المسؤولية أو الخراب

نشر في 30-07-2020
آخر تحديث 30-07-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت بعد مرور أشهر عديدة لا يزال الاقتصاد العالمي يترنح تحت وطأة صدمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019، فلم يحدث من قَـبل قَـط في وقت الـسِّلم أن شهد مجتمعنا الحديث أي شيء من هذا القبيل.

تُـرى هل تندلع "موجة ثانية" تعقبها موجات أخرى؟ يشغل هذا السؤال المخيف بال الناس في مختلف أنحاء العالم الآن، لكنه يقض بشكل خاص مضاجع صناع السياسات والقادة الوطنيين، ولا أحد يعرف الإجابة، فلا يوجد كتاب تشغيل لسيناريو تتسبب جرثومة مجهرية في تركيع اقتصاد عالمي فائق التكنولوجيا مترابط من خلال سلاسل الإمداد العالمية.

من الخطأ أن نكتفي بتقييم معنى هذا التوقف المفاجئ من منظور قصير الأمد، ومن المؤكد أن الأولوية الفورية تتمثل في مكافحة جائحة "كوفيد-19"، فقد خلفت عواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة على مليارات البشر، ويبدو أنها تعمل على التعجيل بتحول عالمي في موازين القوى السياسية والاقتصادية.

ولكن سيكون للأزمة أيضا عواقب تستمر سنوات قادمة، فليس من المعقول ألا نتوقع أن يتذكر المؤرخون في المستقبل عام 2020 كبداية عصر من التغيير التحويلي، وقد تكون هذه هي اللحظة عندما نلتزم أخيرا، بعد أن أدركنا العواقب المترتبة على الكيفية التي نظمنا بها أنظمتنا الاقتصادية وتفاعلنا مع الطبيعة، بالتحول الحاسم نحو الاستدامة، وإذا فشلنا في إجراء التغييرات الضرورية، فستمثل جائحة 2020 بداية كارثة بشرية غير مسبوقة.

هناك أمر واحد مؤكد بالفعل: ينبغي للأزمة أن تحررنا من وهم ثقتنا الساذجة بالتقدم البشري، فقد كنا لفترة طويلة نفترض ببساطة أن العواقب السلبية غير المقصودة المترتبة على النمو الاقتصادي المستمر ستعوض عنها أو تحد منها ثمار النمو، وعلى الرغم من الحقائق الواضحة وتحذيرات العلماء، أقنعنا أنفسنا بأننا أصبحنا في النهاية نسيطر على الطبيعة، وعلى الرغم من كل أوهامنا حول استعمار الفضاء، فإن الحقيقة هي أن قوتنا تمتد إلى نقطة بعينها فقط يجري تحديدها عادة بأفق المصالح البشرية، وبعدها يكمن كل شيء ما زلنا لا نعرف عنه شيئا.

الدرس المباشر المستفاد من أزمة "كوفيد-19" هو أن الحضارة الإنسانية تحتاج بشكل عاجل إلى حس أعمق بالمسؤولية، ولابد أن معظمنا توصل الآن إلى هذا الإدراك بشكل شخصي، والسؤال الآن هو ما إذا كنا سنعمل على تحقيق ذلك بشكل جماعي من خلال إطلاق التغييرات التي نحتاج إليها.

يسكن كوكب الأرض نحو 7.7 مليارات إنسان، ومن المتوقع أن ينمو هذا الرقم إلى 9.7 مليارات نسمة بحلول عام 2050، وسيستمر طلبنا النهم على الموارد المادية في النمو، مما يعني أن استغلالنا للكوكب سيستمر في تجاوز قدرة الأنظمة الطبيعية على تجديد ذاتها، وقد أطلق هذا الواقع الحقبة الجيولوجية التي تسمى الأنثروبوسين: ففي السراء والضراء، وصل الجنس البشري إلى النقطة التي ستحدد فيها أفعالنا مستقبل كل الأنواع الأخرى تقريبا على هذا الكوكب.

