سلاماً طائرنا الهيمان

نشر في 28-07-2020
آخر تحديث 28-07-2020 | 00:10
 عثمان أحمد كيف ترثي سلمان زيمان؟ هكذا وجهت زوجتي سؤالها لي وهي تغط في حزنها ونحن نتباطأ في خطواتنا في الممشى، وحاولت أن أداري ذلك بالصمت والاكتفاء بذكراه العطرة الطيبة، فهناك العشرات وربما المئات ممن سيرثي صاحب القلب الكبير، لكن ذلك أصبح بعد دقائق أمراً غير محتمل، وظاهرة فرقة "أجراس" نمط غنائي مميز في ظل الظروف الاجتماعية وتغول الريع النفطي في الخليج، ولابد للكلمات من أن تأخذ مسارها في مجرى الرثاء.

***

ليس أمراً هيناً التفكير في الحزن الشخصي لفقدان رفيق وصديق دخل القلب قبل اللقاء مع صدور شريط "الحب أسرار" أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ولكن من بالغ الصعوبة تحديد مدى قيمة فقدان المجتمع لفنان مميز شكل بحد ذاته ظاهرة مميزة وسط كمّ من موجات المسخ والتغريب في الفن.

انحدر سلمان من صفوف الطبقة العاملة والكادحة في البحرين، وعلم وتعلّم منها، وهو من عشاق العمل اليدوي، ولا غرابة هنا أنه تعلم الموسيقى بجهود ذاتية ورفاقية، واختار طريقه منذ صغر شبابه في التعبير عن هموم هذه الطبقة وطموحاتها، ليس المحلية فقط إنما القومية أيضا، ولذلك ظلت القضية الفلسطينية جزءا متداخلا في كيانه، وعندما رفع علم فلسطين فوق منزله في ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الثانية رفض إنزاله.

من المؤكد أنه واجه متاعب ومعاناة أقسى وأشد مما نعرفه، فهو لا يشكو الأحوال إنما يقاومها بهدوء، إنسان متواضع ويعشق التواضع لدرجة لا يمكن أن تعرف فيها حدودا للصداقة معه إلا الحدود التي تضعها أنت، وهذه خصلة يتميز بها المنحدرون من صفوف الكادحين والعمال والذين يرون في كل من يحبونهم أنهم ليسوا أقل من إنسان، فهم رفاق في العمل والحياة والنضال.

كما لا يمكن فهم ارتباط سلمان زيمان العميق من الناحية العاطفية والفكرية بالفكر التقدمي إلا من خلال جذوره العمالية وارتباطه الوجداني بقضايا المهمشين والمحرومين، وهذا هو سبب اهتمامه بالقضية الفلسطينية وشعبها، علاوة على أنها قضيته القومية، وكان ذلك بمثابة بوصلة له طوال مساره الفني الهادف، وأزعم أنها صقلت قدراته الحسية في تحويل النص الشعري العربي إلى أغنية جماهيرية.

***

اهتمامه الفني أولا بالمضمون (ماذا يقول ولمن يتوجه) وثانيا بالشكل وكيف يقوله محليا (وبأي لون)، فحاول أن يمزج كل ذلك بألحانه التي بدأت باللون العدني وتجددت ولم تتوقف عند المحلية، وبصوته المميز بروحه الجميلة الحلوة، ولم يغفل مبكرا أهمية العمل الجماعي في الفن كما في السياسة، ومن هنا ساهم بقوة في تأسيس فرقة "أجراس" وظل متمسكا بها ومثابرا على استمراريتها لعقود، وهنا يكمن الإبداع، فقد عمل شيئا مميزا في بلاده جعل التقدميين في الخليج يفتخرون به وبأعمال الفرقة التي نجحت خليجيا وامتد نجاحها عربيا. ورغم عنف التحولات السياسية والبنيوية لم تتشوه ذاكرته الوطنية، وبقي إنسانا يأبى أن يجرفه تيار فائض الريع، وظل يتواصل ويحاول ويقاوم التيار الرجعي الجارف وأنتج فنا مغايرا، واستطاع بجدارة التغلب على مشاكل اللغة العربية الفصحى باستخدام الإيقاعات الخليجية، وفي الوقت ذاته حافظ على أعماله القديمة واستمر في تأديتها في كل مناسبة متاحة، وفي زمن تخلى فيه الآخرون عن نصرة القضية القومية استمر هو فيها، وأحيانا اتخذها مدخلا للنضال المحلي. لم يكن الفن بالنسبة إليه سلعة أو مجالا للإثراء، بل على العكس من ذلك كان يؤكد على الملكية العامة للفن والإنتاج الثقافي، ولم يسمح لذات الفنان والمثقف المبدع أن تطغى على ذات الإنسان، ولطالما كان عاشقا لتراث الكادحين في بلاده قبل النفط ومتلهفا للبحث في كل ما هو حي في تناقضات القديم المتجدد.

