بيروت مدينة لا تموت... تحيي نفسها بعد كل فاجعة

نشر في 06-08-2020
آخر تحديث 06-08-2020 | 00:04
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها بيروت لنكبة، فقد استطاعت على مر التاريخ أن تجدد وتحيي نفسها بعد كل فاجعة تحدث لها.

مدينة عمرها أكثر من 5 آلاف سنة تجتر اليوم أحزانها بعد أن امتدت إليها يد التخريب والتدمير، ومن رحم الأحزان ستولد من جديد كما طائر الفينيق.

أمس بكى العالم هذه المدينة البائسة والشامخة في آن معا، تعاطف معها الناس، من الكويت سمعنا أصوات التضامن "خطاكم السوء" يا أهل لبنان.

بيروت ذاكرتنا التي لن تموت، هكذا عودتنا، تربتها خصبة وأهلها ضخوا فيها دماء الحياة.

كثيرون كتبوا عن ست الدنيا، وشعراء قالوا فيها غزلاً جميلاً ووصفا بلغ حد الخيال، يعانق السماء التي تلفح أهلها بشمس المتوسط.

كانت مرفأ للحياة، وألوان الحب، واقعة على طرف بحر جعلها منارة على أبوابه.

قدر هذه المدينة أن تعيش وتعود الى الحياة مهما كان، دخلها الغزاة لكنها لم تنكسر، ضربها الزلزال وعاودت البناء، تحولت إلى ساحة للحروب، لكنها استأنفت العبور الى عالم الحداثة والجمال والتنوع.

تعانق تضاريسها الجبال الملتصقة بها، تلتقي بالبحر وتمد يدها إلى الطبيعة، كانت بحكاياتها اسطورة نسجت حول نفسها حبالاً من الذكريات.

بيروت، ساحة المصارف، الجامعة، عاصمة الصحافة، مركز الاستشفاء، مرفأ الترانزيت، عقدة المواصلات الجوية، السوق المفتوحة، حاضنة الجميع دون تمييز أو تفرقة... هكذا تحدث عنها الراحل سمير قصير في كتابه العميق "تاريخ بيروت".

واجهة العرب والخليج، كانت على الدوام محط أنظارهم وملجأهم، هي اليوم تنوء تحت أثقال الخراب والحرائق، ترسل صرختها المجبولة بالحزن والألم، لقد قتلوا الحياة بالروح التي كنت أتنفس منها، هي حبيبة البحر وأم الشرائع.

المدينة القديمة قذفها الأجانب بقنابلهم، وفتتها العثمانيون، ودمرها المتحاربون، ووجهت إليها الجرافات لتكنس حربا طويلة امتدت من عام 1975 الى أن غزاها المحتل الإسرائيلي عام 1982، ودنس أرضها وشرفها.

مدينة فينيقية

كانت مدينة فينيقية لها مكانة عسكرية في البر والبحر، وفرت خشب الأرز والصنوبر لصناعة السفن، كي يصدوا عنها غزوات الشرق.

عُرِفت باسم "بيبلوس"، ثم وقعت في أيدي فراعنة مصر، اجتاحها الرومان وأعيد بناؤها في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر، وقد عرف الرومان ما تستحقه من رعاية، فهي مدينة قابلة للرقي، ولذلك راحوا يزينونها بالبنايات الفخمة، في حين أن الفينيقيين كانوا يقدسونها لإكرام الإله المسمى على اسمها "بعل بيروت" وأقاموا له هيكلاً.

وأعظم أثر تركه العهد الروماني فيها هو مدرسة الفقه، وصفها أحد شعراء هذه المدرسة بقوله:

«هنالك مدينة تدعى بيروت

هي ينبوع الحياة وشاطئ الحب»

النكبة الأولى بالزلزال

نُكِبت بزلزال عام 555م أتى على قسم كبير من المدينة، تركها أهلها وأنشأوا على انقاضها مدينة جديدة في خلدة وأطلقوا عليها اسم لاذقية كنعان، كما يورد ذلك المؤرخ الشيخ طه الولي، وأتى الزلزال على مدرسة الحقوق، ولم يُبق فيها حجرا على حجر.

عام 560م أصيبت بنكبة جديدة، وكان حريقاً هائلاً جرف معه كل ما بقي من خرائبها، وضاقت بعد ذلك ساحتها، وتعذر ردها إلى سابق عظمتها الى أن فتحها العرب.

تحت الحكم الإسلامي ثم الصليبي

ودخلت عصراً جديداً في تاريخها تحت الحكم الإسلامي، وعُرِفت بمرابط أهل الشام، فالجغرافي ابن حوقل يصفها: "بيروت التي على ساحل بحر الروم هي فرضة دمشق وساحلها"، وشهدت رخاء وازدهارا في تلك الحقبة.

جاءت الحملات الصليبية ووصلها امبراطور القسطنطينية سنة 975م، ثم عاد الفاطميون اليها وبسطوا سيادتهم عليها، وفي عام 1099 تقدمت الجيوش الصليبية نحوها، لتسقط بين أيديهم، وتتعرض لأطول حصار في تاريخها عام 1110، ثم استسلمت لصلاح الدين الأيوبي.

