«كوفيد- 19» في زمن انعدام الاستقرار

نشر في 08-04-2020
آخر تحديث 08-04-2020 | 00:01
النجاح الحقيقي لا يكمن في التعامل مع أعراض المرض وأسبابه أو في إعادة اكتشاف قيم الرأفة والرحمة والاحترام والكرم فقط، ولكن في مأسسة هذه القيم في القادم من الأيام والأسابيع والشهور.
 بروجيكت سنديكيت لقد شهدت البشرية كثيراً من الجوائح خلال تاريخ العالم، وقد حافظت على بقائها، وقبل قرون مضت قامت ممالك ودول أوروبا الوسطى والغربية بإلغاء مؤسسة الرق بعد أن أضحى من الواضح أن حكم القرون الوسطى ستهتز أركانه بعد انتشار وباء مدمر في حال عدم إنهاء التبعية والرق اللذين ميزا "العصور المظلمة" آنذاك، وأثناء انتشار الإنفلونزا الإسبانية، دفع الضعف الذي عانته أمم بأكملها والتهديد بالانهيار التام في ظل غياب توافر الرعاية الصحية للجميع، دفع الحكومات نحو بناء أنظمة الرعاية الصحية العامة التي جعلت من الممكن تحقيق التقدم والتنمية التي شهدناها في مئة عام الماضية، وإذا كان الماضي مقدمة للمستقبل فإن الاستمرارية والبقاء يتطلبان منا التغيير.

لقد تضامن العالم سوياً مرات عديدة في مواجهة أنواع شتى من التهديدات، في الواقع إن فيروس كوفيد-19 بات يهدد بشكل كبير هياكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد يلقي المرض والكساد والخوف بظلاله الداكنة وبوتيرة سريعة على الدول والمجتمعات، وكل يوم آت يحمل في طياته تحديات متنامية ينبغي مواجهتها مثل رعاية المسنين، والحد من تأثيرات الإغلاقات على حياة الناس وسبل رزقهم، وتأمين تدفق المياه الكافية، وكذلك الغذاء والطاقة، بالإضافة إلى الإسراع في الجهود الرامية إلى إيجاد العلاج.

إن النجاح- كما هي الحال في صراع غير متوازن- يعتمد على المثابرة، ولاحتواء تداعيات الأزمة الاجتماعية-السياسية، والاجتماعية- الاقتصادية يجب أن تتركز جهود صانعي السياسة ومساعيهم والقرار على الرفاهية والكرامة الإنسانية كنقطة ارتكاز وأساس للأمن الوطني والدولي.

إن أعضاء المجتمع الأكثر تعرضاً في بعض أجزاء عالمنا هم أولئك الذين يتقدمون الصفوف في الأزمة: الأطباء، الممرضات والممرضون، مقدمو الرعاية، الصيادلة، المزارعون، بائعو محلات البقالة، سائقو الشاحنات من الذين سنعتمد على شجاعتهم وتضحياتهم وإخلاصهم خلال الإغلاقات المتوقعة في غضون الأشهر الـ12 إلى 18 القادمة، وفي غياب مساندة الدول، ماذا سيحدث لمئات الآلاف من الناس الذين تم تسريحهم من عملهم، في حين أن ملايين آخرين يواجهون العسر المرتقب على خلفية الأعداد المتنامية من العاملين الذين سيتم تسريحهم من عملهم.

سيستمر البعض في تجاهل الضعفاء والمهمشين، أولئك الذين لديهم مساعدات إنسانية في حدها الأدنى، في حين سيستمر آخرون في استغلالهم، وإن الدعوات للتباعد الاجتماعي قد تنامى صوتها وتكرارها خلال اليومين المنصرمين، وخلال الشروع في تباعد بعضنا عن بعض يجب علينا ألا ننسى واجبنا الإنساني تجاه بعضنا.

