الأزمة المالية للدولة: الجذور – الآثار – الحلول

نشر في 05-08-2020
آخر تحديث 05-08-2020 | 00:00
No Image Caption
(يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) آيات جميلة من القرآن غالبا ما نمر عليها مرور الكرام بينما لو تأملنا فيها لوجدناها ترسم لنا خارطة طريق للاستغلال الأمثل للثروة. كم كنا نتمنى أن تتأمل حكوماتنا السابقة والشعب أيضا في هذه الآيات ليدركوا أن النعم لا تدوم، وأنه يجب استثمار الأموال والفوائض بدلا من استهلاكها، لكن الكل كان يعيش في سكرة الانفاق في السنوات الماضية، بدلا من أن يضعوا الفوائض المالية في سنبله.

نبهنا مرارا وتكرا في عدة مقالات سابقة -مثلما نبه الآخرون- من خطر الاستمرار الدولة بالشكل الحالي من ثقافة ريعية وانفلات المالية العامة وتضخم الجهاز الحكومي وأثر ذلك على المدى البعيد والمخاطر التي تواجهنا مع هذا النظام الغير مستدام، وكان ذلك قبل وبعد هبوط أسعار النفط من مستويات المئة دولار التي رأيناها آخر مرة في 2014، ويبدو أننا لن نراها مرة أخرى. الآن وقد شارف الاحتياطي العام على النفاذ بسبب السياسات المالية المتهورة التي بدأت مع بداية الألفية الجديدة، وباتت الحكومة بل الدولة ككل أمام مأزق كيفية استمرار الانفاق السنوي الذي يذهب معظمه للرواتب والدعوم، نعود من جديد للكتابة لعلنا هذه المرة نجد آذانا صاغية لكثير من المقترحات لإصلاح نموذج الدولة الاقتصادي بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.

فصار من اللازم علينا جميعا اتخاذ قرارات صعبة بعد أن أدركت الحكومة بالذات بأن النموذج الحالي الريعي غير مستدام، خاصة وأن التحديات المالية التي نواجهها اليوم لم تولد من رحم الكورونا، بل جاءت نتيجة سلسلة من السياسات الخاطئة من عقود طويلة، وكانت الكورونا مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير. ولكن لكي نطرح هذه الأفكار ونبرر أهمية تطبيقها أو نقاشها بشكل جدي على الأقل، فيجب أن نفهم بالبداية كيف وصلنا لهذا الحال؟ وما هو الخلل البنيوي في شكل الدولة الحالي؟ وللإجابة على هذين السؤالين، يجب علينا العودة لحقبة ولادة الدستور، أي قبل 60 سنة.

فهناك من يقول بأن ولادة الدستور جاءت نتيجة لإيمان السلطة آنذاك بالديمقراطية والمشاركة الشعبية، لكن الأمر ليس بهذه البساطة لأن هذه الولادة جاءت نتيجة لعدة ظروف أهمها تهديدات عبدالكريم قاسم ومعركة انتزاع الاعتراف العربي والدولي بنا كدولة، والتي تزامنت مع موجات الاستقلال والانقلابات، فمن هنا جاء الدستور لتثبيت حكم ذرية الشيخ مبارك الصباح كأولوية وكمكسب لأسرة الحكم وحماية لهم في خضم هذه الموجات التي سادت العالم، وجاءت الديمقراطية وإن لم تكن كاملة كمكسب للشعب ولإعطاء صورة حضارية للعالم الخارجي بأننا فعلا نتصرف كدولة حتى يساعدنا ذلك في الانضمام للأمم المتحدة وكسب الاعتراف العالمي. ومع ذلك، لم يكن العديد من النافذين بالأسرة مقتنعا بالدستور ولا بصلاحياته الشعبية الواسعة، وهذا متوقع ومفهوم لأن عقلية المشيخة كانت سائدة ومستمرة في الخليج ككل آنذاك، ولذلك لم يكن متوقعا أن يقبل بعض شيوخ الكويت فجأة بخضوعهم تحت مراقبة ومحاسبة مجلس الأمة المنتخب شعبيا من عامة الناس، حتى وإن كان هناك تاريخ لهذه المشاركة بشكل مختلف في مجلسي 1921 و1938. وربما ما زاد الطين بلة -في نظرهم- هو السقف العالي الذي اتسم به خطاب بعض النواب وعلى رأسهم الدكتور أحمد الخطيب، مما جعلهم في موقف الدفاع والإحساس بالتهديد بفقدان المزيد من السلطة.

ولذلك، جاءت الهجمة المضادة التي رأينا مصداقها بكل وضوح في تزوير نتائج انتخابات 1967، وموجة التلاعب بالقيود الانتخابية في الانتخابات التي تلتها لضمان وصول عدد أكبر من النواب المحسوبين على السلطة، والتي على أثرها قاطع عدد من المرشحين الانتخابات منهم المرحوم جاسم القطامي وأحمد السعدون. لكن باعتقادي بأن أكثر خطوة -من ضمن هذه الهجمة المضادة- كان لها أثر على المجتمع وعلى الحالة التي وصلنا إليها اليوم هي إقدام الحكومات آنذاك تدريجيا بتوسيع القطاع العام وتحويل المواطنين من مهنهم الحرة وأعمالهم الخاصة الصغيرة إلى موظفي حكومة.

قد تكون تلك السياسة نتيجة طبيعية لتدفق الثروة على البلد من إيرادات النفط، لكن بنفس الوقت كان من نتائجها الأولية تشديد قبضة الحكومة على مفاصل المجتمع ومصادر الرزق حتى تكون حاجات الناس مرتبطة بها، وكان ذلك مشجعا للسلطة للمضي والتوسع بها واعتمادها كاستراتيجية، وبذلك تستخدم هذه الأداة للترهيب والترغيب وأيضا لضرب مكونات المجتمع ببعضها، فالفئة التي تكون مسالمة ومهادنة يتم إغداقها بالوظائف والمناصب بينما الفئة المشاكسة يغضب عليها وتحرم من بعض المناصب والوظائف حتى يتم تأليب جمهورها على ممثليها، خاصة وأن الحكومة تشكل أقلية بمجلس الأمة، ولذلك فهي دائما بحاجة لـ17 نائبا لتشكل أغلبية ولـ25 نائبا لتفادي طرح الثقة بوزرائها. هذه السياسة كانت السبب وراء استفحال عدة سلبيات مزمنة بنيوية في الدولة والمجتمع نوجزها في النقاط التالية:

أولا: تأصيل الثقافة الريعية باعتماد اقتصاد الدولة على مورد وحيد للإيرادات، من غير انتباه لخطورة هذه السياسة على المدى البعيد مع تزايد عدد المواطنين وفي ظل سعر برميل النفط الغير مستقر والخاضع لظروف في الغالب خارجة عن سيطرتنا.

ثانيا: خلل مستمر ومزمن في التركيبة السكانية والتكلفة المالية الكبيرة المصاحبة لها، فمع هجرة المواطنين للقطاع العام، وتوظيف الغالبية العظمى من الشباب الداخل لسوق العمل في هذا القطاع، صار علينا الاعتماد على العمالة الوافدة لتقديم الخدمات المتنوعة في الدولة إضافة إلى سيطرتهم على الوظائف في القطاع الخاص بدلا من المواطنين. ومع تزايد عدد المواطنين على عبر السنين زادت الحاجة لاستقدام المزيد والمزيد من العمالة الوافدة بحيث بتنا خاضعين لمعادلة أن لكل كويتي أكثر من وافدين اثنين يخدمونه. وهذا ما أدى أيضا إلى ارتفاع التكلفة المالية على الدولة ككل، لأن كل هؤلاء الوافدين بحاجة إلى بنى تحتية إضافية وكهرباء وماء ووقود مدعوم ومستشفيات وغيرها من الخدمات.

ثالثا: نتيجة لتزايد عدد المواطنين الداخلين لسوق العمل وتوجيههم للقطاع الحكومي، كان من الضروري زيادة البيروقراطية الحكومية عبر خلق إجراءات وتعقيدات إدارية إضافية حتى يتم توظيف القادمين الجدد للعمل الوزارات في هذه المواقع الإضافية، مما يعني خسارة مالية مزدوجة لتوظيف أناس لا حاجة فعلية لهم، ولتعقيد سير الأعمال، مما يجعل البلد غير مشجع لا للاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية ولا لتشجيع الشباب على الأعمال الحرة وفتح مشاريعهم الصغيرة التي عادة ما تصطدم بكثير من العراقيل. ويكفي أن وزير الدولة السابق الشيخ محمد العبدالله قال بصراحة بأن (كل الدراسات تقول بأن عدد موظفي الدولة تجاوز ثلاثة أضعاف الحاجة الفعلية، فهناك أكثر من 200 ألف موظف، والحاجة الفعلية لا تتجاوز 60 ألف، وهذه الدراسات حبيسة الأدراج لأنه سياسيا صعب علينا أن نتكلم عن ذلك بالعلن!) كان هذا التصريح بسنة 2013، أي قبل 7 سنوات، أما الآن فمن المؤكد أن عدد الوظائف الفائضة عن الحاجة قد زاد.

رابعا: زيادة الفساد في الدولة، فعادة ما يتم ربط الفساد بالمناقصات والمشاريع الكبرى فقط، بينما نغفل عن الفساد اليومي في مختلف وزارات الدولة. فكلما زاد عدد الموظفين في الوزارات -وخاصة الخدمية- زادت البيروقراطية، أي زيادة الإجراءات، وهذه هي البيئة الحاضنة للفساد الذي يزيد عندما يزيد عدد محطات تخليص أي معاملة -خاصة عندما تنجز المعاملة بالمراجعة الشخصية لا إلكترونياً- بينما يقل الفساد كلما قلت الإجراءات والموافقات المطلوبة. فمن الطبيعي أن تزيد احتمالية الفساد عندما تتطلب معاملة ما المرور على 10 موظفين مثلا عن احتماليته عند مرورها على موظف واحد. ودليل واحد على ذلك هو الأعداد المهولة لمخالفات البناء التي نراها في السكن الخاص بالرغم من الكم الهائل من الموظفين والموافقات والرقابة! هذا غير تجارة الإقامات التي فاحت رائحتها مؤخرا وفضيحة ضيافة الداخلية وصندوق الجيش وغيرها من فضائح مالية تمت بالرغم من وجود عدة أجهزة معنية بالرقابة! هذا الوضع لن يحله هيئة لمكافحة الفساد مهما كانت جديتها لأن هكذا نظام للدولة هو بذاته فاسد مفسد ولا يمكن إصلاحه بأي حال من الأحوال، ولذلك نرى أن الانطباع العام لدى الناس هو أن الفساد منتشر بقوة بكل أروقة الدولة بالرغم من وجود ديوان المحاسبة ومراقبة مسبقة ولاحقة لكل مصروفات الدولة ووجود هيئة مكافحة الفساد!

خامسا: قتل طموح الشباب الداخل لسوق العمل عبر ترغيبه بالوظيفة الحكومية التي غالبا ما تكون جامدة بدلا من تشجيعهم على العمل الحر وصقل مهاراتهم الشخصية والتجارية ودخول عالم الابتكار، خاصة وأن التعليم الجامعي متوفر مجانا للغالبية العظمى من المواطنين. وكأن المراد من هذه السياسة هي برمجة الشاب الكويتي على العمل لدى الحكومة والخضوع لسلطتها، تماما مثلما كان يحاول الرأسماليون إبان الثروة الصناعية في أوروبا وأمريكا تعويد الطبقة العاملة على التسليم بأنهم سيعيشون دوما عمالا بأجور زهيدة في مصانع، خاضعين لسلطة رأس المال.

سادسا: خلق أجيالا اتكالية على غيرها من الجنسيات في خدمتها في شتى مناحي الحياة، وما صاحب ذلك من ثقافة وسلوكيات استهلاكية مفرطة وغير مسؤولة في استهلاك الموارد المكلفة مثل الكهرباء والماء والطاقة بشكل عام، وهذا ما أدى طبعا إلى تفشي العنصرية واحتقار العمل الشريف واحتقار العديد من الجنسيات الأخرى لفقر عمالتها بينما تناسينا بأننا كنا يوما ما دولة فقيرة كان أبناؤها يطلبون الرزق من نفس الدول التي نتكبر على أبنائها اليوم. هذا فضلاً عن تنامي ظواهر الإقصاء والطائفية والمذهبية والعنصرية والقبلية بسبب سياسة الحكومة في تغذيتها، واستيراد التطرف من الخارج خاصة مع بداية تحالف السلطة مع بعض التيارات الدينية في منتصف السبعينات.

سابعا: مع استمرار تدفق إيرادات النفط، لم تعد هناك جدية في رسم استراتيجيات وسياسات التعليم والتنمية المستدامة ودراسة سوق العمل وما يحتاجه من تخصصات، وحتى الخطط الخمسية المعلنة كانت في الغالب انشائية بأهداف بعيدة عن الواقع ولم تنفذ، ولم تكن هناك محاسبة ولا تقويم لها وبدليل اتساع الاختلالات الهيكلية الاقتصادية مع فترة انتهاء كل خطة.

ثامنا: تقويض بنية الأسرة الحاكمة وتعمق الخلافات والأغراض الشخصية والمصلحية فيما بينهم، وتشكيل كتل ومجموعات متفرقة متضاربة ومتحاربة، تحاول كل منها استقطاب أعضاء مجلس الأمة ووزراء ومسؤولين ورياضيين وأساتذة الجامعة وتجار وإعلاميين لها، مما أدى إلى انتقال هذه القطبية والفئوية الأسرية من داخل نظام الحكم إلى المجتمع.

