دور دونالد ترامب في تعطيل السياسة الخارجية الأميركية

نشر في 28-08-2020
آخر تحديث 28-08-2020 | 00:02
انسحاب القوات الأميركية من شمال سورية في أواخر عام 2018
انسحاب القوات الأميركية من شمال سورية في أواخر عام 2018
بعد ثلاثة أعوام ونصف العام في قيادة السياسة الخارجية الأميركية لم يلمس ترامب أي شيء يمكن أن يدفعه الى تغيير رأيه، وفي خطابه أمام خريجي كلية وست بوينت العسكرية في هذه السنة استخدم ترامب منطقاً مماثلاً حول استخدام القوة العسكرية.
من خلال العمل في التخطيط الهادف الذي بدأ في عهد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت تمكن الرئيس ترومان وكبار مستشاريه من بناء نظام دولي جديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد تبنت الولايات المتحدة مبدأ الاحتواء الذي أرشد سياستها الخارجية طوال أربعة عقود خلال صراعها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، وحولت ألمانيا واليابان الى ديمقراطيات كما أقامت شبكة من التحالفات في آسيا وأوروبا ووفرت لأوروبا المساعدة اللازمة للوقوف على قدميها ضمن خطة مارشال وقدمت المساعدات العسكرية والاقتصادية الى دول كانت عرضة لسيطرة الشيوعيين بموجب مبدأ ترومان، وأسست طائفة من المنظمات الدولية شملت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة الدولية، اضافة الى تأسيس جهاز مجلس الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع.

وقد يكون من المستحيل تصور قيام أحد مديري الأمن القومي في ادارة الرئيس ترومان بكتابة مذكرات تشمل كلمة "إنشاء" في عنوانها، والمشكلة تكمن في أن البناء ببساطة لم يكن غاية رئيسة للسياسة الخارجية للادارة الحالية، بل العكس من ذلك، حيث تركز اهتمام الرئيس ترامب وحاشيته على التفريق وتحطيم الماضي.

من جهة أخرى ورث ترامب نظاماً غير كامل لكنه رفيع القيمة ضمن سياق تضمين الرعاية الصحية في السياسة الخارجية، ثم حاول سحبه من دون طرح بديل، وكانت النتيجة وجود ولايات متحدة وعالم أسوأ حالاً الى حد كبير. واذا استمر هذا الاضطراب، أو تسارع، وهناك سبب للاعتقاد بحدوث ذلك في حال فوز ترامب بفترة رئاسية ثانية، فإن كلمة "الدمار" قد تكون التعبير الأصح لوصف هذه الفترة في السياسة الخارجية الأميركية.

السجل الأميركي القاتم

دخل دونالد ترامب الى المكتب البيضاوي في يناير 2017 وهو على قناعة بأن السياسة الخارجية الأميركية في حاجة الى تمزيق وغربلة، وفي خطابه الافتتاحي طرح صورة قاتمة لسجل الولايات المتحدة:

بعد ثلاثة أعوام ونصف العام في قيادة السياسة الخارجية الأميركية لم يلمس ترامب أي شيء يمكن أن يدفعه الى تغيير رأيه، وفي خطابه أمام خريجي كلية وست بوينت العسكرية في هذه السنة استخدم ترامب منطقاً مماثلاً حول استخدام القوة العسكرية.

وتجدر الاشارة الى أن فهم ترامب الضيق وغير الكافي لمصالح الولايات المتحدة وأفضل السبل لمتابعتها وتحقيقها قد رسم أسلوب الادارة الأميركية في متابعة قضايا اخرى أيضاً، وعندما يتعلق الأمر بالجيش كانت شهية الرئيس ترامب للتعطيل جلية تماماً من خلال سحب القوات العسكرية- أو التهديد بالقيام بتلك الخطوة– وفي أغلب الأحيان مع القليل من التفكير حول سبب وجود تلك القوات في الخارج في المقام الأول أو عواقب القيام بمثل تلك الخطوة.

المعروف أن كل الرؤساء الأميركيين اتخذوا قرارات باستخدام القوة العسكرية على أساس كل حالة على حدة، وقد اتسم تصرف ترامب- مثل باراك أوباما في هذا الشأن– بالحذر الى حد كبير والحرص على عدم التورط في عمل عسكري، وكان قراره حول استخدام القوة ضد سورية وإيران محدوداً كما أن تهديده بتوجيه ضربات نارية الى كوريا الشمالية تراجع بسرعة على الرغم من استمرار كوريا الشمالية في بناء ترسانتها النووية والصاروخية.