واستمر "الطائر الهيمان" يناضل ويبحث عن الأشكال المناسبة فنيا دونما تنازلات مبدئية، فلم ينجرف في تيار الفن الهابط الخاضع للثقافة السائدة، رغم التراجعات وشراسة الأزمات.

***

لا يمكن تجاهل المعاني المقصودة في العديد من أعمال سلمان التي اعتمدت على أشعار ثورية لمبدعين تقدميين عرب مثل توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، ولا في إسقاطاتها السياسية والاجتماعية محليا، وهو ليس خروجا من الخاص الى العام بقدر ما هو إبداع فني لأعمال ذات مضمون سياسي-اجتماعي تترك للمتلقي فهمها بوعي تناقضاتها وتأريخيتها، ومن المؤكد أن رسائله العامة واضحة، وهي تنطلق من لغة معاناة الفرد إلى المعاناة العامة والغناء للوطن والأمة مع استثناء الفرد الحاكم ومرادفات الطبقة المهيمنة.

كثيرون يذكرون سلمان في (يا بُو الفَعَايِلْ يَا وَلَدْ) ويعشقونها لذكريات الحدث السياسي الجلل في ستينيات القرن الماضي، لكن هل خطر ببال أحد أن إصراره على غنائها في أكثر المناسبات ليس لشعبيتها فقط إنما للتذكير بأن النضال مستمر وسيشتعل وإن بدا خامدا للبعض.

حتى الرومانسيّة في قصائده التي لحنها وغناها لم تكن استهلاكية أو مبتذلة، فأغنيته القديمة الشهيرة "هيفاء" التي كتب كلماتها ولحنها وغناها كما عبرت عن الحب والشجن عبرت عن صرخة الألم والحلم، وبالتأكيد لا يمكن فهم أغنيته الحديثة نسبيا "هل كان حباً؟" بشكل مجرد، والتي لحنها وغناها واختارها من أشعار صلاح عبدالصبور.

الفن والغناء العاطفي عنده انحياز للحب الحقيقي الواقعي، واختيار دقيق للغة والصورة الشعرية المعبرة، كما لم يكن ذلك طاغيا يوما على حساب حب الوطن وقضايا الشعب وطموحاته القومية.

ليس في القلب طاقة تتحمل رثاء منصفا لسلمان، فكنا وما زلنا نتمتع بجميع ما قدمه من فن، وكم تمنيت أن أراه أمامي لأسأله: هل من فرصة لوداع؟ وأخاله يجيبني ويشدو للعالم بصوته الشجيّ:

وسألنا الطائر الهيمان

عن موعد رجوعه؟

فرأينا زورق الأحزان

يبحر في دموعه

وداعاً عشي الغالي

فإني عنك راحل

***

لقد أبدع خلال حياته ولم يتميز بالغناء فحسب، إنما في إنتاج ظاهرة فن الغناء والموسيقى التقدمية الجماهيرية في البحرين والخليج، وتعاون واستفاد من الموسيقي الراحل مجيد مرهون، وكان المؤسس والأب الروحي لعائلة فنية متكاملة، وأحبته الجماهير لصدقه الفني واحترامه لتراث شعبه والأمة.

ورغم الفاجعة والخسارة الوطنية لإنسان مميز وفنان نادر فإن روحه الخالدة ستدفع رفاقه ومحبيه دوما لاستكشاف ما فاتهم في صخب الحياة وتلاهيها، والبناء على ما أنجز.

عليهم إعادة اكتشاف الجمال والصدق في مضامين تراث فنه وتشابكه بعلاقاته الإنسانية، فحياته لم تكن عبثا، إنما حملت ما حملته من أعباء التراكمات والتحولات، ليس كفنان ملحن وكاتب وصاحب صوت شجيّ فقط، إنما كمناضل عمل وحاول وطمح مع الآخرين لمقاومة الفكر السائد، ودعا إلى التغيير ما أمكن له ذلك.

فسلاماً يا أبا سلام

سلاماً طائرنا الهيمان.

back to top