هذه الظواهر السلبية تأصلت واستفحلت تدريجيا في المجتمع، لكن الانفلات المالي المصاحب لها تصاعد بشكل جنوني مع بداية إقرار الكوادر بشكل عشوائي، والتي بدأت بكادر الهيئة التدريسية للجامعة والتطبيقي في سنة 2003 وبعدها (فلَت السبحة)، فتضاعفت ميزانية الدولة خمسة أضعاف خلال عشرين فقط -وهو ارتفاع مهول- مع ذهاب أغلب هذه الأموال للرواتب والدعوم، أي تكاليف استهلاكية لا استثمارية. ولا يخفى على الجميع أن هذه الزيادات أدت إلى بعض النتائج العكسية، أولها الارتفاع الجنوني في أسعار العقار في ظل شح المعروض، مما يعني أن هذه الزيادات كانت في النهاية من صالح ملاك العقار. وثانيها اختلال ميزان الأجور بين بعض المهن والقطاعات مما أوجد الإحساس بالظلم لدى البعض، وهذا بدوره يؤثر على المجتمع ككل لأن هناك دراسات تؤكد أن الإحساس بالرضى أو الظلم لا يعتمد على مقدار الأجر الذي يتلقاه الموظف بل على قيمة ذلك الأجر مقارنة ببقية الأجور.

لا ننكر أنه مع تصاعد أسعار النفط بشكل جنوني قبل 15 سنة كان من المفترض أن يستفيد الشعب جزئيا من تلك الإيرادات الكبيرة للنفط، لكن كان الأجدى أن يتم ذلك بطريقة مستدامة مثل إنشاء صناديق استثمارية تذهب عائداتها للشعب، أو أن يتم تعديل سلم الرواتب في الدولة بحيث تكون مربوطة بمعدلات التضخم ومدروسة لكل قطاعات الدولة لا بالشكل العشوائي الذي تم طيلة السنوات الماضية والقائمة على شطارة النقابات أو الجمعيات المهنية، والتي أتت بنتائج كارثية نحصدها اليوم.

والمسؤول الأول عن هذا التعامل الكارثي مع الزيادات هي السلطة لأن هذا الملف كان أحد أوجه الصراع السائد بين بعض أقطاب الحكم على المستقبل وأحد أساليب استمالة الناس وخلق الشعبية بينهم، وإن كان المحرك الأساسي للمطالب هي النقابات وبعض الجمعيات المهنية. لكن النتيجة هي أن هذا التعامل أدخلنا في ورطة ندفع ثمنها اليوم مع هبوط أسعار النفط لمستويات دنيا، وكنا سندفع ثمنه عاجلا أم آجلا حتى مع استقرار الأسعار في ظل استمرار زيادة عدد المواطنين وسياسة توظيفهم في القطاع العام، مما يعني استمرار تضخم ميزانية الدولة. لقد تصرفنا كدولة وكأن النفط سيظل دائما بأسعار تضمن استمرارية النظام السياسي والاقتصادي بالشكل الحالي، وفي ظل السكرة غفلنا عن حقيقة تاريخية وهي أن النعم لا تدوم، فوراء السبع بقرات سمان تأتي سبع عجاف، لكننا أغفلنا هذه الحقيقة القرآنية ولم نوفر هذه النعم والأموال لأيام الشدة، التي يبدو أننا اعتقدنا بأنها لن تأتي يوما.

لذلك، نجد أنفسنا اليوم على مفترق طرق، فإيرادات النفط لا تغطي حتى نصف ميزانيتنا، والاحتياطي العام شارف على النفاذ، وحتى لو الحكومة (دبرت حالها) بهذه السنة المالية، فإن نفس السيناريو سيتكرر في السنة المالية القادمة، ولكن هذه المرة دون احتياطي عام ولا فوائض من مؤسسات الدولة، مما يعني إما الاقتراض أو بيع أصول الصندوق السيادي، أي الأكل من اللحم الحي. وحتى لو التجأنا لخيار الاقتراض، فكيف سيتم تسديد هذه الديون وأغلبية نفقاتنا هي استهلاكية لتغطية الرواتب والدعوم؟! كلا الخيارين يشيران إلى نتيجة واحدة وهي تخفيض قيمة الدينار الكويتي في المستقبل، مما يعني ارتفاع التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للناس وبالتالي انخفاض مستوى المعيشة الحالي، وقد تطرق الزميل محمد البغلي لهذا الموضوع بالتفصيل في تقرير له بالجريدة قبل أزمة الكورونا. كل ذلك سيحدث ما لم تتم عملية اصلاح جذرية تقلل النفقات الجارية.

فبقاء الوضع على حاله يعني زيادة هذه النفقات الجارية، فأمامنا تقريبا 400 ألف مواطن سيدخلون سوق العمل خلال العشرون سنة القادمة، فأين سيتم توظيفهم والقطاع العام أصلا متضخم حاليا بأكثر من ثلاثة أضعاف الحاجة؟! وشبح البطالة بدأ فعليا، بدليل الطابور الطويل لمنتظري العمل في قوائم ديوان الخدمة المدنية، وشح الشواغر في الهيئات والشركات الحكومية المستقلة في مقابل آلاف المتقدمين على كل اعلان. ومع زيادة السكان من مواطنين ووافدين بدأت نتائج سوء الإدارة الحكومية طيلة السنوات الماضية تظهر للعلن بسبب المحاباة والمحسوبيات في التعيينات والترقيات في المناصب القيادية من أجل حماية ظهر الحكومة في مجلس الأمة ومجاملة لأصحاب النفوذ والمجاميع الفئوية. إذا ما الحل؟ وأي طريق نسلكه عند هذا المفترق؟ وما هي خارطة طريق الإصلاح؟

هنا يجب أن نطرح حلول عملية مفهومة بدلا من الشعارات البراقة مثل (محاربة الفساد) والتي يطلقها الكثير من السياسيين والنشطاء والمغردين دون أن يعطونا سياسات واضحة لترجمة هذه الشعارات إلى أرض الواقع، ولعل سبب ذلك هو خوف الغالبية منهم من قول الحقيقة وهي أنه من المستحيل الاستمرار بهذا النموذج الريعي المشوه للدولة بقطاع عام متضخم وفاسد وغير كفؤ. هذا النموذج الفاشل هو المعوق الأساسي للتنمية والإصلاح، وما لم يتم تغييره فسنظل نراوح مكاننا فيما دول أخرى في المنطقة تسبقنا في شتى المجالات.

الصين وهي الدولة الشيوعية أدركت ذلك قبل أكثر من 30 سنة، وعندما قامت بالتغيير شهدت أكبر عملية ازدهار وتنمية للثروة وتقليص للفقر في التاريخ المعاصر، وكان أساس تلك النهضة تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد، وتنشيط التجارة عبر خلق مناطق أسواق حرة. أدرك بأنه في ظل أزمة الكورونا زاد اعتقاد الناس بأهمية سيطرة الدولة على الاقتصاد وتقديم الخدمات مثل الصحة والتعاونيات وغيرها، لكن ذلك تشخيص خاطئ وعاطفي لأنه تناسى تماما كل مفاسد سيطرة الدولة على هذه القطاعات قبل عصر الكورونا، إضافة للتكلفة العالية لهذه السيطرة وهي بطبيعة الحال غير مستدامة وستؤدي لنتائج كارثية ماليا في المنظور القريب. فالأصل أن يكون دور الدولة في الغالب تنظيمي ورقابي وليس المسيطر والمحرك للاقتصاد والخدمات، لكن يمكنها إقرار قوانين تمكنها من التحكم بالقطاعات الحيوية عند الأزمات الطارئة مثل الحروب وغيرها، وهذا موجود في الولايات المتحدة على سبيل المثال عبر قانون (Defense Production Act) والذي يعطي الرئيس الأمريكي صلاحية التحكم بخطوط التوريد والإنتاج في القطاع الخاص في وقت الأزمات.

ولعل زيادة التذمر والإحباط بين الناس وخاصة فئة الشباب من الوضع العام من سوق عمل وتعليم وصحة واسكان وغيرها من الأمور بالرغم من تغيير تشكيل المجالس النيابية وتغير النظام الانتخابي دليل على ضرورة تغيير نموذج الدولة الحالي جذريا، حيث لم تعد محاولة ترقيع وإصلاح النموذج الحالي ممكنا، خاصة بعد فشل سياسة تخدير الناس وشراء سكوتهم بالكوادر والزيادات المالية. ففي عصر الثروة المعلوماتية والتواصل الاجتماعي وانفتاح أناس على تجارب الدول الأخرى، بات المواطنون يقارنون بين أحوال الدول الأخرى مع حالهم، فهم يرون رئيس وزراء دولة يذهب لعمله بدراجة هوائية فيما يرون مدير إدارة في وزارة يتصرف بكل عنجهية وكأنه فرعون زمانه. وهم يرون كيف تزدهر دول أقل غناً منا وتطبق القانون على الجميع، فيما يرون دولتهم الغنية متدهورة في شتى المجالات، والقانون يطبق بمزاجية والمناصب تذهب لعديمي الكفاءة نتيجة للترضيات السياسية. هذا التذمر والإحباط سيزيد أكثر فأكثر خاصة مع زيادة المبتعثين للدراسة في الخارج والتي قفزت من 300 مبتعث قبل أكثر من عشرين سنة إلى الآلاف سنويا. كل هؤلاء سيقارنون بين سهولة الحياة وتخليص المعاملات في تلك الدول وصعوبة الإجراءات في بلدهم. عندها يزداد الإحباط الذي لن يزول إلى بتغيير جذري يعالج هذه الأمراض المزمنة.

وإضافة إلى ضرورة تغيير نموذج الدولة، فإنه من الضروري أن يصاحب ذلك تحقيق أكبر للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس. ففي دراسة قيمة وضعت بكتاب اسمه (The Spirit Level) وجد الأكاديميين البريطانيين كيت بيكيت وريتشارد ويلكنسون بأنه في الدول المتقدمة، يكون مقدار التقدم أو التدهور في عدة مجالات مثل التعليم والصحة العامة والصحة النفسية ونسبة الجريمة وتعاطي المخدرات والثقة بين الناس والحراك الاجتماعي، يعتمد على مقدار تحقق العدالة والمساواة في المجتمع. فكلما سادت العدالة والمساواة، كان ترابط المجتمع أقوى، والصحة والتعليم متقدمان والثقة بين الناس أكثر ونسبة الجريمة وتعاطي المخدرات أقل والعكس صحيح. ولذلك وجدت الدراسة أن الدول المتقدمة في كل تلك النواحي كانت دائما اليابان والدول الاسكندنافية مثل النرويج والدنمارك والسويد وفنلندا، بينما الدول التي أتت دائما في المؤخرة كانت الولايات المتحدة وبريطانيا، ذلك لأن الطبقية وعدم المساواة في هاتين الدولتين أكبر من بقية الدولة المتقدمة المشمولة في الدراسة بالرغم من تفوقهما المالي. وبينما حقت اليابان عدالة ومساواة أكبر في المجتمع بخلق نظام يقلص الفوارق بالرواتب بين الطبقتين العليا والدنيا في مجتمعها، تقوم الدول الاسكندنافية بتحقيق العدالة والمساواة بنظام ضريبي متقدم يضمن حصول جميع السكان على الحد الأدنى للحياة الكريمة بما فيها مستواً متقدما من الخدمات خاصة في التعليم والصحة.

أما عندنا فالعدالة الاجتماعية والمساواة متأخرة جدا، فالطبقية موجودة ما بين الكويتيين أنفسهم، وبين الكويتيين ككل ومعظم الوافدين. فالظلم في التوظيف والترقيات وتوزيع المناصب حسب الواسطة لا على حسب الكفاءة واضح للعيان ولا يحتاج لإثبات، وهذا انعكس بالفساد الإداري المنتشر في الأجهزة الحكومية. هذه الظاهرة وغيرها من الأمور التي يطول الحديث فيها كلها تعزز شعور معظم المواطنين بالظلم وغياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، ناهيك طبعا عن البدون والمأساة الإنسانية التي يعيشونها في بلد الإنسانية! وهذا الشعور منتشر أكثر بين الوافدين نتيجة للأوضاع التي يعيشونها، فالعائلات تعيش في مناطق أصبحت كانتونات مكتظة بالعمارات والخدمات السيئة، وأما العزاب فغالبيتهم يعيشون في أماكن هي فعليا عشوائيات كجليب الشيوخ وغيرها من المناطق، وقد رأينا الآثار السلبية الصحية ليس عليهم فقط بل على البلد ككل في أزمة جائحة الكورونا. ولعل هذا ما يفسر استمرار تدهور الدولة في أغلب المجالات مثل التعليم والصحة بالرغم من زيادة الصرف على هذه القطاعات وعلى رواتب موظفيها، مما يعني بأن العلاقة بين زيادة الرواتب والصرف مع تطوير الخدمات ليست طردية، وأن هناك أمور أخرى إن لم تعالج فلن تتحسن هذه الخدمات مهما تم زيادة الصرف عليها. الخلاصة أنه كلما كانت هناك مساواة وعدالة اجتماعية أكثر في البلد بكل ساكنيه، كلما تقدم البلد تلقائيا في كثير من المجالات.

ولنكون عمليين أكثر سأطرح في الفقرات التالية أفكارا نستطيع من خلالها تقليص حجم القطاع العام وميزانية الدولة مع توفير إيرادات أكبر لها، وتعديل التركيبة السكانية بطريقة تضمن وظائف جاذبة للمواطنين في القطاع الخاص والعمل الحر مع تحسين مستوى التعليم والخدمات الصحية والإسكان.

