عطاؤك باقٍ يا د. شملان

نشر في 14-04-2020
آخر تحديث 14-04-2020 | 00:06
رحل عنا د. شملان العيسى، كما نشعر جميعاً، في زمن ثقيل ووقت عصيب، حاملاً معه قدراً كبيرا من الإحساس بخيبة الأمل بالكثير مما حوله، ولا نملك سوى أن نتمنى انفراجاً قادما وعالماً جديداً شجاعاً مشرقا بعد انحسار كارثة الوباء.
 خليل علي حيدر رحل الصديق شملان العيسى بعد معاناة طويلة امتدت سنوات مع المرض العضال، رحل وحيداً بلا مودعين ممن أحبوه وقدروا جهده الفكري وعطاءه التعليمي والإعلامي عبر هذه السنوات.

انتهت حياته بعد أن أطبق عليه الداء الوبيل، واختطفه في حصار الوباء وظلمة "كورونا" الممتد بلا نهاية أو أفق، والذي قيّد حركة الناس واجتماعهم، وأقفل حتى أبواب المقابر في وجه المشيعين والمودعين.

كان لحياة الصديق د. شملان أكثر من ميدان، وتحرك في العديد من المجالات والأزمنة، بدأ حياته الفكرية متحمساً للأفكار القومية والمثاليات الوحدوية، لكنه صدم كالكثيرين منا بلا شك بهزيمة 1967، ثم بكارثة غزو الكويت عام 1990، وقد غاص د. شملان منذ تلك السنة في قضايا تحرير وبناء الكويت، والنهوض بمجتمع ما بعد التحرير، وخصوصاً أن الكثير من مظاهر فساد ما قبل العدوان وفوضى المرحلة التي ظننا أنها اختفت، عادت إلى البلاد بشكل أقوى وأوسع، بعد أن راحت مطالب الإصلاحيين أدراج الرياح، وها نحن في ظل الوباء الخانق الذي يعصف بنا، نكتشف أهميتها.

من الأمور التي لا يعرفها الكثيرون عن

د. شملان العيسى، رغم أنه صرح به بين أصدقائه أن بعض أكبر القيادات الإسلامية مثلا عرضت عليه أرفع المناصب الإدارية والسياسية في البلاد، إن ابتعد عن تياره السياسي وعن الأفكار التحررية والليبرالية التي يدافع عنها، وانضم إلى "تيار الإسلاميين" الذي يقطر مالاً ومناصب.

ولكن د. شملان لم يستجب لذلك الإغراء، وكان بيده أن يستجيب بصفته أحد أبناء شخصية دينية بارزة في تاريخ الكويت، المرحوم الشيخ يوسف القناعي، وأحد المنتمين إلى مجموعة عائلية كريمة قامت بدور بارز في كل التيارات الوطنية، وقامت بخاصة بدور معروف في تأسيس الحركة الإسلامية الكويتية والخليجية والعريبة والفلسطينية والدولية! بل كذلك في بناء وترسيخ المصرفية الإسلامية وما تحت ظلها من شركات ومؤسسات، وكان باستطاعة د. شملان لو كان راغباً في التسلق والارتقاء السريع، أن يكون من نجوم المال والمناصب، لكنه لم يستدر لأفكاره وأهدافه، ولا ساير تياراً من أجل استفادة شخصية.

كانت شخصيته الصريحة وعقليته المتفتحة وتسامحه الفكري وثقافته السياسية الواسعة تعمل كلها في الاتجاه المعاكس لهذا التيار الذي جرف الكثير من الخريجين والأساتذة، ومن المهندسين والأطباء، والماليين والإداريين، ومن الذكور والإناث، ومن لم يصبه وابل... فطلّ! ولا عجب، فنحن منذ عقود في زمن المتمسك فيه بالعقل والعلم والتسامح ورفض خلط الدين والمذهب بالسياسة كالقابض على جمرة!

