خارج السرب: يا عزيزي كلنا غسالون!

نشر في 29-07-2020
آخر تحديث 29-07-2020 | 00:10
كل الدلائل ضدك يا مجتمعنا العزيز، بصماتك على مسرح الجريمة، وأنت الذي «كبرت رأس» الإمعات والرويبضات كما يقال بالعامية، وأجلستهم على عرش مواقع التواصل وسلمتهم صولجان التأثير، متابعتك كانت سيفهم، ورتويتك كان رمحهم، واهتمامك كان درعهم والسرج الذي امتطوه.
 فالح بن حجري أيام الطفولة كنا نشاهد إعلاناً يدور حول جودة أحد المنظفات وقدرته على إزالة أقوى الأوساخ، وينتهي هذا الإعلان بعبارة مع (...) مفيش مستحيل، ودارت الأيام وتبين لنا أن مع الغسيل فعلا مفيش مستحيل، ولا أقصد غسيل الملابس طبعا، ولكني أتحدث عن آخر يدعى غسل الأموال التي تشتري لك الملابس والأحذية واللؤلؤ والمرجان والزمرد والياقوت.

وأحمدك يا رب، فمع غسل الأموال، وهذا واقع شهدناه، مفيش مستحيل، ومع أول غسلة سخافة التفاهة والإمعية والرويبضية ستختفي بلحظة وتُمحى، ويحل مكانها بريق شهرة لامع يخطف الأبصار، ويصبح الإمعة نجم الحفل وسيد المنابر وحامل راية قضايا المجتمع، وتمسي النكتة السخيفة حكمة عميقة تنافس نادي سقراط في نصف نهائي بطولة المنطق العالمية، وبقدرة قادر يتحول هراء السطحية إلى هواء منعش، ويتحول سوء الأخلاق إلى سوق رابح يشير له الدينار ببنانه صائحا، كما يفعل المراهقون عند مشاهدتهم نجوم هوليوود، ويحلم به الدرهم كل ليلة وابتسامة بريئة ترتسم على محياه!

وما بين ذلك الغسيل الكيميائي القديم في طفولتنا، وهذا الغسيل الاقتصادي الحديث، تم أيضا وبشكل خدمات مجانية غسل نصائح أسرنا، وتعاليم معلمينا في المدارس، وشيوخنا في المساجد، ولم يعد حمد مع قلمه بل انشغل برتويتته ولايكه لكل مقاطع السخافة، ولم يعد حسن يزرع بصلا بل يزرع أفيونا ويروجه بشكل مقاطع، ليخدر بها قروباته كل يوم وليلة، ولم نعد نعرف الحلال البيّن والحرام البيّن، وسقطنا في دردور المتشابهات القيمية في محيط "تويتر" وخليج "الواتساب" وبحيرات "الإنستغرام" ونقعة "السناب"، ولم تعد فكرة العصامي مقبولة في عرف الواقع بعد أن ألغتها فكرة السنابي والتويتري.

وأخيرا لم يعد لائقا تقمص المجتمع دور البراءة بعد أن انكشف المستور، وتبين أن المجتمع- إلا من رحم الله- هو أكبر داعم لظواهر كهذه، وأتذكر هنا قول الإمام ابن حنبل: "لولاك ما ظلموا"، الذي وجهه إلى الشرطي الذي اعتذر له وهو في سجنه بحجة أنه مضطر، لا لن تفلت هذه المرة يا مجتمعنا العزيز، فكل الدلائل ضدك، وبصماتك على مسرح الجريمة، فأنت الذي "كبرت رأس" الإمعات والرويبضات كما يقال بالعامية، وأجلستهم على عرش مواقع التواصل وسلمتهم صولجان التأثير، متابعتك كانت سيفهم، ورتويتك كان رمحهم، واهتمامك كان درعهم، والسرج الذي امتطوه أثناء رحلة شهرتهم العابثة كان موضوعا على خيالك أنت، وخيالك الذي لا يشق له استعبار أو أسى، ومع الأسف الشديد لم يكن "كحيلانا" بل كان من ماركة "هنبقة*".

هكذا حصل الأمر ولا مجال للإنكار كما أنكرت قبل ذلك في قصة صناديق الانتخابات وغيرها، فاعترف بحقيقة أن وراء كل إمعة عظيم يقف هنبقة أعظم، نعم لولاك يا مدعي البراءة الساخط على النتائج ما خدعونا، وكلنا غاسل حتى ينظف ثوب عقله من ذنوب التفاهات، ومع غسيل العقول مفيش مستحيل.

*هنبقة: من الشخصيات التاريخية في التراث العربي التي يضرب بها المثل في الحماقة.

back to top