التركيبة السكانية وسوق العمل

التركيبة السكانية هي حديث الساعة اليوم، خاصة بعد الأزمة المالية التي نمر بها حاليا، لكن وكالعادة نجد أغلب السياسيين يتهربون من وصف العلاج الجذري الصحيح، وذلك بالتركيز على تكويت الوظائف الحكومية فقط، وبهذا الصدد أعلن أحد النواب عن اقتراح بقانون لتكويت جميع الوظائف العامة، لكن هكذا اقتراح لن يحل مشكلة التركيبة السكانية ولا مشكلة البطالة التي تنتظرنا في القريب العاجل. ولعل مقالة الوزير والنائب الأسبق أحمد باقر في الجريدة مؤخرا تحت عنوان (بين الحقيقة والإثارة في التركيبة) بينت بشكل واضح بأن مثل هذا الاقتراح النيابي هو استعراض انتخابي أكثر مما هو محاولة جادة لإصلاح التركيبة السكانية، والتي لا تكمن علتها بالوظائف الحكومية بل بسيطرة الوافدين على سوق العمل بالقطاع الخاص. فالأرقام التي ذكرها النائب والوزير الأسبق بناء على احصائية الإدارة المركزية للإحصاء في سبتمبر 2019 تبين أن 77% من الوظائف الحكومية هي من نصيب المواطنين، وبأن أغلب وظائف الوافدين متركزة في قطاعي التربية (29 ألف) والصحة (35 ألف)، أي إنه من المستحيل تكويت هذه الوظائف في المدى القريب. نعم من الممكن تطبيق سياسة الإحلال في بعض الوظائف الحكومية الحالية ولكنها قليلة جدا وأثرها معدوم. فالمشكلة الرئيسية هي في القطاع الخاص حيث يعمل فيه قرابة المليون وسبعمئة ألف عامل، يشكل الكويتيون فيه فقط 4%! هذا هو الخلل الكبير في الدولة، والذي يجب معالجته بسياسات إصلاحية جريئة.

فالهدف المنشود كما قلنا سابقا هو تقليص حجم الحكومة وتوجيه معظم موظفيها للعمل الحر والقطاع الخاص لأن النموذج الحالي غير مستدام وسينهار قريبا لأن حجم الحكومة متضخم حاليا بأكثر من ثلاثة أضعاف، وبند الرواتب في الميزانية العامة بلغ 12 مليار دينار، وهناك 400 ألف مواطن قادم لسوق العمل خلال العشرين سنة القادمة. فبكل بساطة، الدولة لا تملك الأموال الكاش لدفع الرواتب على المدى القريب -ناهيك عن البعيد- مع العجوزات المتتالية في الميزانية العامة، وهذا سيعني بشكل أو بآخر تخفيض قيمة الدينار الكويتي لتستطيع الدولة تحويل عائدات النفط الدولارية إلى دنانير أكثر لدفع تلك الرواتب، والذي بدوره سيؤدي إلى التضخم.

لكن كيف سيستوعب القطاع الخاص والعمل الحر المواطنين بينما توظيف الوافد أوفر للشركات وللمستهلك؟! وهذا نستطيع علاجه بالخطوات التالية:

1. تطبيق نظام الراتب الأساسي لكل مواطن (Universal Basic Income)

2. تطبيق ضرائب على الشركات حسب حجم توظيفها للمواطنين

3. حصر تقديم بعض الخدمات والأنشطة على المشاريع الصغيرة التي توظف كويتيين فقط

4. تحويل وزارات الدولة لمؤسسات مستقلة وتحاسب على مدى كفاءتها وتقليص دور ديوان الخدمة المدنية إلى وضع أطر وسياسات عامة للتوظيف والترقية والرواتب

فلو نظرنا إلى فكرة نظام الراتب الأساسي لوجدناها محل نقاش جدي في عالمنا اليوم، فقد عرضته سويسرا على الاستفتاء قبل عدة سنوات، وطبقته كندا أيضا في منتصف السبعينات على الطبقة الفقيرة في مدينة دوفين الصغيرة الريفية لمدة 4 سنوات، وكان من نتائجها تحسن مستوى الصحة العامة وزيادة أعداد تخرج الطلبة من الثانوية، والحفاظ على مستوى الداخلين لسوق العمل. وطبقته فنلندا أيضا بتجربته على عينة من الشعب، وتبناه بينوت هامون المرشح الاشتراكي لرئاسة فرنسا عام 2015، وأيضا أندرو يانغ المرشح في تصفيات الحزب الديمقراطي للرئاسة الأمريكية سنة 2020. ومختصر الفكرة أن الدولة تعطي راتبا أساسيا لكل مواطن كنوع من الحماية المعيشية الأساسية، وبعدها تقع مسؤولية أي راتب أو مدخول إضافي على المواطن نفسه سواء قرر العمل كموظف لدى القطاع العام أو الخاص أو قرر العمل بالأعمال حرة. هذه الفكرة يناقشها بعض اقتصاديي العالم وسياسييه بشكل جدي اليوم لأن هناك وظائف ستمحى من الوجود في المستقبل القريب كما تم محو العديد من الوظائف بالسابق لأن اتكال الشركات وخطوط الإنتاج على الروبوتات في ازدياد مطرد، خاصة مع التقدم المذهل الذي يشهده العالم في الذكاء الصناعي.

وبهذا الخصوص اقترح الملياردير بيل غيتس أن تطبق ضريبة على استخدام الروبوت حتى يتم تمويل حياة الناس من هذه الضرائب لأنه ما دام العامل يدفع ضريبة فيجب أيضا فرض الضريبة على الروبوت لأنهما يقومان بنفس العمل. ولو دققنا في نموذج الدولة الحالي لوجدنا أننا فعليا نقوم بتطبيق هذا النظام ولكن بشكل خاطئ، فعنما يكون هناك أكثر من 150 ألف موظف فائض عن الحاجة في الحكومة فهذا يعني أننا نطبق نظام الراتب الأساسي ولكن بشكل يثقل كاهل الدولة ويعقد الإجراءات والمعاملات ويزيد من الفساد ويهدر الطاقات. فالأولى أن أعطي هذه المواطن راتبا أساسيا بقدر 700 أو 800 دينار مثلا وأعطيه الحرية بالبحث عن فرص عمل أخرى من دون أن ألزمه بوظيفه حكومية قاتلة للطموح وبساعات معينة وببطالة مقنعة وبراتب مضاعف يثقل ميزانية الدولة بدون فائدة ترجى.

ثم نأتي للخطوة الثانية، وهي تطبيق الضرائب (أو الرسوم) على الشركات حسب توظيفها للمواطنين، فكلما زاد توظيف شركة ما للمواطنين، تقل الضرائب المفروضة عليها حسب شرائح معينة. طبعا هذا بحاجة لبحث ودراسة تفصيلية، ولا يمكن تطبيقه مباشرة، لكن تدريجيا حتى تكون هناك فرصة للشركات لتدريب العمالة الوطنية، وهنا يمكن للدولة أن تدعم برامج التدريب هذه ماديا لتسهيل العملية الانتقالية. لكن الخلاصة إن هذا الاقتراح سيشجع الشركات على توظيف المواطنين الخارجين من القطاع العام للخاص وأيضا للداخلين الجدد بسوق العمل، بما فيها التوظيف بدوام جزئي. خاصة وأن هناك الكثير من المهن المكتبية وغيرها التي من المفترض أن ينخرط فيها المواطنين لأنها ليست أعمال شاقة، فوظائف مثل الهندسة والمحاسبة والتسويق والمبيعات وغيرها كلها مهن تحتاجها الشركات لكنها محتكرة تقريبا على الوافدين لأن الحكومة -عبر الزيادات والكوادر- وجهت المواطنين للعمل الحكومي لا الخاص. وحتى المهن الحرفية التي تقوم الدولة بتخريج الآلاف منهم بالمعاهد التطبيقية والدورات الخاصة مثل الحدادة والنجارة وميكانيكا السيارات نجدهم يتوجهون للعمل الحكومي بينما من المفترض أن نراهم في القطاع الخاص والأعمال الحرة. وهنا عندما نتحدث عن أهمية توظيف المواطنين على حساب الوافدين، فإن ذلك ليس نابعا من كره أو عنصرية تجاههم، فنحن ندرك بأن أغلبهم محترمون وملتزمون بالقانون وجاؤوا من أجل لقمة العيش الكريمة، لكن النموذج الحالي غير مستدام وعلينا إصلاحه حماية للجميع سواء للمواطنين أو لمن يتبقى من الوافدين.

ولكي نجعل الأعمال الحرة أكثر جاذبية للشباب الكويتي، نستطيع فرض قوانين تحصر بعض الأنشطة على الكويتيين فقط. فنستطيع حصر تقديم خدمات تنظيف المناطق وإزالة النفايات وصيد السمك وصيانة المكيفات والكهرباء وبعض أعمال الطرق وغيرها للمؤسسات الحكومية على الكويتيين الحرفيين إما عن طريق شركة الشخص الواحد أو شركة يملكها عدد محدود من هؤلاء الكويتيين الحرفيين. وأيضا يمكن تطبيق نفس الفكرة على عقود الباطن في المناقصات الكبرى، فيمكن فتح مجال عمل واسع للمواطنين في خدمات النقل والمعدات الثقيلة وغيرها من الأعمال بدلا من أن تستلم تلك الخدمات شركات مقاولات كبرى يستربح منها عدد قليل من التجار وتقوم بتوظيف عدد هائل من الوافدين. فالفكرة أن يستفيد عامة الشعب من المليارات التي تصرف على المشاريع والخدمات بدلا من تذهب تلك الارباح لأعداد قليلة من الشعب مع جلبهم لآلاف الوافدين مقابل أجور هزيلة. فالشباب الكويتي الذي عمل خبازا وميكانيكيا وجمع القمامة وعمل بشتى الأعمال الأخرى أثناء الغزو الصدامي ليس بعاجز عن القيام بهذه الأعمال في أوقات الرخاء، فهو فقط يريد تأمين عيش كريم من هذه الأعمال، وهذا لن يتأتى إلا بإعطائه الفرصة لأن يكون صاحب عمل حر ومقاول يقدم خدماته الشخصية لمؤسسات الدولة ولعموم الناس ويتلقى عليها أجرا مناسبا.

فالشباب الكويتي بحاجة لأن تفتح له الدولة مجالات العمل المختلفة، ولا يحتاج لهيئة شباب تكلف الدولة الملايين سنويا دون فائدة تذكر، ولا إلى مؤتمرات (تمكين الشباب) التي تلوك الكلام الفارغ وتكلف مئات الآلاف دون ترجمة كل ذلك التنظير إلى أمر واقع. طبعا سنحتاج لتعديل عدة أمور حتى نقوم بزيادة تشجيع الشباب الكويتي على الانخراط بالأعمال الحرة، أولها قانون تفليسة وإعسار متطور حتى تتاح للشباب عدة فرص لتجربة أفكار جديدة وحتى لا تتحول مغامرة العمل الحر إلى مشروع انهاء مستقبل. كما يجب تسهيل حصول المبادرين على أراض لاستخدامها لإقامة مشاريعهم الصناعية والزراعية وغيرها من الأنشطة التي يعتبر الحصول على أرض لها صعبا في وقتنا الحاضر ويتطلب مدة طويلة ومع تدخل الواسطات. بالرغم من نص قانون صندوق المشاريع الصغيرة على وضع خمسة ملايين متر مربع تحت تصرف الصندوق لمنحها لأصحاب المشاريع الصغيرة، إلا أن الصندوق لا زال محروما من هذه المساحة لضياعها في دوامة البيروقراطية الحكومية القاتلة. هذا غير بعض قرارات وزارة التجارة والهيئات الأخرى التي تصب في صالح البضائع المستوردة من الخارج على حساب المنتج المحلي، وخاصة الزراعي.

كما يجب ألا ننسى سن قوانين جاذبة للاستثمار الأجنبي لخلق فرص عمل جديدة للمواطنين، وهذا يتطلب تغيير عدة أمور أهمها نظام الزيارة المعقد والطارد الذي يعد من أهم عوامل تأخر الكويت في جاذبيتها للأعمال. فإن كنا نريد جذب الاستثمارات الأجنبية لخلق فرص عمل للمواطنين وتنشيط عجلة الاقتصاد، فيجب تعديل هذا النظام لتسهيل زيارة الأجانب، وتسهيل انجاز المعاملات وتحويلها إلكترونيا، وتخفيف القيود على الأنشطة الاقتصادية. فمع أزمة الدولة المالية نحن بحاجة لسياسات جاذبة لرؤوس الأموال، لا طاردة لها.

كل هذه الخطوات ستخلق سوق عمل جاذب للكويتيين في معظم المجالات التي يشغلها الوافدون اليوم. ولذلك، بعد توفير هذه الأرضية لخلق سوق عمل حقيقي لأبناء البلد، تأتي خطوة تقليص القطاع العام من كل الشحم الزائد المتمثل بأكثر من 150 ألف موظف فائض عن الحاجة. فيجب أن تتحول الوزارات إلى مؤسسات مستقلة مثل الهيئات الحالية المستقلة وشركات مؤسسة البترول، بحيث تتحكم هي بالتوظيف والترقيات وكل ما يتعلق بأمر الوزارة لا كما يجري حاليا من تدخل ديوان الخدمة المدنية بالتوظيف والترقيات وغيرها، فهذا نظام شيوعي متخلف أكل عليه الدهر وشرب عوضا على فشله في أداء مهمته مع تضخم الجهاز الحكومي.