تستتبع مثل هذه القوة الهائلة مسؤولية هائلة، فحتى بداية الثورة الصناعية كان للنشاط البشري تأثير نسبي ضئيل على الكوكب ذاته، والآن بات هذا التأثير غير متناسب على الإطلاق وشاملا لكل شيء، فالنمو السكاني والاستهلاك الجماعي كانا سببا في إحداث انخفاض كبير في الموارد الطبيعية التي كانت تبدو ذات يوم وكأنها لا تنضب، وقد تسببت الانبعاثات الناجمة عن كل هذا الإنتاج في ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي بسرعة مذهلة.

الآن، نستطيع إما أن نتحمل المسؤولية ونستجمع الشجاعة والرؤية لتنفيذ تحول عظيم، أو ننتظر وأعيننا مفتوحة فرسان رؤيا الهلاك الأربعة، ومع ظهور الفارس الأول بالفعل في هيئة "كوفيد-19"،

وفي مواجهة هذا الاختيار، هناك العديد من التساؤلات التي يمكن طرحها، لأي غرض ينبغي لنا أن ننشر الذكاء الاصطناعي والحواسيب الكمية، ولكن ما نحتاج إليه حقا هو تحليل أفضل للأنظمة لتحسين الصحة العامة والحفاظ على البيئة وصيانة مناخ صالح لسكنى البشر.

في المستقبل، لن يكون إطعام البشر ممكنا بدون حماية الحياة النباتية على مستوى العالم، ونظرا للانقراض الجماعي غير المسبوق للأنواع النباتية والحيوانية، لا يجوز لنا أن نستسلم لأي أوهام حول قدرتنا على إنجاز هذه المهمة الأساسية، ففي حين تَـعَـلَّـم أغلب الناس من الجائحة الإنصات إلى النصائح العلمية في سياقات معينة، ربما نظل في حالة إنكار عندما يتعلق الأمر حتى بتطورات أشد خطورة مثل تغير المناخ.

من المحتم أن تكون قيادة هذا التحول العظيم مهمة الاقتصادات الأكثر تقدما على مستوى العالم، لأنها تملك الدراية الفنية والموارد المالية اللازمة، ويتعين على الديمقراطيات الغربية بشكل خاص أن تتعامل بجدية مع فكرة الحرية التي تزعم أنها تمثلها.

هناك ارتباط وثيق بين الحرية والمسؤولية: فأولئك الذين يرغبون في الحرية يتنصلون من مسؤولياتهم بما يعرضهم شخصيا لمخاطر كبرى، وقد أوضحت أزمة "كوفيد-19" هذه الحقيقة بشدة: فمن أجل تجنب عمليات الإغلاق وغير ذلك من القيود، ربما يتعين على المرء أن يلتزم بها أولا.

تنطوي هذه الأزمة على نتاج ثانوي آخر لا يمكن تجاهله، ففي الوقت الحالي تتحرك الولايات المتحدة والصين نحو مواجهة حول القيادة العالمية، ولكن كيف قد يبدو عالَـم الغد؟ هل يجري تعريف القوة من خلال التفوق العسكري في المقام الأول، كما كانت الحال في الماضي؟ أم هل ترتبط القوة بمصادر جديدة تماما ومختلفة جوهريا؟ وهل يظل الفهم التقليدي للقوة هو ما يجمع أجزاء العالم معا؟

لقد عُـرِضَ على أوروبا فرصة غير متوقعة، شريطة امتناعها عن المراهنة على منافسة القوى العظمى، وبدلا من ذلك، يتعين عليها أن تستجمع الشجاعة لتضرب مثال المسؤولية الجماعية التي تحتاج إليها البشرية.

* يوشكا فيشر

* وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها الأسبق من 1998 إلى 2005، وأحد زعماء حزب الـخُـضر الألماني لما يقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top