إن الأمن ليس في الواقع مسألة فردية البتة، ولكنه جماعي وعالمي؛ وتستدعي الأزمة الراهنة تفكيراً ساميا من قبل جميع السياسيين من مختلف الأطياف، وإن المساحات الرمادية في السياسة، حيث ينتشر منطق الدمار المتبادل المؤكد لن تحافظ أو تعزز الكرامة الإنسانية والرفاهية، ويجب الآن على المحافظين والإصلاحيين أن يتجاوزوا عن التنافس وليِّ الأذرع في مضمار السياسة، وإن منطق البقاء المتبادل المؤكد لا يمكن أن يتقبل هذه المساحات الرمادية، وإذا كان حل الصراع يسمو على المعتقدات السياسية، القومية، العرق، الجنس، الدين، فإن الكرامة الانسانية والرفاهية هما المقياس المثالي للالتزام الإنساني تجاه الحياة.

إن الوسطاء الذين يُعتمد عليهم في إدارة هذه الأزمة وأزمات أخرى موجودون، ومنهم على سبيل المثال الصليب الأحمر، ومنظمة أطباء بلا حدود، وتتطلب مسؤولية الشركات الاجتماعية، في الواقع، تطوير منصة عامة للحقائق الصحية والواقع الصحي، حيث يكون بالإمكان تعزيز محادثات واستشارات بين الناس من خلال المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات التعليمية وغيرها.

ولا يمكننا الحديث عن الطاقة وتغير المناخ بمعزل عن الصحة أو التعليم والكرامة الإنسانية، كما ينبغي للمهاجرين واللاجئين أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من الاستجابة الوطنية لوقف تفشي فيروس كورونا المستجد، وحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) فإن 55 مليون إنسان في إقليم غرب آسيا يحتاجون إلى نوع ما من المساعدة الإنسانية، وإن ضعف النساء والبنات المهجرين جلي ويتزايد في ظل مثل هذه الجائحة.

إن عدم الاستقرار في مرحلة ما بعد الصراع- إن كان ذلك في بلدان شهدت دماراً من جراء الحرب أو في المدن والأرياف في اقتصادات متقدمة اجتاحها المرض- يمكن معالجته فقط من خلال دراسات مسحية جادة بغية تمكين الوصول إلى المساعدة الإنسانية، وإن بلدانا مثل اليمن وسورية وغزة وليبيا يمكن أن تكون ضعيفة إلى حد كبير إزاء هجوم الأوبئة، وعندما تنتهي الحروب ما الشيء الذي سيكشف السلام النقاب عنه؟

يتعزز عدم الاستقرار الإقليمي في غياب التعاون، إلا أن النظام المتعدد الأطراف والتكامل سيساهم في مواجهة أزمة وجودية.

لقد تضرر التضامن الأوروبي بشكل ملحوظ من جراء تفشي المرض في حين أثبتت الصين فاعلية الإجراءات السريعة والفعالة كما تجلى في مساعدتها لإيطاليا، وإن التعاون ونظام تعدد الأطراف اليوم يمكن إعادة تفعيله من جديد من خلال التركيز على الأولويات في ظل حقول معرفية شتى متصلة بالقرن الحادي والعشرين والتي تتضمن تأكيد الحاجة لقانون سلام، نحن نقدم تنازلات إنسانية من قانون الحرب في أوقات السلام، ولكننا لا نلجأ إلى الأدوات القانونية التي من شأنها تأمين الكرامة والرفاهية للجميع في أوقات الحرب.

إن الأزمة الراهنة تمثل أزمة صحية عالمية بالقدر نفسه الذي هو أزمة في العولمة التي أصبحت تقوض أسس المجتمع الحديث الذي يشوبه تنامٍ في عدم المساواة والظلم، وأصبح ذلك يهدد بقاءنا كجنس بشري، وبخاصة في ظل التغيرات المناخية، فكوكب الأرض الذي نتشارك فيه مع مخلوقات أخرى هش ومعرض للأزمات، وإن حل معضلتنا يقتضي منا أن نوسع نطاق أخلاقيات التضامن البشري إلى مدى يتجاوز ردنا المباشر والراهن لتفشي كوفيد-19.

النجاح الحقيقي لا يكمن في التعامل مع أعراض المرض وأسبابه أو في إعادة اكتشاف قيم الرأفة والرحمة والاحترام والكرم فقط، ولكن في مأسسة هذه القيم في القادم من الأيام والأسابيع والشهور.

* الحسن بن طلال

* رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية، عمل بمعية أخيه جلالة الملك الحسين خلال مفاوضات السلام.

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

فيروس كوفيد-19 بات يهدد بشكل كبير هياكلنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
back to top