فهذا الديوان يجب أن يلغى بالكامل ويتحول إلى مجرد إدارة تابعة لمجلس الوزراء يقتصر دورها فقط على وضع سياسات عامة للتوظيف والترقيات والدرجات ومن ثم تراقب تطبيق هذه السياسات في الوزارات التي ستتحول إلى مؤسسات مستقلة، أو أن توكل مهمة المراقبة لديوان المحاسبة مع فرض شفافية الإعلان عن نتائج التوظيف والترقيات للجمهور. وبعدها توضع معايير لقياس كفاءة هذه المؤسسات سنويا، منها عدد الموظفين وتكاليف رواتبهم وسهولة الأعمال وتبسيط معاملات الناس وعدد ملاحظات ديوان المحاسبة عليها، ويمكن الاستعانة بالمتخصصين بعلم الإدارة سواء من جامعة الكويت أو غيرها لوضع هذه المعايير وطرق حسابها، بحيث إن لم تصل أي مؤسسة إلى درجة معينة من الكفاءة يتم استبدال قياداتها أو تخفيض تمويل الدولة لها. ومن ضمن خطوات إعادة هيكلة هذه الوزارات وتحويلها لمؤسسات مستقلة، لا بد من إعطاء تحفيزات للموظفين تشجعهم على الاستقالة من وظائفهم كأن يتم اعطائهم رواتب سنة كاملة أو سنوات خدمة إضافية لتحويلهم للتقاعد، وتكون هذه الفرصة متاحة لفترة معينة. بهذه الطريقة نستطيع خلق منافسة بين مؤسسات الدولة لسهولة تقديم الخدمات وتقليص عدد الموظفين ورفع كفاءتهم، وهو أهم هدف لأن دور الحكومة يجب أن يكون تنظيميا للأعمال وليس مديرا لها ولا مكبا للعمالة الزائدة والبطالة المقنعة.

ولو نظرا جيدا لكل الخطوات المقترحة السابقة لمعالجة سوق العمل، سنجد أنها ستساهم في خلق بيئة عمل جديدة وتعالج أمور أخرى لم تكن في الحسبان. فمثلا، مع تطبيق الراتب الأساسي لكل المواطنين وتخليص مؤسسات الدولة من كل العمالة الفائضة، قد نخلق فرصا جديدة للعمل الجزئي (part time)، وهو أمر غائب تماما من سوق عملنا الحالي بسبب سيطرة الحكومة على الوظائف، وجميعها وظائف بنظام دوام كامل بينما نجد أن دولة متقدمة مثل هولندا يعمل نصف مواطنوها تقريبا بنظام العمل الجزئي. فنظام العمل بالحكومة بدوام كامل زاد من اعتماد الأسرة الكويتية بشكل أكبر على الخدم والسواق، خاصة مع دخول المرأة الكويتية لسوق العمل بشكل كبير خلافا لما كان عليه الوضع قبل أربعين سنة وأكثر.

لكن عندما يكون هناك راتبا أساسيا لكل مواطن، ويتوفر العمل الجزئي سواء كوظيفة لدى شركة أو كعمل حر، فقد يقل اعتماد الأسرة على السواق والخدم نظرا لإمكانية تواجد الأب أو الأم بشكل أكبر في المنزل أو لإيجاد أوقات عمل مرنة بحيث يستطيع الأب أو الأم إيصال أبنائهم للمدرسة بأنفسهم بدلا من الاضطرار لتوظيف سائق أو الاستئذان من المسؤول في العمل، وهذا بدوره سيساهم في تعديل التركيبة السكانية. ويمكن تعزيز هذا الأمر بسن قوانين أمومة ورعاية طفل متقدمة كما في بعض الدول الاسكندنافية، حيث تمنح الأسرة سنتين إجازة يتقاسمها الأم والأب لرعاية المولود الجديد وتتكفل الحكومة بدفع جزء من الراتب طيلة هذه المدة لو كان المستفيد من العاملين في القطاع الخاص.

ومن الفوائد المرجوة من هذه الخطوات السابقة الحد بشكل كبير من ظاهرة الشهادات الوهمية والواهنة، والتي تعد نتيجة طبيعية ومباشرة لتضخيم القطاع العام وزيادة رواتبه وكوادره، وتقديس ورقة اسمها شهادة دون النظر لمستوى الجامعة. وهذه أحد الأمثلة لقوانين تفسد الناس، فعندما يتم ربط بدل نقدي بورقة اسمها شهادة دون النظر لمستواها أو للفائدة المرجوة منها، فمن الطبيعي أن يجري الناس وراء تحصيل هذه الأوراق بشتى الطرق الملتوية للحصول على الفائدة المادية. ولكن عندما يكون القطاع العام صغيرا ومعظم الوظائف متوفرة في القطاع الخاص والأعمال الحرة، فستتقلص ظاهرة التزوير هذه لأنه لن يكون من الضرورة أن يمتلك الشخص شهادة جامعية من أجل أن يحصل على وظيفة أو أن يحصل على أجر معقول من تقديم الخدمات والتجارة والأعمال الحرة.

العالم يتغير من حولنا بشكل سريع وأسواق العمل والمهن والمهارات التي يحتاجها موظفو المستقبل ستختلف بشكل كبير عن الحاضر، فبعض المهارات مثل العمل على برنامج (excel) أو برامج وتطبيقات أخرى قد تكون أهم من الشهادة الجامعية في عصرنا هذا. ولذلك لا غرابة في أن يكون من بين أكبر الناجحين في قطاع الأعمال على مستوى العالم أشخاص لم ينالوا الشهادة الجامعية على الإطلاق مثل ستيف جوبز وبيل غيتس، وكان ذلك قبل أكثر من أربعين سنة، فما بالكم بالحال اليوم؟!

كل الخطوات السابقة ستساهم في تخفيض حجم القطاع العام، وبالتالي تخفيض بند الرواتب في ميزانية الدولة، وستزيد من مشاركة المواطنين في القطاع الخاص والأعمال الحرة، وبالتالي تخفيف الاعتماد على الوافدين وما يترتب عليه من تخفيف التكاليف التي تتحملها الدولة لإيجاد وصيانة بنية تحتية تستوعب هذا الكم الكبير منهم وتوفير الخدمات لهم مثل الصحة وغيرها.

تقليص نطاق عمل الوزارات والهيئات

وما دمنا نتحدث عن تقليص حجم القطاع العام، فهذا لا يعني فقط تقليل عدد الموظفين فقط، بل أيضا تقليص نطاق عملها، إضافة إلى إلغاء بعض مؤسساتها ودمج أخرى، مما سيساهم أيضا في تقليص النفقات، وإليكم بعض الأمثلة على تضخم بعض مؤسسات الدولة:

1- وزارة الأوقاف وهي أكثر وزارة في هدر الأموال. وليس سرا أن هذه الوزارة بالذات مخصصة للتيارات الدينية كمرفق مدعوم من الدولة لتوظيف أتباعها من مواطنين ووافدين وممارسة نشاطها في استقطاب المزيد من الأتباع باسم الأنشطة الاجتماعية والدينية. ولذلك نجد حرصها على بناء المزيد والمزيد من المساجد الضخمة الفائضة عن الحاجة، لأنه مع بناء كل مسجد، يتم توظيف إمام ومؤذن وتوفر لبعضهم منازل في مواقع مميزة في المناطق النموذجية، ويتبع ذلك عقود صيانة وغيرها من تكاليف بينما تجد مرتادي هذه المساجد الضخمة لا يزيدون عن العشرون فردا في الغالب باستثناء يوم الجمعة. فلماذا بناء هذا الكم الكبير من المساجد وبأحجام ضخمة وبمواقع لا تبعد أحيانا عن بعضها سوى مسافة دقائق معدودة من المشي؟! وهل نحتاج لوظيفة مؤذن في عصر التكنولوجيا؟! هذا غير الملايين التي تصرف على الوسطية والحملات الاعلانية الدينية والتي كلما زاد الصرف عليها، نجد أن المجتمع زاد تطرفا وفسادا ونفاقا!

ولذلك ليس من الغريب أن يصل عدد موظفي هذه الوزارة أكثر من 22 ألف موظف، أي أكثر من عدد موظفي مؤسسة البترول وجميع شركاتها مجتمعة بما تملك من حقول انتاج ومصافي وناقلات تتطلب نوبات عمل على مدار الساعة وليس 7 ساعات باليوم فقط! أي أن عدد موظفي هذه الوزارة -إن وضعنا بالاعتبار عدد ساعات العمل- هو بالواقع أكثر من مثلي عدد موظفي مؤسسة البترول وشركاتها! هذا مع ملاحظة أن شركات مؤسسة البترول وشركاتها توفر إيرادات للدولة -أي إنها مركز ربحية- بينما وزارة الأوقاف تعتبر مركز صرف، وفي العادة يتم توظيف أقل عدد ممكن في أي مركز صرف، بينما الوضع معكوس تماما مع هذه الوزارة.

2- هيئة طباعة القرآن الكريم، والتي أيضا أنشئت قبل سنوات طويلة ولم تطبع نسخة واحدة من المصحف الشريف لعدة سنوات، بل وجدنا شبهات الفساد تطفح فيها! فكان واضحا منذ بداية مقترح إنشائها أن هدفها فقط إيجاد مركز لتوظيف أتباع بعض التيارات الدينية ومنح قيادييها رواتب عالية! فطباعة المصحف الكريم وبقية المطبوعات المتعلقة بالسنة النبوية وغيرها يجب أن تكون أنشطة خيرية تقوم به جمعيات النفع العام والجمعيات الخيرية وما أكثرها، لا الدولة.

3- وزارة الكهرباء والماء التي يبلغ عدد موظفيها أكثر من 22 ألف موظف، أي أيضا أكثر من عدد موظفي مؤسسة البترول وشركاتها مجتمعة. ووزارة الأشغال العامة التي يبغ عدد موظفيها حوالي 14 ألف موظف، أي أكثر من موظفي شركة نفط الكويت وعدة شركات نفطية أخرى مجتمعة. وليس سرا أن هاتين الوزارتين كانتا ولا زالتا مركزين للتوظيف السياسي والبطالة المقنعة، خاصة في عهود الوزراء النواب.

4- وزارة الإعلام التي يبلغ عدد موظفيها أكثر من 8 آلاف موظفا، أي أكثر من عدد موظفي شركة البترول الوطنية وشركة الصناعات البترولية المتكاملة وشركة البترول العالمية وشركة الصناعات الكيماوية وشركة ناقلات النفط وشركة الاستكشافات الخارجية مجتمعة! فما المبرر لهذا العدد الهائل من الموظفين لأعمال معظمها بلا إيراد للدولة؟! فيجب إعادة النظر بهذا الكم الهائل من الموظفين وبكم القنوات التلفزيونية التي تديرها وجيوش الموظفين التي ترافقها. فمثلا، هل هناك جدوى من القناة الثانية الناطقة بالإنجليزية؟ وهل هناك متابعين لها مع كم القنوات الفضائية التي تملأ السماء؟ وإذا كانت هناك من رسائل تود الدولة إيصالها للمقيمين، أليس من الأجدى والأوفر إعداد مقاطع قصيرة تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟!

5- مجلس الوزراء لوحده لديه أكثر من 5 آلاف موظف -أي عدد مقارب لموظفي شركة البترول الوطنية وما تملكها من مصافي تعمل على مدار الساعة- منهم أكثر من ألف موظف وافد! فما هو المبرر لهذا العدد الهائل من الموظفين؟! هل هو للتوظيف الانتخابي والمجاملات والمحسوبيات أم ماذا بالضبط؟!

هذه فقط بعض الأمثلة وهناك المزيد منها في الوزارات الأخرى، كلها تدل على انتفاخ وظيفي وتعيينات انتخابية وسياسية بلا أي مردود. أما إذا أتينا لرواتب القياديين في مختلف الهيئات بالذات، فنجد فيها مبالغة كبيرة، خاصة في الهيئات الجديدة وأبرزها هيئة مكافحة الفساد، التي تصل رواتب قيادييها إلى 10 آلاف دينار شهريا! فإذا كان هناك من اصلاح فيجب البداية برواتب هؤلاء وخفضها بنسبة كبيرة.

الخصخصة وتحرير الاقتصاد

من ناحية أخرى يجب على الدولة تحرير بعض الأنشطة الاقتصادية من قبضتها سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة لأن هذه السيطرة أدت لزيادة البيروقراطية وزيادة الموظفين المشرفين عليها وزيادة الفساد فيها. وهذا ليس مطلبا جديدا بل قديم جدا، وعلى أثره صدر قانون في سنة 2010 في شأن تنظيم برامج وعمليات التخصيص، وفي سنة 2012 تم تشكيل المجلس الأعلى للتخصيص، لكن منذ ذلك الحين لم يتم خصخصة أي مرفق حكومي! وهناك عدة أمثلة على قطاعات سواء حكومية أو شعبية مدعومة حكوميا يجب خصخصتها:

1- الجمعيات التعاونية: قد تكون فكرة التعاونيات مقبولة عندما أنشئت قبل خمسون سنة عندما كانت هذه الجمعيات صغيرة الحجم نظرا لقلة عدد السكان. لكن حتى في ذلك الزمان تفشى الفساد تدريجيا فيها إلى أن وصل لعصرنا هذا الذي أدى إلى تردي الخدمات في الغالبية العظمى من هذه الجمعيات، وتفشي المحسوبيات والتوظيف الانتخابي وغيرها من سلبيات دون معالجة لأن هذه الجمعيات تخضع لوزارة الشؤون، التي تخضع بدورها للضغوطات السياسية، والتي أدت لطمطمة الكثير من الفضائح وشبهات الفساد فيها. هذا إضافة إلى جيش الموظفين التي تحتاجها الوزارة للإشراف على هذه الجمعيات والمصادقة على صرف شيكاتها وغيرها من التعقيدات التي تضر بيئة الأعمال.

