«العُرْف... قانون الصحراء» يمزج بين الأنثروبولوجي والسوسيولوجي

جهد بحثي رائع للراحل سليمان الفليّح

نشر في 09-04-2020
آخر تحديث 09-04-2020 | 00:04
كان الجهد البحثي الذي أنجزه الراحل سليمان الفليح محاولة مبكرة لشحذ إمكاناته، التي أنجزت لاحقاً مجموعة طيبة من البحوث.
ترك الراحل الشاعر والأديب سليمان الفليّح جملة جهود بحثية منوعة تمحورت حول البداوة والشعر، والتراث الشفاهي، أنجزها بجهد شخصي بحت امتد إلى فترات زمنية متباعدة بفعل الظروف وانشغالات الحياة، ومن بين تلك البحوث «العُرْف... قانون الصحراء»، حيث أصدرته مكتبة سليمان الفليّح في 20 مارس 2020، وهو عبارة عن جهد بحثي بنسخه إلكترونية للراحل الفليّح، مزج بين الأنثروبولوجي، والسوسيولوجي، والقانوني أو

«المضبطة القانونية التفصيلية للصحراء».

والكتاب يمتد في نحو 90 صفحة، ناقش البداوة، البدو، الأعراب، القبيلة، التركيبة الاجتماعية للقبيلة، التركيبة السياسية، المجالس، العرف القبلي، القرى، اللجوء، الجنايات، الجنح، حق الخيل، القضاء (الحق)، الجاهه، المحاكمة، الزواج، البدو المستشرقين، بدونا اليوم، المبرر الايديولوجي للوحدة العشائرية، واستدل في مناقشة تلك المواضيع إلى آراء المختصين الدقيقة ورؤيتهم.

ويعد الكتاب نموذجا جميلا في سرد ألوان مختلفة من المعلومات الثرية ذات القيمة التاريخية، وتضمن مخطوطة أصلية لمؤلف الكتاب.

وفي مقدمة النشر بينت مكتبة سليمان الفليّح أن هذا الجهد البحثي، الذي عنونه بـ«العُرْف... قانون الصحراء» كتبه الراحل الفليّح، ونشر نصه الأساسي في صحيفة السياسة الكويتية بتاريخ 2 مارس 1977، بعنوان «العرف العشائري»، وحسب ما تسمح الظروف كان يعود مضيفا ومعدلا على الورقة الأساسية حتى عام 1984، ومن ذاك احتفظ به دون تعديل أو إضافة.

أما ميزة هذا الجهد البحثي كما أوضحته المقدمة، فهو «حسب ما نظن ميزة هذا الجهد البحثي محاولته رحمه الله، البناء وبعث النقاش حول الأفكار والتجارب والبحوث التي قام بها المستشرقون الأجانب الذي جابوا الجزيرة العربية والهلال الخصيب خلال القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين الميلادي، وفتح سجال فكري ومعرفي حولها في فترة مبكرة نسبيا (ونعني منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين)، التي شهدت رواج وشيوع الصحافة واقتناء المطبوعات كحالة معرفية جديدة ومندفعه لاسيما لدى الأجيال الشابة التي بدأت ارتياد الجامعات وقتذاك، حيث يمكن أن تستغل كأفكار للجدل والنقاش والتطوير، خصوصا أن الفترة الزمنية التي نشر فيها هذا الجهد، في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن العشرين، كانت مفصلية ولافتة في تاريخ منطقة الخليج والجزيرة العربية، نظرا للتغيرات السياسية والاقتصادية الهائلة التي غيرت شكل هذه المنطقة للأبد، إذ استكمل بناء مؤسسات الدولة المختلفة، لتدفق الثروات وارتفاع أسعار النفط، إضافة إلى عامل رئيسي هو محاولة حفظ هذه المنظومة القيمية والاخلاقية والقانونية التي سادت عدة قرون بين أبناء الصحراء ونظمت علاقاتهم، ورسمت الحدود لسلوكهم وتصرفاتهم وحقوقهم قبل أن يذهب ذلك كله للنسيان».

وأشارت المقدمة إلى أن هذا الجهد البحثي الذي أنجره الراحل، محاولة مبكرة منه لشحذ إمكاناته البحثية التي أنجرت لاحقا مجموعة طيبة من هذه البحوث والدراسات في مجالات عدة سيتم نشرها تباعا خلال الفترة القادمة.

نظرية التطور

أما مقدمة الكتاب فقد ناقشت الفرق بين البدائية والبداوة واستهلت في بدايتها «يربط الكثير من المثقفين ومن يدرس علم الاجتماع أن كليهما نمط متأخر من أنماط التطور الحضاري، وبالتالي فإنهما مرحلتان متأخرتان من حياة البشرية، لذا فقد شاع بين علماء الاجتماع، كما يقول علي الوردي في أواخر القرن التاسع عشر، رأي مستمد من نظرية التطور التي كانت سائدة في الأوساط العلمية حينذاك ألا وهو أن البداوة مرحلة اجتماعية مرت بها جميع الشعوب في تطورها قبل مرحلة الزراعة، وقد ثبت الآن خطأ في هذا الرأي حيث اتضح أن البداوة لا تنشأ إلا في الصحراء وليست هي إذ مرحلة محتومة مرت بها كل الشعوب في تطورها قبل مرحلة الزراعة.

