افتتاحية: الإصلاح بين رهاب صندوق الانتخاب وإرهاب منصة الاستجواب

نشر في 16-08-2020
آخر تحديث 16-08-2020 | 00:10
No Image Caption
من البداية، وقبل أن تذهب الظنون بعيداً بهؤلاء الذين لا يستطيعون التفكير إلا من خلال طبع أنفسهم، نقول إن هذه الافتتاحية لا ترمي أبداً إلى الدفاع عن أي «مستجوَب»، ولا تعنى إطلاقاً بدعم أو لوم أي «مستجوِب»... فنحن نعرف – مثل كثيرين غيرنا- أن بين أعضاء الحكومة من يستحق سحب الثقة، ونحن - في المقابل، ومثل كثيرين غيرنا- نعلم أن بين أعضاء مجلس الأمة من لا يؤهّله تاريخه السياسي إلا لاستجواب نفسه.

هذه الافتتاحية أمْلَتها الغيرة الصادقة على الديمقراطية الكويتية رغم كل نواقصها، وعلى مؤسستها البرلمانية رغم كل عيوبها.

هذه الافتتاحية أمْلَتها المخاوف المتزايدة والمبرَّرة على مرجعية ومصداقية مجلس الأمة، بعد أن أسرف بعض أهله عليه وعلى أنفسهم، حين جعلوا من المقعد النيابي منطلق مشاركة في الحكم ووصاية على الشعب، بدل أن يكون موقعاً يمارِس مساءلة الحكومة كممثل للشعب، ويُصدر التشريع ويرشده ويسدده لخدمة الشعب، وبذلك حمّلوا مجلس الأمة ما يفيض عن طاقته، ويخرج به عن نطاقه، ويتجاوز به حدود فصل السلطات، لتتناقض المواقف، وتتماهى المسؤوليات.

نحن نعرف تماماً أن الاستجواب حق من حقوق نواب الأمة، وأداتهم الدستورية الأقوى، التي تساعدهم على النهوض بمسؤولياتهم التشريعية والرقابية، وبالتالي فإن احترام هذا الحق والوعي بأهميته والحرص على تمكينه أمر محسوم لا جدال فيه ولا خوف عليه.

ونحن نعرف - بالمقابل - أن ممارسة هذا الحق مشروطة بالتزام الشرعية الدستورية وباحترام المشروعية الوطنية؛ فلا حق في الاستجواب إلا للنائب الذي يتوخى الحقيقة ويستند إليها ويملك أسانيدها. ولا حق في الاستجواب إلا للنائب الذي يؤدي رسالته باعتباره ممثلاً للأمة بأسرها، لا ممثلاً لعائلة أو فريق، ولا لطائفة أو قبيلة، والشرعية الدستورية للاستجواب - على سموّها- سرعان ما تضعف سلطتها وتتهافت حصانتها إذا ما تعسف المستجوِب في استخدام هذا الحق، وهو ما أوضحه الفقه الإسلامي، حين وصف هذا التعسف بأنه «الاستعمال المذموم للحق» و«استعمال الحق في غير ما شُرِّع له».

أما المشروعية الوطنية للاستجواب، فترتبط بمراعاة المصلحة العامة، وترتبط بمواءمة الظروف وملاءمة التوقيت؛ فلا مراعاة للمصلحة العامة في استجوابات تتكرر وتتداخل محاورها، ويتواصل نصب منصاتها أو مقصلاتها في أواخر أيام الدور التشريعي، وقبل أسابيع من موعد الانتخابات التالية، ودون التدرج في استخدام الأدوات الرقابية الأخرى. ولا مواءمة ولا ملاءمة في ظروف وتوقيت استجوابات تباغت الشعب كله، وهو يتابع بكل محبة وولاء ورجاء الوضع الصحي لأميره والدعاء له. ولا مواءمة أو ملاءمة في التوقيت للتسابق إلى تقديم الاستجوابات بوقت يعاني فيه العالم كله تداعيات جائحة صحية غير مسبوقة، تقطعت بسببها سبل، وانهارت قدرات، وتدهورت اقتصادات، ولا مواءمة ولا ملاءمة في توقيت وظروف تعيش فيها المنطقة كلها أحزان كارثة بيروت ومخاوف تبعاتها. ولا مصلحة عامة ولا مواءمة وطنية لاستجوابات تستأثر، وبصورة متواصلة، بجهود الحكومة، ويضيع في دهاليزها وقت نواب الأمة جميعاً، بدل أن تتضافر كل الجهود في المجاهدة الصادقة والعازمة ضد الفساد الذي أصبح أشبه بجائحة الجراد تقضم إنسانية الكويت وسمعتها واقتصادها، وبدلَ أن تجري تعبئة كل الإمكانات لتعزيز أمن البلاد الداخلي والخارجي، وتجنُّب حرائق المنطقة التي يلفح لهيبها وجوهنا، ويتطاير شررها فوق سمائنا.