فمن الأولى المضي بخصخصة هذه الجمعيات ولكن بطريقة ذكية تحفظ حقوق المواطنين العاديين، ويكون ذلك عبر تطبيق فكرة رخصة الاتصالات الثالثة، التي اكتتب فيها المواطنون وبعض مؤسسات الدولة بالقيمة الإسمية للسهم (100 فلس) بينما دفعت الشركة الفائزة بالأسهم الباقية أكثر من دينارين للسهم الواحد، وبذلك استفاد المواطن واستفادت الدولة من إيراد أكثر من 200 مليون دينار لبيع حصة قيمتها الاسمية فقط 12.5 مليون دينار.

فباتباع هذا النموذج يمكننا دمج كل الجميعات وفروعها في ثلاث شركات مثلا، ويتم تقدير قيمتها السوقية وبعدها يكتتب المواطنون بنصف الحصة في كل شركة، بينما تدخل الشركات العالمية بالمزايدة على الحصة المؤثرة (مثلا 30% أو 40%)، ويمكن للحكومة الاكتتاب عن المواطنين بنصف الأسهم المخصصة لكل مواطن لكنها تكون أسهما غير قابلة للبيع حتى تكون مصدرا للدخل الدائم لكل مواطن بدلا من نموذج بنك وربة التي باع الكثير من المواطنين حصتهم المجانية فيها بدلا من الاحتفاظ بها على المدى الطويل.

بذلك يتم تطوير الخدمات نظرا لدخول متخصص في هذا المجال -وما نموذج سيتي سنتر في جمعية الدسمة التعاونية إلا مثال على ذلك- ويحتفظ المواطن بأرباحه من هذا المرفق، ويدخل على خزينة الدولة إيراد من بيع هذه الأصول التي لا تحصل الدولة على إيراد مجز منها في الوقت الحالي، وأيضا تتخلص الدولة من عبئ مراقبة هذه المرافق ومحاولتها الفاشلة في ضبط الفساد المنفلت فيها. وكذلك يتم تسهيل عمليات التوريد، فتعامل الموردين مع ثلاث جهات مثلا أسهل بكثير من التعامل مع أكثر من ستين جهة وما يصاحبها من مشاكل جمة وفساد. كما نستطيع إعادة توزيع الأنشطة الاستثمارية في هذه الجمعيات وتوجيهها نحو المشاريع الصغيرة بدلا من الوضع الحالي الذي تبلغ فيها قيم الخلوات أرقام فلكية تصب في صالح أصحاب رؤوس الأموال. ويمكن تطبيق هذا النموذج لخصخصة خدمات أخرى كالبريد، والخطوط الهاتفية الأرضية وغيرها من الخدمات التي باتت رديئة ومكلفة بنفس الوقت لأنها تحولت مكبا للبطالة المقنعة والتسيب الوظيفي.

2- الأندية الرياضية: ويمكننا تطبيق نفس نموذج الخصخصة على الأندية الرياضية التي باتت أيضا مجالا آخر لهدر الأموال. فالرياضة في تدهور مستمر منذ الثمانينات بالرغم من زيادة صرف الأموال عليها، وباتت أيضا مجالا للمحسوبيات والتدخلات السياسية. فحاليا هناك فقط خمس أو 6 أندية تتنافس على معظم المسابقات بينما بقية الأندية دورها مقصور فقط على بيع اللاعبين المميزين على هذه الأندية. بينما لو قامت الدولة بخصخصة هذه الأندية، تستطيع تجميع كل الإيرادات الناتجة من بيعها ووضعها في صندوق استثماري، تصرف من أرباحه على الرياضة عبر وضع جوائز مالية لكل المسابقات حتى تكون هذه الأندية جاذبة لرؤوس الأموال، وتتحول إلى تطبيق الاحتراف الكلي وتتنافس كل الأندية على كل المسابقات، وبذلك يمكن تطوير الرياضة.

3- شركة المشروعات السياحية: لا يخفى على أحد فشل هذه الشركة في تحديث مشاريعها القائمة مثل منتزه الخيران والمدينة الترفيهية، ناهيك عن إيجاد مشروعات سياحية جديدة متطورة. فهذه الشركة إما ان تلغى بالكامل أو تخصخص مع إعطائها أراض بمواقع متميزة كي تقيم بها مشاريع سياحية متطورة. وما دمنا نتحدث عن السياحة، أما آن أوان تحرير الشريط الساحلي الجنوبي من احتلال الشاليهات؟! ألم تكن العقود الخمس الماضية كافية لاحتكار فئة قليلة لهذه الأراضي بينما غالبية الشعب ليس لديه سوى منافذ بحرية قليلة ومستهلكة؟! لقد آن أوان إعادة استملاك الدولة لكل هذه الأراضي وفتح جزء من الشريط الساحلي للعامة واستغلال أجزاء أخرى لإقامة المشاريع السكنية وفتح الباب للمستثمرين العالميين لإقامة مشاريع سياحية متطورة تجذب السواح من الداخل والخارج وتكون أحد أوجه جذب الاستثمار الأجنبي وتعظيم الإيرادات للدولة وخلق فرص عمل للشباب الكويتي.

ترشيد الدعوم

بما أن الدعوم تشكل 20% تقريبا من ميزانية الدولة، أي حوالي 4 مليارات دينار سنويا، فهذا أيضا ملف يجب إعادة النظر فيه، بحيث يتم ترشيده حتى لا يكون أحد مصادر الهدر. فبداية يجب إعادة النظر بأسعار الكهرباء والماء، ليس بغرض التوفير المالي بالدرجة الأولى، ولكن للتشجيع على عدم الاسراف والتبذير بهذه الخدمات. فالسبب الرئيسي للإسراف الكبير في استهلاك الكهرباء والماء هو السعر الزهيد التي تحصله الدولة مقابل تكلفة انتاج هاتان الخدمتان الحيويتان.

ثم يجب أن تكون الأسعار حسب شرائح استخدام لأن طريقة الدعم الحالية تفيد الأغنياء أكثر من المنتمين للطبقة المتوسطة أو المحدودة. فالذي يملك بيتا مساحته ألف متر مربع يستهلك ماءً وكهرباءً أكثر ممن يملك منزلا مساحته 400 متر مربع، وبالتالي يحصل على دعم أكثر من الدولة! لكن إن تم حسب شرائح، كأن يكون هناك سعر معين لاستهلاك الكهرباء إلى حد معين من الكيلوواط، فإذا تجاوز المستهلك ذلك الحد، يرتفع السعر وهكذا. فهذا نظام أكثر عدلا ويساهم في التوفير على الدولة.

وأيضا يجب إعادة النظر في دعم الإنجاب لعدد سبعة أبناء للأسرة، فما الداعي لدعم الإنجاب بهذا العدد الكبير في ظل اقتصاد ريعي قائم على توظيف المواطنين في الحكومة بينما نجلب المزيد من الوافدين لخدمتهم؟ المسألة ليست مجرد 50 دينا شهريا مقابل كل مولود إلى بلوغ سن الرشد، لأن المسألة تتعدى ذلك إلى تكاليف تعليم هذا المولود إلى مرحلة ما بعد الثانوية، وتوفير الخدمات الصحية وغيرها إلى توفير وظيفة له، وكل ذلك يساهم في تضخم الميزانية على المدى البعيد دون أن نشعر بذلك. فيجب تقليص دعم الإنجاب إلى 4 أبناء مثلا إلى أن نقوم بتغيير جذري في اقتصاد الدولة وتقليل الاعتماد على الوافدين بتوجيه المواطنين للعمل الحر والقطاع الخاص. عندئذ نستطيع زيادة دعم الانجاب إن تتطلب الوضع زيادة عدد المواطنين.

الإسكان

لا يخفى على أحد أن مشكلة الإسكان ربما تكون أكثر مشكلة تؤرق الشباب الكويتي خاصة بعد إهمال الدولة لهذه الملف طيلة الثلاثين سنة الماضية والتي أدت إلى تراكم الطلبات بشكل مخيف، بحيث صارت الأسرة تنتظر لمدة تصل أحيانا لعشرين سنة حتى تحصل على أرض. وما ساهم في هذه الأزمة هو ارتفاع أسعار العقار في مناطق السكن النموذجية بشكل جنوني بسبب الاحتكار والمضاربة في هذا النوع من العقار، وتزايد انتقال رؤوس الأموال الاستثمارية من العقار التجاري والاستثماري إلى العقار السكني الذي تحول بالتالي إلى استثماري أيضا، وهذا خلاف الغرض من انشاء هذه المناطق النموذجية. وهذا الملف هو من أكثر العوامل التي أدت إلى عزوف الشباب عن العمل الحر والخاص، وارتباطه بالوظيفة الحكومية المضمونة ومطالبته بمزيد من الزيادات والكوادر.

ولهذا فيجب سن قوانين تحد من امتلاك المواطن لأكثر من مساحة إجمالية معينة في العقار السكني، فمن غير المعقول أن يمتلك بعض الأغنياء وبعض الورثة أعدادا مهولة من الأراضي وبمساحات تصل لآلاف الأمتار المربعة بينما أغلبية المواطنين لا يملكون حتى مترا مربعا واحدا! وليس من مصلحة هؤلاء -وخاصة المنتسبين للأسرة الحاكمة- أن يراهم الشعب كإقطاعيين ومحتكرين ومساهمين بمعاناة آلاف الأسر الكويتية، فذلك يهدد صورتهم أمام الشعب واستقرار البلد ككل ومصالحهم أيضا على المدى البعيد إن لم يكن القريب. فمن يريد الاستثمار فليتوجه للعقارين الاستثماري والتجاري، أما العقار السكني فيجب أن يبقى سكنيا فقط لأنه يرتبط بمعيشة واستقرار كل الأسر الكويتية، وهذا يتطلب أيضا أن تكون المزادات فقط لأصحاب الطلبات القائمة لدى الهيئة العامة للإسكان لا كما هو حاصل حاليا من مشاركة بعض السماسرة بهذه المزادات، مدعومين برؤوس أموال خاصة أو من البنوك لكن بصورة شخصية!

وإضافة إلى ذلك، يجب أن على الدولة أن توفر المزيد من الأراضي وتفتح الباب للمطورين العقاريين العالميين لكي يقوموا هم بإعمارها وترتيبها وتوفير البنية التحتية لها وبيعها بأسعار معقولة لقائمة المنتظرين المسجلين بالهيئة العامة للإسكان بدلا من أن تحمل الدولة على عاتقها تنفيذ كل هذه المشاريع. كما يجب تعديل قانون الهيئة العامة للإسكان بحيث يتم زيادة بدل الإيجار بشكل تدريجي إن لم توفر الدولة أرضا لصاحب الطلب خلال خمسة سنوات من تقديمه، لأن القانون الحالي يفتقد لأي ضمانات لوفاء الدولة بوعودها.

إن التوسع السريع للدولة في المشاريع السكنية للمواطنين، مما يساهم في تخفيض أسعار العقار السكني، ويحل أكبر معضلة تهدد استقرار الأسر الكويتية سيسهل أي خطوات الدولة في تقليص حجم القطاع العام وتوجيه المواطنين للأعمال الحرة والقطاع الخاص، مما يخفض من الإنفاق العام السنوي ويدعم استدامة الدولة واقتصادها. فالحكومة بحاجة لتخفيف الضغط على الشعب وإعطائه بعض المزايا في مقابل مطالبته بالعمل الجاد بدلا من الاعتماد على الوظيفة الحكومية.

الصحة

الخدمات الصحية كانت جيدة في السابق، ولكن مع زيادة عدد السكان خلال السنوات الماضية تردت الخدمات تدريجيا، لأنه بات من الواضح أن وزارة الصحة لم يعد بمقدورها إدارة نظام صحي يزداد تضخما بالطريقة المركزية البيروقراطية حاليا، وما تجربة بناء مستشفى جابر دون تجهيز الكوادر الطبية والأنظمة اللازمة لتشغيله بصورة كاملة وبالوقت المحدد إلا دليل على ذلك، ناهيك عن تخبط الحكومة والتغيير المستمر في رأيها عن الشريحة التي سيخدمها هذا المستشفى. وبهذا الصدد يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في تقريره كمستشار لحكومة دولة الكويت بأن الدولة تصرف على النظامين التعليمي والصحي بمبالغ تفوق معدل صرف دول الإتحاد الأوروبي، ولكن بمردود أقل بكثير، مما يعني بأن هناك هدر كثير بالأموال للحصول على نتائج عكسية.

وبدلا من إجراء عملية جراحية بتغيير جذري في النظام الصحي لجعله أكثر كفاءة مع ضبط تكلفته المادية، قام المجلس والحكومة بعملية ترقيعية عبر إقرار التأمين الصحي للمتقاعدين، وهذا بحد ذاته يدل على خطأ كبير في تقييم الأمور، ففكرة التأمين تكون مبنية على تأمين الجميع بحيث يتم توفير اشتراكات صغار السن وهم أغلبية وبصحة جيدة في الغالب لسد احتياجات كبار السن، وكانت هذه إحدى مرتكزات نظام الرئيس أوباما الصحي الذي أقر في ولايته الأولى، والذي فرض غرامة على الشباب إن لم يشتركوا في النظام الصحي، حتى يتم تحصيل الأموال اللازمة لتمويله. لكن أن يتم تخصيص تأمين صحي فقط على المتقاعدين، وغالبيتهم العظمى من كبار السن الذين تزيد نسبة حاجتهم لمراجعة المستشفيات، فمن الطبيعي أن تكون تكلفته عالية جدا.