وجد د. شملان نفسه في العقدين الأخيرين من حياته يتحرك ضمن أربعة مجالات: التدريس الجامعي، والإعلام، والكتابة، والندوات المحلية والخارجية، ولا أعرف كم ترك له هذا كله من وقت للتركيز على المساهمة في بحوث العلوم السياسية أو متابعة أوراق الترقية في السلم الأكاديمي، بل حتى إن كانت من أولوياته.

ولا شك أن قدراً كبيراً من جهده قد تشتت تحت تأثير المشاغل والمرض المتفاقم، ولا شك أن ما كتبه د. شملان وما نشرته له الصحافة من مقالات في الكويت وخارجها، وما أعد من أوراق شارك بها في الندوات، بحاجة اليوم إلى التصنيف والتجميع من قسم العلوم السياسية في الجامعة وإدارة الكلية، وذلك للاستفادة منها وخصوصا أن المتابعة الإلكترونية باتت من أسهل الأمور.

كتب د. شملان في عدة صحف محلية وخليجية وعربية، وكانت بعض مقالاته تتوقف أو تمر وقد حذفت منها فقرات أو كلمات! فيعبر لمن حوله عن الاستياء البالغ... ويواصل المسيرة!

وكان دوماً مؤيداً لحرية الفكر والديمقراطية ومبادراً بالتصدي للتعصب الديني والطائفي وتسييس الدين، كما كان مؤيداً للعولمة والحداثة ومن مناصري النهضة والتقدم الاجتماعي والفكري، وكانت له مقابلات صحافية شيقة تحظى بقراءة واسعة يركز فيها نقده، مدافعاً عن هذه القضايا، وكانت له كذلك مقابلات تلفزيونية يتابعها جمهور عريض، لما تميزت بها من صراحة وابتعاد عن المجاملة.

وقد تولى د. شملان العيسى لبعض الوقت إدارة مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، وبذل جهداً واسعاً للنهوض بالمركز رغم الصعوبات الإدارية والمالية التي كان د. شملان يرى أن المركز يعانيها، وشارك في بعض الندوات خارج الكويت ومنها ندوة "دور البرلمانات العربية في الإصلاح السياسي" 17-18 سبتمبر 2005، في مدينة "عمان" بالمملكة الأردنية الهاشمية، وساهم في تلك الندوة بورقة عنوانها "الأحزاب والحركات السياسية في الكويت ودورها في الحياة البرلمانية"، وقد نشرت أوراق الندوة لاحقاً في كتاب طبع في عمان بالأردن.

انتقد د. شملان في تلك الورقة بشدة سلبيات الممارسة الديمقراطية في التجربة الكويتية، وما أفرزته من خيبة أمل، وقال "إن الحكومة الكويتية أثبتت أنها أكثر تقدمية وانفتاحاً من المجلس المنتخب"، ولم تكن صدمته النفسية والفكرية التي عجز عن التكتم عليها، بأقل من ذلك بخصوص الاستياء من تراجع القيم السياسية والتنويرية في المجتمع الكويتي ومجمل العالم العربي.

وقد رحل عنا د. شملان كما نشعر جميعاً في زمن ثقيل ووقت عصيب، حاملاً معه قدراً كبيرا من الإحساس بخيبة الأمل بالكثير مما حوله، ولا نملك سوى أن نتمنى انفراجاً قادما وعالماً جديداً شجاعاً مشرقا بعد انحسار كارثة الوباء.

للفقيد الكبير الرحمة، ولطلابه ومحبيه ومقدري ما بذل من جهد للارتقاء بمجتمعه الصبر والسلوان.

حياته الفكرية بدأها متحمساً للأفكار القومية والمثاليات الوحدوية لكنه صدم كالكثيرين منا بلا شك بهزيمة 1967

بعض أكبر القيادات الإسلامية عرضت عليه أرفع المناصب الإدارية والسياسية في البلاد إن ابتعد عن تياره السياسي
back to top