بينما يذهب الباحث الأنثروبولوجي مونتغمري وات حسب مفهوم (م. ساور) على أن البداوة مرحلة ثانية تأتي بعد الزراعة لا قبلها، وقد نشأت في مناطق السهوب الصحراوية حيث تنعدم الواحات وتندر مما جعل قوم من رعاة الأغنام والماعز يتفرقون عن القبائل الزراعية ويصبحون بدواً مستقلين.

البدو والقبيلة

ولنستعرض بعض ما جاء في الكتاب ففي تعريفه لـ«البدو» بين أنه يعود أغلب المؤرخون فيما يخص البداوة كتاريخ أول نشأة لها كانت بين عام 2100 و1900 قبل الميلاد حينما ضغط الساميون الغربيون (العموريون) على (البابليين) عندما قام رعاة الأغنام والماعز بالخروج على القبائل الزراعية، وشنوا العديد من الغارات الراجلة عليها لنهب محاصليها والتوغل في الصحراء إلى أن أكتشفوا الجمل حوالي عام 1100 ق.م. هذا الحيوان الذي يعتقد الراحلة التشيكي موسيل أنه لم يكن بريا حقا إلى أن أثبت المستشرق الألماني ليتمان من خلال النقوش والرسومات التي ترجها آل ثمود على الصخور على أنه استوطن الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، كما دل أو سجل بالخط المسماري، على أن البدو الذين يركبون الجمل (البدو الآراميين) وهم يحاربون آشور ناصربال 880 ق.م هم سكان تلك المنطقة.

أما من ناحية القبيلة، فيقول مارشال ساهلينز، إن «القبائل تحتل مكانا في تاريخ التطور الثقافي فقد حلت محل الصيادين الذين كانوا أبسط منها وحلت محلها الثقافات التي تفوقها تقدما، والتي تدعوها بالمدنيات، لكن ليست المدنية تقدما على المجتمع القبلي لمجرد قدرتها على السيطرة بل هي تقدم من التنظيم وتحول نوعي في النمط الثقافي».

ويقول الأنثربولوجي العالمي كريستوفر داوسون: «بالرغم من أن القبيلة شكل بدائي – نسبيا – فإنها تملك من أشكال التنظيم الاجتماعي من الفضائل ما تحسدها عليه أنواع متقدمة من المجتمعات، إذ يتناسب هذا التنظيم مع المثال العالي المتمثل بالحرية الشخصية واحترام الذات، ويستثير إحساسا عميقا بالولاء والمحبة من جانب أفراد القبيلة نحو الجماعة ورئيسها».

أما التركيبة الاجتماعية للقبيلة فتعتمد لدى البدو على القبيلة التي هي مجموعة من الناس تربط بيهم رابطة الدم والقربى والأصل والانحدار من سلالة واحدة.

بينما ناحية التركيبة السياسية تعتمد في الأساس على أن أغلب شؤونها تدار بواسطة الشيوخ أو الأمراء الذين يعاونهم مجلس استشاري يتكون غالبا من عقلاء القبيلة لكن السلطة هي للشيخ وحكمه وراثي أبا عن جد.

العرف القبلي

وعرف الكتاب «العرف القبلي»، أنه بمنزلة مجموعة من القوانين والأعراف المتعارف عليها والتي تنظم حياتها وسلوكها الاجتماعي، وتعمل به كنظام مقدس مصان يحفظه الخلف عن السلف، ويحرصون على فهمه والتمسك به وتعليمه إلى أولادهم.

أما «العرف الخارجي» فهو الذي ينظم علاقة القبلية مع القبائل الأخرى، ورصد الكتاب عدة نقاط تتعلق بالعرف الخارجي، ومنها على سبيل المثال أثناء «الحرب» يكون من حق شيخ القبيلة أن يعلنه على قبيلة أخرى أساءت أو اختلفت أو اعتدت أو أعلنت الحرب على قبيلته، ويتم إعلان الحرب بالصورة التالية: يعلن الشيخ الحرب، يرسل مندوبا لاخبار القبيلة التي ينوي محاربتها، يعلم المندوب القبيلة العدوة بعزم شيخه على حربها.