ونتيجة لذلك باتت هناك عدة أنظمة صحية في الدولة، وهي: المستشفيات الحكومية، المستشفيات الخاصة، مستشفيات الضمان الصحي، تأمين عافية، تأمين الشركات وبعض الهيئات. ولعل تعدد الأنظمة الصحية هو أحد أسباب الخلل بالنظام الصحي ككل، وهذه الحالة قد تكون شبيهة إلى حد ما بالحالة الصحية في أمريكا والتي جعل منها السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز المرشح مرتين للرئاسة في الحزب الديمقراطي قضيته الأساسية، حيث طالب بتوحيد الأنظمة الصحية لتكون نظاما واحد مدعوم من الحكومة وشبيه بالنظام الكندي وبالأنظمة الصحية في بعض الدول الأوروبية، بحيث لا تتحكم شركات التأمين بصحة الناس ولا تكون الخدمة الصحية بذاتها مجالا لتعظيم الأرباح، وتدل استطلاعات الرأي حاليا في أمريكا أن هناك غالبية ديمقراطية مؤيدة لرأي ساندرز بخصوص هذه القضية، وفي بعض الاستطلاعات غالبية عامة من الشعب الأمريكي أيضا.

وإذا أضفنا لذلك سلبيات مركزية النظام الصحي الحكومي الحالي وأبرزها:

1- المحسوبيات في التعيينات في المناصب المختلفة من رؤساء الأقسام وما فوق.

2- عدم التمييز في الراتب بين الطبيب المتميز والطبيب العادي بنفس المسمى، مما أدى إلى اضطرار الكثير من الأطباء المتميزين لفتح عياداتهم الخاصة.

3- مركزية عمليات توريد المعدات والمستلزمات الطبية، بدلا من أن تكون بيد المستشفيات.

فإن كل ما سبق دليل على وجوب عمل تغيير جذري في النظام الصحي في الدولة يكون أساسه استقلالية المستشفيات والمراكز الصحية، بينما يقتصر دور وزارة الصحة على سن اللوائح التنظيمية والمراقبة لا الدخول مباشرة في إدارة المستشفيات والمراكز كما هو حاصل حاليا.

طبعا لا يوجد أي نظام صحي في العالم دون مشاكل، ولكن ذلك لا يعني عدم الاستعانة ببعض الأنظمة الناجحة في الدول الأخرى، ولعل النظام الكندي قد يكون الأنسب لدولة مثل الكويت، خاصة وأن كثيرا من الأطباء الاختصاصيين الحاليين والمبتعثين هم من خريجي كندا. وفكرة هذا النظام هو استقلالية المستشفيات والمراكز الصحية في تقديم الخدمات، بينما يكون دور الحكومة هو الممول لهذه الخدمات حسب رسوم متفق عليها مقابل مختلف خدمات الفحص والعلاج التي تقدمها هذه المستشفيات والمراكز للمرضى، أي أن دور الحكومة يكون شبيها بدور شركة تأمين. لكن السؤال هنا هو من سيدير مستشفيات الدولة الحالية؟ فهل ندعو المستشفيات العالمية لتديرها أم تنشأ هيئات محلية لإدارتها؟ هذا بحاجة لنقاش مستفيض حتى نصل للحل الأمثل الذي يناسبنا خاصة وأنه يجب بحث وضع بعض المراكز التخصصية وهل يتم دمجها مع مستشفيات عامة أم تظل تخصصية على ما هي عليه؟

إن من الإيجابيات المرجوة لهذا المقترح أو أي مقترح آخر يرتكز على إلغاء المركزية واستقلالية المستشفيات واقتصار دور وزارة الصحة على التنظيم والمراقبة هو التالي:

1- ترشيق وزارة الصحة وتخليصها من كل أعباء الإدارة المركزية المترهلة للنظام الصحي

2- توحيد النظام الصحي وتخفيف تكاليفه، خاصة مع إلزام الوافدين بدفع اشتراك أكثر من الحالي مقابل الحصول على تأمين الحكومة.

3- تسهيل عمليات توريد المستلزمات الطبية التي تحتاجها المستشفيات بشكل يومي.

4- إعطاء الطبيب المتميز ما يستحق من راتب وأفضلية على غيره.

5- جلب الخبرات الأجنبية في مختلف التخصصات بالرواتب التي يطلبونها، حيث تعتبر قوانين الخدمة المدنية عائقا أمام استقدامهم، مما ساهم في زيادة ميزانية العلاج بالخارج.

6- تقليص ميزانية العلاج بالخارج.

طبعا لا أدعي بأن لدي الحل السحري ولا كل الإجابات على شكل النظام الجديد المرجو، فالأطباء بالنهاية هم أهل الصنعة وأدرى بشعابها، لكن ما أنا متيقن منه هو أن النظام الحالي لم يعد صالحا في الأوضاع الحالية وخاصة مع الورطة المالية التي وقعت فيها الدولة، ولا بد من تغيير جذري في فلسفة النظام الصحي وشكله.

التعليم

لو نظرنا إلى النقاش الدائم في التعليم لرأيناه يقتصر دائما على الحديث عن تطوير المناهج وتحسين رواتب المعلمين وتدريبهم والإتيان بمعلمين أكفاء من الخارج، وهذا نقاش مستحق ولكنه لا يمس أصل المشكلة، التي لو عالجناها لرأينا بقية المشاكل تنحل تباعا. وأصل المشكلة في تردي التعليم هو ثقافة الريع التي تعود عليها المجتمع، ففي ظل هذه الثقافة لا يوجد دافع لمعظم الطلبة للتحصيل العلمي لأن الوظيفة الحكومية مضمونة، ولنفس السبب هناك تقصير من قبل بعض المعلمين الكويتيين، فقلما نجد معلما كويتيا يفصل من عمله لتقصيره أو لسوء مستواه التدريسي أو لكثرة غياباته ومرضياته. ولنفس السبب أيضا فإن المعلم الأجنبي يهمل التدريس المدرسي ويكون همه منصبا على الدروس الخصوصية لأنه يرى بنفسه كيف أن ثقافة البلد ككل لا تثمن التعليم بل تراه مجرد روتين يمر به الطالب الكويتي للوصول للوظيفة الحكومية المضمونة. وهذا هو السبب الرئيسي في استمرار تدهور التعليم بالرغم من زيادة رواتب المعلمين قبل عشر سنوات، والتساهل في إعطاء الدرجات وتفشي الغش بتشجيع من كثير من المعلمين ومدراء المدارس تحت شعار (الكل يحصل على ميدالية).

وبهذا الصدد، أورد الكاتب الأمريكي توماس فريدمان في مقاله (Pass the Books. Hold the Oil) بصحيفة النيويورك تايمز في سنة 2012 دراسة لمنظمة الـ(OECD) تقارن بين نتائج الطلبة ممن أعمارهم 15 سنة في 65 دولة في الاختبارات الدولية، وعلاقة تلك النتائج بنسبة الإيرادات من الثروات الطبيعية لكل دولة من ناتجها القومي السنوي، أي علاقة الدرجات بإيرادات النفط وغيرها من ثروات الدول. ووجدت الدراسة علاقة عكسية قوية بين درجات الطلبة ومقدار إيراد دولتهم من الثروات الطبيعية، أي كلما زاد الاعتماد على النفط في ميزانية الدولة، كلما ضعفت مستويات طلبتها ومهاراتهم. ولهذا نجد طلبة دول فقيرة بالثروات الطبيعية مثل سنغافورة وفنلندا وكوريا الجنوبية واليابان هم في المقدمة بالاختبارات الدولية، بينما طلبة الدول الغنية بالثروات الطبيعية في المؤخرة على حد قول أندريس شليجير المشرف على هذه الاختبارات، باستثناء دول مثل النرويج وكندا وأستراليا، حيث أظهرت النتائج تقدم طلبتها في الاختبارات مع أنها دول غنية بالثروات الطبيعية، وذلك لأنها تستخدم عائدات ثرواتها في الاستثمار، فلا يوجد قطاع عام متضخم ولا وظائف حكومية مضمونة، بل هناك ضرائب وهناك شعوب تحاسب حكوماتها على كيفية صرف أموال الضرائب هذه.

وفي دراسة أخرى ينقلها فريدمان أجريت في عام 2007، فإن مستوى طلبة دول عربية فقيرة في الثروات الطبيعية مثل الأردن ولبنان يفوق مستوى طلبة دول غنية مثل السعودية والكويت والجزائر في الرياضيات والعلوم. الخلاصة أنه كلما كانت الدولة فقيرة بالموارد الطبيعية، كلما أدرك مجتمعها بأن طريقه لبناء الثروة هو المهارة والابتكار لأن الحاجة أم الاختراع، وذلك يعتمد على جودة التعليم، بينما عندما تعتمد دولة ما على ثرواتها الطبيعية للإنفاق الجاري، فلن يشعر المجتمع أصلا بالحاجة للاجتهاد والابتكار، وبالتالي يقل الاهتمام بالتعليم. من هنا تأتي أهمية اصلاح سوق العمل وتقليص حجم الحكومة وتوجيه الشباب للقطاع الخاص والعمل والحر، لأن ذلك سيقلل من الاعتماد على النفط، وبالتالي يرفع من قيمة العلم لدى الناس.

من ناحية أخرى، لعل ما ساهم أيضا في تردي التعليم هو تفشي ظاهرة الشهادات الجامعية الوهمية والواهنة، والتي تحدثنا عنها سابقا بسبب ثقافة الريع التي لا تقدر العلم بل تقدر ورقة اسمها شهادة جامعية. فلذلك، ليس بالغريب أن نجد طلبة يجتازون الثانوية بالغش وبالتساهل بالدرجات، ليحصلوا على شهادة جامعية واهنة من جامعات عربية معروفة بالبزنس، ليتوظفوا بعدها بالوزارات ويحصلوا على كادر، وبعضهم يصل لمناصب عليا. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد تعديل نظام احتساب نسبة التخرج من الثانوية العامة والتي أدت إلى ارتفاع نسبة النجاح العامة من 68% إلى 92% في غضون ثلاث سنوات فقط! لذلك رأينا ذلك التضخم الكبير في أعداد المهندسين والمحاسبين وغيرها من الوظائف، بحيث صارت نسبة المهندسين من الشعب كله أكثر من نسبة المهندسين في دول صناعية كاليابان!

أضف إلى ذلك عدم العدالة في الرواتب بين المعلم المواطن والمعلم المقيم، وقد تحدثنا من قبل عن أثر الإحساس بعدم العدالة والمساواة على مستوى التعليم ومجالات أخرى في دراسة أكاديمية بريطانية. فعندما عندما يرى المعلم الوافد أن راتب المعلم الكويتي قد يصل لثلاث أضعاف راتبه، فكيف نتوقع منه أن يؤدي عمله بإخلاص وهو يشعر بعدم العدالة والمساواة، فمن الطبيعي أن يركز جهده في الدروس الخصوصية لتعويض هذا الفرق بالراتب. ثم إن هذا الراتب القليل للمعلم الوافد كفيل بأن يستقطب فقط المعلمين ذوي التقديرات المتواضعة لأن المتميزين يتجهون لدول خليجية أخرى تعرض رواتبا أفضل.

أما إذا أتينا للناحية التنظيمية وأثرها على تردي التعليم، فنجد أن الهيكل الوظيفي المتضخم لوزارة التربية والذي تجاوز 115 ألف موظف هو السبب الرئيسي لعدم القدرة على التطوير. فمن المستحيل أن يتم قيادة قارب بهذا الحجم مع ضمان الجودة فيه، خاصة وأن الوزارة هي التي توظف وهي التي تجلب المدرسين من الخارج وهي التي توزع آلاف المدرسين على المدارس. ففي ظل هذا النظام، التنافس على تقديم مستوا أفضل في التدريس مفقود، وتكلفة الاشراف عليه مكلف، وليس من المستغرب أن يكون معدل تكلفة الطالب في المدارس الحكومية أعلى من مثيله في المدارس الخاصة، مع أن مستوى التعليم في الخاص أفضل من الحكومة. وبهذا الخصوص، قال الدكتور ميرزا حسن وهو أحد المدراء التنفيذيين في البنك الدولي في مقابلة مع جريدة القبس في سنة 2014 بأن عائد التعليم في كوريا الجنوبية يبلغ 80 سنتا لكل دولار مصروف عليه، بينما في الكويت يبلغ العائد على التعليم فقط 20 سنتا مقابل كل دولار! مما يعني أنه حتى لو خفضت الدولة ميزانية التعليم إلى النصف فإن مستوى التعليم سيظل كما هو. هذا يدل على أن النظام التعليمي الحالي مكلف وبيروقراطي ومركزي دون أي فائدة، وأنه إذا أردنا تطوير التعليم فيجب أن نفكر في تغيير النظام التعليمي من جذوره والتخلص من الطريقة النمطية التي انتهت صلاحيتها.