وفي غضون ذلك انسحبت تهديدات ترامب المتعلقة بالانسحاب على ميادين النزاع وعلى الأماكن التي تمركزت فيها القوات الأميركية منذ عقود من الزمن بغية منع اندلاع حرب. وفي سورية، على سبيل المثال، أصيبت القوات الكردية وهي شريكة للولايات المتحدة بصدمة عندما أعلن ترامب فجأة عزمه على سحب القوات الأميركية من ذلك البلد في أواخر عام 2018، وفي أفغانستان يبدو أن درجة قليلة من التفكير جرت إزاء ما قد يحدث للحكومة في كابول بعد انسحاب القوات الأميركية من ذلك البلد.

اختلاف النتائج

ولكن يتعين التمييز بين أخطاء الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وضرورة تفادي مثل تلك الحروب في المستقبل، وبين وجود القوات الأميركية في ألمانيا واليابان أو كوريا الجنوبية حيث حافظت على الاستقرار منذ عقود طويلة.

وكان إعلان الإدارة الأميركية عزمها على سحب 9.500 جندي أميركي من ألمانيا في يونيو الماضي، الذي أعقب رفض مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل التوجه الى واشنطن من أجل حضور قمة الدول الـ7 بسبب الخشية من وباء كورونا، خطوة تتماشى مع تصور ترامب حول الالتزامات العسكرية الخارجية، وقد دفع ذلك القرار الأميركي الذي تم من دون تشاور مع برلين- كما كانت الحال عندما أعلنت واشنطن إلغاء المناورات العسكرية الرئيسة مع كوريا الجنوبية من دون تشاور مع سيئول– دفع الوضع الى مزيد من السوء.

وفي الشرق الأوسط، قوضت سياسة ترامب أيضاً أهداف الولايات المتحدة وزادت احتمال حدوث عدم استقرار في ذلك الجزء من العالم، وطوال خمسة عقود عملت الولايات المتحدة بدور الوسيط النزيه في النزاع الفلسطيني– الإسرائيلي، وكان الكل يعرف أن واشنطن وقفت الى جانب إسرائيل، ولكن ليس بالقدر الذي يمنعها من الضغط على تل أبيب عند الضرورة.

وقد تخلت إدارة ترامب التي اقتنعت بضرورة اتخاذ أسلوب جديد عن أي ادعاء حول ذلك الدور، وامتنعت عن القيام بأي عملية سلام حقيقية منطلقة من الظن الخطأ بأن الفلسطينيين كانوا أضعف من أن يقاوموا وأن الحكومات العربية ستشيح بوجهها لأنها تريد العمل مع اسرائيل ضد ايران، وقد فرضت الادارة الأميركية عقوبات على الفلسطينيين على الرغم من قيامها بنقل السفارة الأميركية الى القدس واعترافها بضم اسرائيل لمرتفعات الجولان السورية، كما طرحت "خطة سلام" مهدت لضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية.

الأخطار المحتملة

وتشتمل تلك السياسة على خطر زرع عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وتغلق الأبواب أمام فرص لصنع السلام في المستقبل اضافة الى تهديد مستقبل اسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية.

وفيما يتعلق بالعلاقة مع إيران عزلت الإدارة الأميركية نفسها بدرجة تفوق عزلة طهران، وفي عام 2018 انسحب ترامب بشكل انفرادي من الاتفاق النووي مع إيران وفرض جولة جديدة من العقوبات التي ألحقت الضرر بالاقتصاد الإيراني، كما كانت الحال بعد اغتيال قائد قوة القدس في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني، وهي العملية التي شكلت نكسة لطموحات ايران الاقليمية، ولكن العمليتين لم تكونا كافيتين لإحداث تغييرات أساسية في سلوك إيران في الداخل أو الخارج أو اسقاط نظام طهران وهو ما تسعى اليه ادارة ترامب.

في غضون ذلك بدأت إيران خطوات الخروج من برامج الاتفاق النووي من خلال التدخل في العراق ولبنان وسورية واليمن وتستمر في رسم الأحداث في معظم دول الشرق الأوسط.

واجه ترامب في بداية رئاسته مجموعة واسعة من الصعوبات اشتملت على قوة متزايدة منافسة من الصين وشرق أوسط مضطرب وخطر تهديد نووي من جانب كوريا الشمالية وعمليات قرصنة سبرانية واسعة وتهديدات إرهابية وتغير سريع في المناخ.