بعدها أصبحت تحت حكم المماليك وسلاطينهم، وفي عام 1516 غزا العثمانيون المشرق العربي وأبقوا بيروت ملحقة بالشام، وعاشت فترة ركود وخمول من الناحية التجارية إلى أن تولاها الأمير فخر الدين المعني، بعدما حصل على استقلال ذاتي.

وبعد الاحتلال المصري انطلقت في مضمار البناء والازدهار مدة 8 سنوات.

إنشاء المرفأ

بدأت بيروت كمدينة تجارية عام 1808 و1810 وتلك كانت نهضتها الحقيقية فقد انشئ مرفأ بيروت عام 1839، وسكة الحديد التي تربط بيروت بدمشق عام 1895، وفي عام 1866 أنشئت الجامعة الأميركية، وكان اسمها المدرسة السورية الإنجيلية.

عاصمة عربية

نالت المدينة حقها من الاضاءة بالكهرباء عام 1914 وكانت المصابيح في الشوارع تضاء بواسطة عصا غليظة يحملونها وبرأسها شعلة، وبها يديرون المفتاح ويشعلون الضوء.

خرجت بيروت كعاصمة عربية اولى في منطقة الشرق وتحولت الى مركز تجاري وسياحي وإعلامي.

تعرضت في خمسينيات القرن العشرين لهزات عنف الى ان وقعت حرب 1975 لتنال الدمار، بما لم تنله في أسوأ مراحلها التاريخية، وتحولت بيروت إلى ساحات للحروب والدمار.

عام 1982 غزاها الجيش الاسرائيلي بعدما كانت مسرحا لأعمال العنف والقتل والاغتيال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقصف مطار بيروت عام 1968 وحروب المخيمات.

كان حصار بيروت على يد الاسرائيليين عام 1982 من اكثر عمليات الحصار شدة وألما، جسدت عمق المأساة، لكن بقيت صامدة وخلال 60 يوما تلقت قنابل عنقودية وفوسفورية وتقليدية تعادل 3 قنابل ذرية اتت على احيائها ومستشفياتها ودور الايتام فيها.

أصل اسم المدينة

لم يكن لبيروت اسم واحد فقد تعددت اسماؤها على حسب الاقوام الذين احتلوها وتضاربت اقوال دوائر المعارف للتسمية الاصل.

فقد اطلق عليها الفينيقيون اسم عشتروت الهة الحب والجمال، وبريتوس في عهد الرومان وتقول دائرة المعارف الاسلامية انه لا شك في ان اشتقاق اسم بيروت الذي طال حوله الجدل مأخوذ من كلمة بئروت، وهي في العبرية البئر، وجمعها "بئير"، وكانت الوسيلة الوحيدة المحلية لمد الناس بالماء حتى العصر الروماني.

وقيل إن اسمها جاريش تحريفا لاسم الجرجش بن كنعان الذي بناها.

وقالوا ان باني بيروت هو ساترونيس "الكوكب زحل" فعبده الناس الذين سكنوا المدينة، وأرجح الأقوال ان هذه المدينة حملت اسم الغابة نفسها التي اختارها الأقدمون لتكون جارة لهم في المكان الذي اختاروه لسكناهم، وهذه الغابة هي غابة الصنوبر التي تعرف اليوم باسم حرش بيروت، كما يذكر الشيخ طه الولي، وذلك تدليلاً على ان بناءها تم على يد أهالي جبيل، وذلك حوالي سنة 2000 ق.م.

وعندما احتلها الصليبيون اطلقوا عليها اسم باروت متخذين منها مركزا لحكومة إفرنجية تابعة للإمارة اللاتينية في القدس، وأطلق الصليبيون يومها على بيروت لقب "الدرة الغالية في تاج أورشليم".

قصائد وغزل بالمعشوقة

تحولت إلى محجة للشعراء العرب، فهذا مظفر النواب يتغزل فيها ويبكيها بقصيدته!

أنت أشد من الحزن في هذه الساعة الأبدية

واعتبريني عشيقا

لمَ تكتمين وقولي لماذا أنتِ حزينة؟

أتفرغ فيك البواخر أحزان كل الموانئ؟

أم أنه البحر والريح والضجر المستمر

وقصيدة نزال قباني "يا ست الدنيا يا بيروت" التي ذاع صيتها، وغناها المطربون والمطربات اللبنانيون والعرب، كذلك قصيدة محمود درويش الذي أمضى فترة من عمره فيها:

بيروت خيمتنا الأخيرة

بيروت نجمتنا الأخيرة

عمرها 5 آلاف سنة... ومرفأ للحياة وألوان الحب

الفينيقيون أطلقوا عليها اسم «عشتروت» إلهة الحب والجمال

واجهة العرب والخليج... حبيبة البحر وأم الشرائع

أتى عليها حريق عام 560 جرف معه كل ما بقي فيها من خرائب وضاقت بعد ذلك ساحتها

عندما احتلها الصليبيون أسموها «باروت» ولقبوها بالدرة الغالية في تاج أورشليم

قُذِفت بالقنابل ودمرها المتحاربون ثم كنست أحزانها لتعود من جديد
back to top