ولعل الدولة الوحيدة من دول الخليج التي رأت ضرورة تغيير الطريقة النمطية في تقديم الخدمة التعليمية هي دولة قطر الشقيقة، وذلك عندما شخص أميرها آنذاك الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بأن المركزية الشديدة هي التي قيدت التعليم من التطور في بلاده، فاستعان بمؤسسة راند الأمريكية التي قدمت له مجموعة من الخيارات اختار منها نموذج المدارس المستقلة، أي أن تدار المدارس برخص مستقلة تكون بتمويل حكومي، وتكون لكل مدرسة حرية اختيار المدرسين ومرونة كبيرة حتى في المناهج وطرق التدريس، وبذلك تكون كل مدرسة مسؤولة عن العملية التعليمية من الأف إلى الياء، دون الخضوع للبيروقراطية الحكومية العقيمة. وقد خلق ذلك تنافسا بين المدارس على تطوير التعليم واستقطاب الكفاءات، واستطاعت قطر بعد سنوات قليلة من تطبيق هذا النموذج في منتصف العقد الماضي من احتلال المرتبة الأولى عربيا ومركز متقدم عالميا في جودة التعليم.

إن التجربة القطرية جديرة بتقييمها ودراسة مدى إمكانية تطبيقها على مدارسنا سواء باستنساخ النموذج القطري بالكامل -باعتبار قطر أقرب إلينا ثقافيا من الدول الأخرى- أو بإدخال بعض التعديلات عليه، لكن ذلك لا يمنع أيضا من الاستفادة من النماذج التعليمية الناجحة في دول أخرى مثل سنغافورة. المهم أن النظام التعليمي في بلدنا بحاجة لعملية جراحية وتغيير جذري يواكب عصرنا الحالي، فتضييع المزيد من الوقت على الحديث عن سبل علاج هلامية مثل تطوير المناهج لن ينجح في ظل نظام تعليم مركزي عقيم وعائق للتطوير. وقد رأينا في أزمة فيروس كورونا كيف أن المدارس الخاصة تحولت سريعا للتعليم الإلكتروني بينما وقفت وزارة التربية -بميزانيتها المليارية- عاجزة عن التصرف بسرعة، وهذا طبيعي جدا، فتغيير اتجاه قارب صغير أسهل بكثير من تغيير اتجاه بارجة ضخمة.

إذا فالمطلوب الانتقال إلى نظام غير مركزي، يترك فيها المجال للمدارس للإبداع في طرق التدريس وحتى مرونة في المناهج، وإلغاء بعض المواد التي لا فائدة منها، وتشجيع الكويتيين على الانخراط في تدريس المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء، وهذا لن يتأتى إلا بتمييز هذه التخصصات ماديا عن بقية المواد، فليس من المعقول أن أعداد المعلمين الكويتيين في مادة مثل الفيزياء لا تتعدى أصابع اليد الواحدة بعد ثلاثين سنة من التحرير! وما دمنا نتحدث عن المعلمين الكويتيين، فيجب أن نراجع مخرجات كليات التربية، وهناك عدة ملاحظات من هذه الناحية:

1. نسب القبول متدنية نسبيا في هذه الكليات، وهذا يعني أن أغلب الملتحقين فيها ليسوا من المتميزين في الثانوية العامة، خاصة في كليات البنات نظرا لأسباب اجتماعية ودينية معروفة جعلت من هذه الكلية ملجأً لمن لا يريد أصلا أن ينخرط في سلك التعليم. فكيف نتوقع صناعة معلمين أكفاء من هكذا وضع؟! فيجب رفع نسب القبول في الكليات التي تنتج المعلمين، ووضع مميزات تجعل وظيفة المعلم جاذبة لأصحاب المعدلات العليا في الثانوية، خاصة لأصحاب التخصصات العلمية.

2. مستوى خريجي كليات التربية ضعيف لعدم تمكنهم من مادتهم العلمية نتيجة لقلة تدريسها من ضمن المنهج. فمثلا طالب الرياضيات في كلية التربية، والذي سيصبح معلم رياضيات، لا يدرس سوى قليلا من مواد الرياضيات نسبيا، بينما اغلب مواده هي مواد تربية، وهذا خلل كبير أشار إليه مستشارون من ألمانيا لجامعة الكويت قبل عدة سنوات، لكن كالعادة ركنت توصياتهم على الرف، مثلما ركنت توصيات أخرى وأحدها ضرورة انشاء برنامج دبلوم عالي لخريج التربية قبل أن يصبحوا معلمين، وهو اقتراح معمول به في فنلندا -إحدى أفضل الدول في جودة التعليم عالميا- حيث لا يستطيع أحد أن يمارس التعليم ما لم يكن لديه ماجستير.

ثم لماذا لا يسمح لخريجي كلية العلوم وبقية الكليات المتخصصة بالتدريس؟ فالأصل أن يكون هؤلاء هم أكثر أهلية للتدريس لأنهم متمكنون من مادتهم العلمية أكثر من نظرائهم في كلية التربية، ويمكن اخضاعهم لبرنامج مكثف في طرق التدريس قبل التحاقهم في سلك التعليم. ولماذا يشترط على الكويتي أن يكون خريج كلية التربية ليمارس التدريس بينما لا يشترط ذلك على المعلم الوافد؟! هذا مثال من عدة امثلة للتخبط وتناقض السياسات التربوية في البلد.

التعليم العالي

لو تفحصنا قطاع التعليم العالي، لوجدناه لا يختلف عن بقية قطاعات الدولة الأخرى، سواء من الناحية السياسية وخطط الدولة المستقبلية أو من الناحية الإدارية التنظيمية. لكن قبل كل ذلك لنسأل أنفسنا: ماذا نريد من التعليم العالي؟ وهل نحن بحاجة للتوسع في التعليم الجامعي؟

ففي الدول المتقدمة يلعب التعليم العالي دوره في تنشيط الاقتصاد وبناء ثروة الدولة عبر تخريج الشباب في مختلف المجالات -خاصة العلمية- حتى ينطلقوا في عالم الابتكار وتقديم الخدمات وتأسيس شركات جديدة، مما يعني المساهمة في خلق فرص عمل، وزيادة التصدير، وكل ذلك يصب في تحصيل الدولة لأموال أكثر من عائدات ضرائب هذه الشركات. هذا ما فعلته اليابان بعد الدمار الذي حل بها بعد الحرب العالمية الثانية، فكان خريجو البعثات من المساهمين الرئيسيين في تأسيس شركات جديدة في مختلف القطاعات الصناعية.

أما عندنا، فغاية التعليم العالي غالبا هو الوصول لوظيفة حكومية تنظيمية أو اشرافية. نعم هناك مهن مهمة تحتاجها الدولة لتقديم الخدمات مثل الطب والتعليم، لكن قلما نجد شبابا يتخرج من الجامعة ليؤسس شركة تصنع منتجا جديدا، أو تقدم خدمة جديدة، ليخلق بذلك فرصا وظيفية لمواطنين آخرين، وذلك بالرغم من الملايين التي تصرف على التعليم العالي سنويا سواء على الجامعة والمعاهد التطبيقية أو على البعثات الخارجية. بل نجد حتى خريجي المهن الفنية والتطبيقية مثل ميكانيكا السيارات والديكور والنجارة وغيرها يلجؤون للعمل الحكومي بدلا من التوجه نحو العمل الحر والخاص، مما يعني أن غالبية الأموال التي تصرفها الدولة تذهب سداً لأنها تساهم في زيادة كاهل الدولة في الصرف على القطاع العام والتوظيف بدلا من أن يساهم هؤلاء الخريجين في تقليلها.

لذلك، فإن الدعوات للتوسع بالتعليم الجامعي وإنشاء المزيد من الجامعات الحكومية هي دعوات في الاتجاه الخاطئ تماما لأنه لا توجد فرص وظيفية أصلا تنتظر كثيرا من خريجي أغلب التخصصات، خاصة مع الأزمة المالية التي تعيشها الدولة في ظل قطاع عام يعاني أساسا من التضخم الوظيفي والبطالة المقنعة، ولأن العالم ككل يتجه لمستقبل تقل فيه أهمية الشهادة الجامعية وتزيد فيه أهمية المهارات المكتسبة، فهناك العديد من الشركات لم تعد تسأل عن شهادة المتقدم للوظيفية بل عن مهاراته المكتسبة ذاتيا أو من خلال تجاربه الوظيفية السابقة. وتفوق المانيا الاقتصادي في أوروبا مثلا لا يرجع لكونها تضخ ملايين من خريجي الجامعات سنويا بل لأن لديها نظاما متطورا للتدريب على المهن الحرفية والصناعية.

ولذلك، فليس من المستغرب أن تسير جامعة الكويت أيضا في الاتجاه الخاطئ لأنها خاضعة للسيطرة الحكومية، مثلما بينا أن سيطرة الحكومة على التعليم العام سبب رئيسي في تأخره. فلا زالت الجامعة تضخ سنويا خريجين بتخصصات لا يحتاجها سوق العمل وأبرزها خريجي كلية الشريعة. فإذا رجعنا لإحدى الإحصائيات السابقة سنجد أن نسبة خريجي كلية الشريعة تفوق 600% من حاجة سوق العمل، بينما نسبة خريجي الطب وطب الأسنان والطب المساعد والعلوم من حاجة سوق العمل بلغت على التوالي 46% و27% و25% و14% فقط، أي أن هناك فائض كبير في تخصصات معينة ونقص كبير يقابله في تخصصات أخرى كلها علمية.

فسياسة القبول هذه وسوء توجيه خريجي الثانوية للتخصصات كلها ترجع للتدخل السياسي في قرارات من المفترض أن تبنى على واقع سوق العمل فقط، خاصة مع خضوع الحكومات المتعاقبة لبعض التيارات الدينية وتمكينها من التغلغل في الدولة عندما أرادت السلطة ضرب التيارات الوطنية والليبرالية المعارضة. وعندما سئل مسؤولو الجامعة في إحدى اجتماعات لجنة الميزانيات بمجلس الأمة عن سبب هذا الضخ الكبير في أعداد خريجي كلية الشريعة، كانت الإجابة الصادمة بأنه (ماذا نفعل بالهيئة التدريسية بالكلية؟!) لكن لم ينتبه هؤلاء المسؤولون إلى أن الصرف على هيئة تدريسية بدون طلبة أهون كثيرا من تحمل الحكومة أعباء توظيف هذا الكم الهائل من خريجي تخصصات لا تحتاجها الدولة. فيجب ان نتقبل أن العالم يتغير بسرعة، ومع هذا التغير هناك وظائف ستعدم، ولا جدوى من حمايتها لأنه ستخلق وظائف أخرى بدلا منها، خاصة وأن أزمة الكورونا قد بينت بشكل واضح بأننا بحاجة لتوجيه المزيد من المواطنين نحو دراسة الطب والتمريض والتخصصات الطبية المساندة لإحلال المزيد من المواطنين مكان الوافدين.

ناهيك طبعا عن تحول الجامعة إلى ساحة أخرى من ساحات الصراع السياسي الطائفي القبلي بين مكونات المجتمع، وأدى هذا الصراع إلى ظلم كثير من الكفاءات. هذا إضافة إلى غياب مبدأ الثواب والعقاب للهيئة التدريسية، فهناك دكاترة يكاد انتاجهم البحثي أن يكون معدوما ومع ذلك يتلقون راتبا يعادل راتب من يساويه في الدرجة وله نشاط بحثي مميز. فلو كان هذا الدكتور المهمل يعمل في جامعة مرموقة في الدول المتقدمة لتم فصله من عمله، لكن لأن جامعة الكويت تخضع للقرار للحكومي فلا يمكن الاستغناء عن هذا الدكتور فقط لأنه كويتي!

فإذا أردنا النهوض بمستوى جامعة الكويت، وكذلك الهيئة العامة للتعليم التطبيقي، فيجب إعطائهما استقلالية كاملة وإلغاء تبعيتها للحكومة، ومن الممكن تحقيق ذلك بعدة طرق منها تسليمهما لجهات أكاديمية مرموقة للإشراف عليهما مع إعطائهم الصلاحية الكاملة في التحكم بأعداد الطلبة المقبولين سنويا وبالتعيينات وإلغاء أو إضافة كليات وتخصصات جديدة حسب حاجة سوق العمل المحلي والاتجاه العالمي في الأبحاث مثل تخصص الذكاء الصناعي. وتتكفل الحكومة بتمويل هذه الكيانات الجديدة، ولكن بشروط معينة مثل وضع أهداف لزيادة الإنتاج البحثي السنوي حتى يرفع من تصنيفها الدولي، مما سيعود بالنفع على مستواها وبالتالي على مستوى خريجيها. فتخيلوا التطوير الذي سيطرأ على الجامعة لو سلمنا إدارتها لجامعة عالمية معروفة، ولو سلمنا إدارة التطبيقي للألمان المعروفين ببرنامجهم المتطور في تخريج الحرفيين؟

أما عن سياسة البعثات فإنها تحتاج لتغيير جذري لأنها تشجع على اكتساب الشهادة فقط دون التركيز على العلم. فعدد البعثات السنوية لخريجي الثانوية العامة زاد لأكثر من عشرة أضعاف منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة مع تقليل نسب القبول المطلوبة. وباستثناء طلبة التخصصات الطبية، فإن أغلب طلبة التخصصات الأخرى يبحثون عن جامعات سهلة للتخرج منها وبمعدلات عادية لأجل العودة والعمل بوظيفة إشرافية حكومية، مما يعني هدرا للأموال. فبدلا من ذلك، الأفضل هو اتباع سياسة بعثات الهيئة العامة للاستثمار في تخصص ماجستير إدارة الأعمال، والتي لا تشترط فيها أي معدل بل فقط قبول من أفضل 25 جامعة في العالم بهذا التخصص حسب عدة تصنيفات دولية. فإذا قامت وزارة التعليم العالي باعتماد سياسة مشابهة لسياسة الهيئة، كأن يشترط على خريج الثانوية أو موظف الدولة الحاصل على تفرغ دراسي الإتيان بقبول من أفضل 100 جامعة في العالم بتخصص ما، فهذا سيضمن ابتعاث المميزين فعلا والجادين بنفس الوقت، وبالتالي توفر الدولة كثيرا من الأموال المهدرة وبالمقابل ترفع من المستوى العلمي لخريجيها. وهذا يعني طبعا إلغاء أو تقليص شديد بالبعثات المحلية لجامعات هي في الواقع ثانويات متقدمة تقتات على الدعم الحكومي وأغلبها ليست بجامعات حقيقية، ويكفي أن نطلع على الإنتاج البحثي لهذه (الجامعات) -والذي لا يتعدى بأحسن الأحوال خمسين بحثا سنويا- وترتيبها العالمي لنتأكد من هذه الحقيقة المرة بالرغم من الدعايات الفارغة لإنجازاتها الوهمية. فإذا كانت هذه الجامعات الخاصة فعلا متميزة كما تقول، فلنرفع عنها الدعم الحكومي بالبعثات الداخلية لنرى كيف ستتمكن من استقطاب الطلبة؟!