التحديات الصعبة

معظم المشاكل التي ورثها ترامب أصبحت أكثر سوءاً الى درجة أنه ببساطة تجاهل الكثير منها ولم يكن الاهمال من النوع الذي يمكن التسامح معه، كما أن وضع الولايات المتحدة في العالم ازداد سوءاً بسبب ضعف معالجتها لوباء كورونا وإنكارها لتغير المناخ ورفض اللاجئين والمهاجرين واستمرار موجة العنصرية، وإضافة الى كل ما سبق فإن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر أقل جاذبية فقط بل أقل ثقة بعد انسحابها من اتفاقيات متعددة الأطراف وابتعادها عن الحلفاء بشكل يصعب معه بعد الآن التعويل عليها.

وتوصل حلفاء الولايات المتحدة الى نظرة تفيد بأنها أصبحت مختلفة عن سابق عهدها، ومعروف أن الأحلاف تقوم على الموثوقية وما من حليف سينظر الى الولايات المتحدة بالشكل االذي عهده من قبل، كما أن بذور الشك قد زرعت وإذا حدثت مرة يمكن أن تحدث ثانية ومن الصعب المطالبة بالعرش بعد التنازل عنه.

والأكثر من ذلك سيواجه الرئيس الجديد طائفة من القيود تتمثل باستمرار انتشار وباء كورونا ومعدلات البطالة العالية والانقسامات السياسية العميقة والمؤثرة، ويحدث ذلك كله في وقت تكافح البلاد فيه لعلاج غياب العدالة العنصرية وتنامي اللامساواة، وستشهد البلاد مرحلة من الضغوط من أجل التركيز على تصحيح الجبهة الداخلية وتقليص الطموحات في الخارج.

ولا تزال الاستعادة الجزئية للسياسة الخارجية الأميركية ممكنة على أي حال، وفي وسع الولايات المتحدة الالتزام بإعادة بناء علاقاتها مع دول حلف شمال الأطلسي اضافة الى حلفائها في آسيا، والعودة الى الكثير من الاتفاقيات التي خرجت منها وتعديل سياستها حول الهجرة.

لا عودة إلى الماضي

ولكن ما من سبيل الى عودة الأوضاع الى ما كانت عليه في الماضي، وقد تكون أربع سنوات فترة طويلة في مقياس التاريخ، لكنها طويلة بما يكفي لجعل الأشياء تتغير بصورة لا رجعة عنها، وعلى سبيل المثال أصبحت الصين أكثر ثراء وقوة، وتملك كوريا الشمالية المزيد من الأسلحة النووية ونوعية أفضل من الصواريخ، كما أن تغير المناخ أصبح أكثر تقدماً، وتم نقل السفارة الأميركية الى القدس وتمكن نيكولاس مادورو من ترسيخ سلطته في فنزويلا، وكذلك بشار الأسد في سورية، وهذه هي الحقائق الجديدة في الوقت الراهن.

واذا أعيد انتخاب ترامب فقد يضاعف العناصر المركزية في سياسته الخارجية التي رسمت فترة ولايته الأولى، وعند بعض النقاط قد لا تكون ثمة فرصة الى العودة عنها مع ما يشتمل عليه ذلك من فوضى ودمار.

ونتيجة لذلك سيضعف أو يختفي عدد لا يحصى من القوانين والتحالفات والمعاهدات والمؤسسات ويتحول العالم الى وضع يحارب فيه الناس بعضهم بعضا، وستتمثل الحصيلة عندئذ في انتشار النزاعات وتراجع الديمقراطيات اضافة الى زيادة انتشار الأسلحة النووية نتيجة فقدان التحالفات القدرة على طمأنة الأصدقاء إزاء الحماية من الأعداء، ومع هذه التطورات ستنمو التجارة بصورة بطيئة في أحسن الأحوال، وقد تنكمش بشكل تام، ويفقد الدولار موقعه الفريد في الاقتصاد العالمي لصالح بدائل مثل اليورو وربما العملة الصينية مع ازدياد أهمية العملات الرقمية، وقد تصبح ديون الولايات المتحدة مشكلة رئيسة، ويعقب ذلك بكل تأكيد انهيار النظام العالمي الذي انطلق قبل 75 عاماً مع غموض البديل.

*ريتشارد هاس

كلمة «الدمار» قد تكون التعبير الأصح لوصف حقبة ترامب في السياسة الخارجية الأميركية

إذا أعيد انتخاب ترامب فقد يضاعف العناصر المركزية في سياسته الخارجية التي رسمت فترة ولايته الأولى
back to top