصالح شخصية، أو استعمال أدواته الدستورية وعينه على صندوق الانتخاب.

وإذا كنا اليوم نوجه مقالتنا هذه إلى أعضاء مجلس الأمة المحترمين بالذات، فلأن حماية الديمقراطية والسمو بممارستها، والعمل على تطويرها هي - وبالمقام الأول أيضاً - مسؤولية ممثلي الشعب، فمقالتنا لا تهدف إلى انتقاد مجلس الأمة أو إلى امتداح غيره، بل هي تعبير عن هَمٍّ وطني مرهق، ضاقت بحمله صدورنا، وضاعت في دهاليزه خطواتنا، فرأينا أن نفصح بكل إخلاص وصراحة عن خوفنا وتخوفنا؛ خوفنا على مجلس الأمة باعتباره عنوان ديمقراطيتنا ومحل تفردنا بالمنطقة كلها، وتخوفنا من نتائج العبث السياسي الذي تمارسه قلة من أعضائه.

فالتحديات الحقيقية - كما قال سمو نائب الأمير ولي العهد – «لا تحتمل ترف المماحكات وتسجيل النقاط والانحراف باستخدام الأدوات الدستورية، ولابد من تصويب مسار العمل واستشعار المخاطر والتصدي للقضايا الجوهرية».

إن الدول الأقدر على البقاء ليست الأكثر قوة أو الأكثر غنى، بل هي الأسرع تجاوباً مع التغيير، وكل مياه البحر لا يمكنها أن تغرق سفينة ما لم يتسرب الماء إلى داخلها، وإن هذا الحراك النيابي السريع العنيف المفاجئ المعوِّق نذير صارخ لخطورة الاستمرار في نهج الهروب من التغيير والإصلاح، والرهبة من اتخاذ القرار الشجاع والصعب والصحيح، وهو دليل صارخ على أن العديد من النواب لم ينجحوا في الانتقال من مقاعد نيابة الدائرة الانتخابية إلى مواقع تمثيل الأمة. وبالتالي، لم يفلحوا في التحرر من أسر المصالح الضيقة إلى رحاب قضايا الوطن، فاستمروا أطرافاً في الخلافات، وشركاء في الخطايا، فلم يتمكنوا من الوصول إلى مواقع القدوة، ولم يرتفعوا إلى صعيد المرجعية الوطنية.

يا نواب الشعب يا ملح البلد

من يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟

back to top