تصفير المشاكل المزمنة

مما سبق، يتبين لنا أننا بحاجة لعمل الكثير من أجل الإصلاح الجذري في الدولة للحفاظ على استدامتها، ولكي نقوم بذلك بتركيز تام، يجب على الدولة حل المشاكل المزمنة التي طال التسويف والمماطلة في حلها، وأبرزها مشكلة البدون. فقد آن الأوان لتتحمل السلطة مسؤولية التسويف في حل هذه المعضلة المزمنة والذي أدى إلى تضخمها بشكل كبير. وقد أثبتت الأيام أن سياسة التضييق والحرمان لن تجدي نفعا في تحقيق النتيجة التي تتمناها السلطة، بل زادت من المآسي هذه الفئة، خاصة وأن هناك أجيال ولدت على هذه الأرض عبر العقود الماضية ولا يعرفون وطنا سواه. لقد بادرت جمعية المحامين بوضع جذري ونهائي لهذه الفئة المظلومة، وأيا كان الحل النهائي الذي يتم التوصل إليه، فإنه يجب أن يراعي الجانب الإنساني في المسألة، فالحرمان بحد ذاته صعب، لكنه أصعب بكثير في بلد الخير الذي تصل أياديه المعطاءة إلى الشرق والغرب، بينما يستمر في نسيان مأساة مستمرة على أرضه.

ولنكن صريحين، فالدولة الريعية هي السبب الرئيسي في منع حل هذه القضية المزمنة حلا إنسانيا عادلا لأن السلطة وقلة من الشعب ترى في ذلك مشاركة إضافية لآلاف في ثروة البلد التي يبدو أنها تشارف على النفاذ، وكاهلا إضافيا في التوظيف والرعاية على سلطة غارقة أصلا في المشاكل وحائرة في إيجاد فرص عمل حالية ومستقبلية لمواطنيها. ولذلك، فإن الإصلاح الجذري الذي ننادي به سيكون عاملا مساعدا في حل هذه القضية لأن جرعة الدولة الريعية ستقل كثيرا، وسيكون المواطن مطالب بشغل وظائف انتاجية تكون إضافة للاقتصاد لا عالة عليه. ومن هنا، فإن لم تكن السلطة تريد النظر للمسألة من الجانب الإنساني، فلتراه من جانب اقتصادي، فهذه الثروة البشرية المحرومة يمكنها سد كثير من الوظائف التي يشغلها الوافدون، وهذا سيعود بالنفع على البلد لأنهم سيصرفون أموالهم داخلها، لا تحويلها للخارج. فيجب على السلطة أن تدرك هذا الواقع سريعا -خاصة في عصر ما بعد الكورونا- وتنصف هذه الفئة وتستثمر فيها قبل أن يأتي يوم قد تنعكس فيه الآية!

إنني أزعم أن الأغلبية الساحقة من إخواننا البدون -إن لم يكن كلهم- يدينون بالولاء لهذه الأرض، خاصة الأجيال الجديدة التي عاشت كل حياتي عليها ولا تعرف وطنا غيره، وما التضحيات التي قدموها أثناء محنتي الغزو في الماضي وكورونا الآن إلا دليل على ذلك، لكن ما ينقصهم هو الاعتراف الرسمي من الدولة لهذا الولاء بدلا من نظرة الريبة والحقد التي تنظرها السلطة تجاههم. إن هذا الاعتراف بحد ذاته كفيل بتحسين معيشتهم من الناحية النفسية، وإذا أضفنا إلى ذلك انتشالهم من الفقر المدقع الذي يعيشه أغلبيتهم، فإن ذلك سيساهم في تخيف الطبقية في المجتمع ككل ويحقق المزيد من العدالة والمساواة، والذي بدوره سيؤدي إلى تحسن كثير من الأمور في البلد كما بينا بالسابق عندما تطرقنا إلى الدراسة البريطانية التي وجدت علاقة مباشرة بين تحقيق عدالة أكثر مع تحسن الدولة في عدة مجالات.

كما يجب أيضا تغيير نظام الكفيل سيء الذكر الذي رأينا نتائجه الكارثية على البلد في أزمة الكورونا، حيث قام تجار الإقامات بإلقاء عبئ كبير على القوى الأمنية والصحية للتكفل بعشرات الآلاف من العمالة السائبة وما يصاحبها من مأساة إنسانية ومعيشية. فيجب الانتقال إلى نظام يلغي عبودية الوافد للكفيل، ويضمن حدا أدنى للأجور، ويكفل حق السكن بخصوصية، لا كما هو حاصل حاليا من تكديس العمالة في غرف دون أي خصوصية. ويجب أيضا أن يعطى من ولد على هذه الأرض -وعاش فيها عددا معين من السنوات- إقامة دائمة، لأنه استثمر حياته فيها وبات بصورة ما جزء منها، فهناك أناس ولدوا وعاشوا هنا لعشرات السنين، فليس من المعقول أن يظلوا تحت كفالة أحد إلى الآن، وليس من المعقول أن يطلب منهم المغادرة الآن بكل بساطة. لقد طال الحديث عن مساوئ النظام الحالي للكفالة، وآن الأوان لمعالجته جذريا دون مواربة.

وهناك أيضا قضية المرأة الكويتية والمشاكل التي تعانيها -خاصة المتزوجة من غير كويتي- والتي يجب ألا تشعر بأنها غريبة في وطنها. فيجب وضع قوانين تسهل عليها الحصول على سكن مدعوم من الدولة، ومنح زوجها وأبنائها إقامة دائمة دون كفالة، وحتى حق إعطاء جنسيتها لأبنائها بعد مدة معينة، وهذا حق موجود في جميع الدول المتقدمة. كل ذلك سيزيد من استقرار العديد من الأسر وتخفيف معاناتها، وبالتالي ينعكس على استقرار المجتمع ليجعله يتفرغ ويركز على العمل وتحسين الاقتصاد.

من أين نبدأ؟

لقد اجتهدت من كل ما سبق بمحاولة تحليل جذور الانحدار في الدولة وكيفية معالجته جذريا بعملية جراحية حتما ستكون مؤلمة، لكنها ضرورية من أجل استدامة الدولة. لا أدعي بأني أملك الحقيقة كاملة، ولكنها محاولة لفتح باب النقاش لملفات غائبة عن النقاش العام لعقود طويلة، لكنها باتت مستحقة اليوم أكثر من أي وقت مضى لأن مستوى المعيشة التي تعود عليها الناس مهددة. لكن السؤال الملح هو: من أين يبدأ الإصلاح؟ هل من الشعب، الذي يجب أن ينتخب نوابا إصلاحيين فعلا وليس شكلا بدلا من الانتخاب على أساس العرق والطائفة والقبيلة لمراعاة المصالح الفئوية والمعاملات؟ أم من الحكومة، أو بالأحرى السلطة؟

قد يكون هذا السؤال شبيه بسؤال من جاء أولا: البيضة أم الدجاجة؟ لكن أعتقد بأن التغيير يجب أن يأتي من فوق، أي من الحكومة، لأن الحكومات المتعاقبة منذ عقود هي من اتبعت سياسة فرق تسد وتخدير الشعب بإبر النفط حتى وصلنا إلى وضعنا الحالي من تشرذم وتفكك وبطالة مقنعة واتكالية على الوافدين. فمكونات الشعب غير قادرة حاليا على التحرر فجأة من عصبياتها التي غذتها الحكومات على مدى العقود الماضية، فهي بحاجة لتغيير واصلاح من أعلى لتقودها إلى نمط جديد من التفكير والانتخاب. هذا بالطبع لا يعفي الشعب من مسؤوليته لأنه سيكون المتضرر الأول من أي انهيار اقتصادي بسبب استمرار الأوضاع الحالية للدولة، وبالنهاية (كما تكونوا يولى عليكم)، لكن تبقى المسؤولية الرئيسة بيد السلطة للإصلاح. ولذلك أوجه في خاتمة هذه الحلقات رسالة إلى سمو رئيس مجلس الوزراء.

رسالة أخيرة لسمو رئيس مجلس الوزراء

سمو الرئيس،،،

ندرك بأن الحمل ثقيل، فقد تسلمت زمام الأمور في أصعب الأوقات، مع أزمة الكورونا والعجوزات المتراكمة في الميزانية، والتحديات القادمة كبيرة جدا وغير مسبوقة في تاريخ الكويت من الناحية المالية. لكن مثلما صارح رئيس وزراء سنغافورة شعبه بأن هناك وظائف ستعدم وستخلق بدلا منها وظائف وفرص جديدة، فإن سموكم بحاجة لمصارحة الشعب بأن القطاع العام المتضخم لم يعد قابلا للاستمرار، وأن القادم لن يكون فقط تقليل أعداد الوافدين العاملين في الحكومة، بل أيضا تقليل أعداد المواطنين العاملين فيها.

سمو الرئيس،،،

لم يعد بالإمكان استمرار الدولة في السيطرة على الخدمات والتحكم بكل مفاصل الاقتصاد، فيجب التوسع بسياسة الخصخصة، ولكن بطريقة ذكية تضمن أسهما دائمة للمواطنين في القطاعات التي سيتم تخصيصها، إضافة إلى خلق مجالات عمل واسعة للشباب الكويتي في العمل الحر والقطاع الخاص، مع ضمان حقوقه الوظيفية وخلق فرص أكثر للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بحيث تكون هي المسيطرة على سوق العمل بدلا من الشركات الكبرى، وبما يساهم في تعديل التركيبة السكانية وتقليل الاعتماد على الوافدين في تقديم الخدمات المختلفة.

سمو الرئيس،،،

إن المضي بهذه الإصلاحات الجذرية تتطلب تشكيلة جديدة من الوزراء لأن التشكيلة الحالية غير مؤهلة لقيادة التغيير القادم، فسموكم بحاجة لوزراء دولة أكفاء لا موظفين كبار، وزراء دولة يشاركونك في صنع القرار ويجرؤون على مناقشتك والاختلاف معك في القضايا. وهذا لن يتأتى إلا بعد أن تقوم بالتشاور مع المخلصين في البلد لوضع سياسة عامة لأهدافك والإصلاحات التي تنوي تطبيقها، وتعرضها على طاقمك الوزاري القادم حتى يشاركوا معك كفريق واحد في بحث أفضل السبل لتطبيقها، لا كما يحصل حاليا من غناء كل وزير على ليلاه. وهذا يتطلب أيضا تغيير شامل في قياديي الوزارات والمؤسسات الحكومية، لأنه يستحيل الإصلاح مع وجود كثير من القياديين عديمي الكفاءة، من الذين وصلوا إلى مناصبهم بطريقة المجاملة والترضيات وكسب الولاءات.

سمو الرئيس،،،

ندرك أن التحديات القادمة صعبة جدا، وأنك بحاجة إلى إقناع الناس بأهمية هذه الإصلاحات المطلوب تطبيقها، لكن الشعب بطبيعة الحال لن يقتنع بذلك بسهولة، إلا إذا بدأت بالكبار قبل المواطن العادي. فابدأ بمعالجة ملفات الفساد الكبيرة مثل الرشاوى وتجار الإقامات والتوزيعات الفاسدة للحيازات الزراعية، واحتلال الشاليهات للساحل الجنوبي وغيرها من الملفات حتى تكسب ثقة الشعب. عندئذ ستجد المواطن يتقبل الإصلاحات الأخرى المطلوبة لأنه سيجد جدية في الحكم والإصلاح. ابدأ في الكبار يا سمو الرئيس حتى يثق فيك المواطن العادي.

سمو الرئيس،،،

لقد شدد سمو أمير البلاد حفظه الله في أكثر من خطاب على استخلاص المواعظ والعبر من هذه الجانحة وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية على الاقتصاد والصحة ومختلف نواحي الحياة، وأكد سموه على أهمية التعاضد بين المجلس والحكومة لاعتماد نهج جديد لكويت المستقبل. والأمل معقود عليك يا سمو الرئيس لقيادة هذا التغيير، فالعهد الجديد لا يحتمل المجاملات والترضيات لأن استدامة البلد واستقراره والحفاظ على مستوى المعيشة فيه على المحك أكثر من أي وقت مضى. الإصلاح الجذري وما يصاحبه من قرارات صعبة لم يعد ترفاً أو خيارا بل بات ضرورة قصوى، وإلا فقد ينتظرنا النموذج الفنزويلي عما قريب.

*حسن مصطفى الموسوي بكالوريوس هندسة ميكانيكية – معهد فلوريدا التكنولوجي (FIT)

ماجستير إدارة أعمال (MBA) من كلية روتردام لإدارة الأعمال (RSM) بجامعة إراسماس (Erasmus)

back to top