أما التشكيل الحربي لدى القبائل العربية فيتم عادة بالشكل التالي: يعين أو ينتخب قائدا للجيش (عقيد) لإدارة المعارك، وهو يفضل دائما أن يكون من الرجال الذين لديهم خبرة ودراية و(حظ) في الحرب، يختار العقيد نخبة من الفرسان المشهود لهم بالشجاعة لاستشارتهم وتكليفهم بالمهمات القتالية، يرسل العقيد (رقيبه) وهو رجل يختار مرتفعا عاليا لمراقبة العدو وتحركاته وإرسال إشارات معينة لدى جيشه وهو بمثابة مرصد، يقسم العقيد جيشه إلى قسمين هما (كمين) و(مغيره)، تقوم مجموعة صغيرة متخفية تسمى (السبر) بالتسلل إلى أرض العدو لمعرفة مدى استعداده أو تجهيزاته.

الجنح والمحاكمة

وتطرق الكتاب إلى جانب «الجنايات»، وبيّن أن الجرائم التي تحدث لدى البدو وتعتبر في حكم الجناية، ومنها على سبيل المثال القتل وعقوبته القتل بأي حال من الأحوال.

وتناول أيضا «الجنح» في العرف العشائري وعقوبتها خاصة لأهميتها وضرورتها وهي قلما تصل إلى العوارف، لأن الجنح البسيطة يتوسط فيها رجال العشيرة الواحدة ويحلونها فيما بينهم، ولكن على الجاني أن يدخل «يلتجئ» أولا ثم يتولى واحد التفاوض مع أهل المجني عليه.

أما عن الأسلوب الذي تتبعه القبيلة في موضوع «المحاكمة» فيكون عن طريق اجتماع الخصمين في منزل القاضي، ويجلسان متقابلين ثم يقوم القاضي بتجريدهما من السلاح، ويجوز لأي من المخاصمين تعيين رجل بارع في المفاوضات والدفاع ويسمى ملبس عباه – أي بمثابة (روب المحامي).

البدو المستشرقون

وعن «البدو المستشرقون»، بين علامة الجزيرة الأستاذ حمد الجاسر: أن الكتابة عن أي قبيلة من الأمور التي يحيط بها الكثير من العراقيل، ولا يدرك هذا الشأن إلا المتبحر في دراسة انساب القبائل وتاريخها. وهذا أمر يدركه متقدمو المؤلفين بل يقال إن الثقافة العربية فقدت متسعا كبيرا من ثراوتها لهذا السبب. ومن هنا فقد كتب عن البادية كتاب كثيرون وباحثون ومستشرقون أو ضباط الاستعمار. وقد تناول هؤلاء الكتاب في دراساتهم وتقاريرهم هذه القبائل، كل حسب رؤيته أو مصلحته، أو مصلحة بلاده، فمنهم من كتب الحقيقة كما هي ومنهم من غمره حب هذه القبائل وتعاطف معها، ومنهم من جانب الحقيقة والصواب ليجعل من نفسهم بطلا اسطوريا بين تلك المجتمعات لدى قرائه وبني لغته.

المجالس لها احترامها ونظامها الخاص

بين الكتاب في موضوع «المجالس» أنه «يلي شيوخ العشائر في التركيبة الفرسان الذين لهم مجالس تضم وجوه القبيلة يتداولون فيها أمور عشائرهم ويناقشونها ويعتبرون المجالس بمثابة (دواوين – ديوانيات) لتداول أمورهم وأمور ابلهم وماشيتهم ومراعيهم.

ولهذه المجالس احترامها لدى الجميع بل لها قدسيتها ونظامها الخاص الذي يحرم فيها الاعتداء بالضرب والقذف أو التكذيب (ما لم يثبت) وإلا اعتبر الفاعل مخالفا لأعراف القبيلة، مما يستوجب تطبيق العقوبة، ومن الأمور المعيبة التحدث بالألفاظ النابية أو القدح أو التجريح أو الجلوس بطريقة مخالفة وعدم النهوض بوجه الرجال أو الخروج عن أدب المائدة أو القهوة أو الاستهانة والتحقير لأي كان، ما لم يثبت أمام المجلس بالدليل القاطع موجب ذلك، وكل هذه الأمور البسيطة مستمدة في الأساس من عرف قبلي غير مكتوب كانت القبائل البدوية وربما مازال الكثير منها يعمل به».

الزواج في المجتمع القبلي

تناول الكتاب جانب «الزواج» في المجتمع القبلي، وبين أنه من طرق الزواج تأتي مسألة (الجيرة أو الحيرة أو الحجرة)، وهي عبارة عن حجز ابنة العم لابن عمها منذ ولادتها لتكون زوجة له في المستقبل، ولا يجوز زواجها من شخص آخر إلا في حالة تنازل ابن عمها أو دفع مهرها له.

أما إذا تزوجت ابنة العم دون رأي ابن عمها فغالبا ما تنشأ مشاكل كثيرة تؤدي إلى القتل، ويهدف البدو من وراء ذلك إلى تقوية العصبة وأوامر القرابة، والحفاظ على أصالة العائلة.

«العرف القبلي» هو مجموعة من القوانين والأعراف
back to top