أتراه الرهاب من استحقاق الانتخاب هو الذي يدفع بهذا التسابق نحو استجوابات «الاستعراضات وتلميع الصورة»، واستجوابات «تصفية الحسابات»، واستجوابات «المقايضة مع استجوابات أخرى»؟

أم تراه السعي إلى خلط الأوراق وتشتيت الجهود إضعافاً لأوسع وأشمل حملة لمحاربة الفساد، هو الذي جعل رئيس الوزراء بالذات متهماً بالإخفاق، وجعل نائبه وزير الداخلية بالذات متهماً بالتربح وإساءة استعمال السلطة وانتهاك القانون؟

لا يهمنا كثيراً ما ستؤول إليه جلسات الاستجواب، فالتصويت في نهايتها يتعلق بالثقة السياسية لأعضاء مجلس الأمة ليس إلا، والثقة السياسية - بطبيعتها - كأسعار الأسهم، ترتفع وتنخفض تبعاً للعرض والطلب، خصوصاً أن البورصة السياسية في الكويت - مثل بورصة الأوراق المالية - تفتقد صناع السوق، فالحكومة ليست لها أكثرية ثابتة تستند إليها، والمعارضة ليست لها رؤية واضحة توحد صفوفها، والنواب تنتقل مواقفهم بين هذه وتلك بيسر وسهولة ودون أي إحراج.

ولكن ما يهمنا فعلاً، ويؤرقنا فعلاً، هو التخوف من أن يؤدي العبث السياسي هذا إلى إضعاف ثقة المواطن بالديمقراطية ومؤسساتها، بعد أن أتعبه وأرهقه الانفصام الحاد بين النظرية والممارسة، بين الأقوال والأعمال. تعب المواطن الكويتي من انفصام العمل السياسي عن العمل الوطني، من انفصام الأرض عن الوطن، من انفصام الإنسان عن المواطن، من انفصام السياسة عن الأخلاق، ومن ابتعاد اهتمامات ممثلي الأمة عن هموم الأمة.

الشعب الكويتي اختار الديمقراطية وسيلة لحفظ حريته ووحدته، وها نحن - سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة رابعة - نوظف منابرها، لكي يرتاب الكل في الكل، ولكي نثير الشكوك في المقاصد والأهداف والنوايا.

والشعب الكويتي اختار الديمقراطية طريقاً للاستقرار والازدهار، وها نحن يلهينا الجدل عن العمل، ويصرفنا العجز عن الإنجاز، نعطل القرار فلا يصدر، ونحرّفه أو نجمّده إن صدر، ثم نتجاوزه بالواسطات والاستثناءات إن وُضِع موضع التنفيذ، فلا يخضع له إلا من ليس له وزير يستثنيه أو نائب يزكيه.

وأخيراً...

إن الجو السياسي والاجتماعي في الكويت حار ورطب ومغبر، ولن يستطيع الشعب في هذا الجو أن يقف طويلاً بانتظار قطار الإصلاح الذي لم نرَ له حتى الآن سكة ولا قاطرة، مع أننا نسمع منذ سنوات ضوضاء صفاراته.

إن رهاب الاستحقاق الانتخابي يجب ألا يدفع النواب إلى الحسابات الخاطئة والضارة بمصلحة الوطن، وإن إرهاب «منصة الاستجواب» يجب ألا يعرقل جهود الحكومة في الإصلاح ومحاربة الفساد.

back to top