إبراهيم البليهي... مبدعاً تنويرياً استثنائياً (1)

نشر في 30-03-2020
آخر تحديث 30-03-2020 | 00:08
 د. عبدالحميد الأنصاري الإبداع هو أن تأتي بما لم يأتِ به السابقون، أو بما لا نظير له من قبل، أما التنوير فهو استعادة الإنسان لذاته المستلبة، وتحرره من البرمجة التلقائية بتفكيره المستقل عن التيار العام، أو تخلص الإنسان من عطالته الفكرية، كما لخصه "كانط" في رسالة: ما الأنوار؟ وهذا هو الجهد المعرفي الذي قدمه إبراهيم البليهي، هذا الإنسان الفذ الذي ولد في القصيم، ودرس الشريعة، وصار مديرا عاما لبلديات القصيم، ثم عضواً بمجلس الشورى السعودي.

هذا الباحث العنيد عن الحقيقة والعدل، ليرقى بالإنسان والمجتمع، لم يقنع بما درسه في التخصص الجامعي، فسعى إلى تثقيف نفسه بقدرة ذاتية موهوبة، وباهتمام تلقائي غلاب، للإحاطة بعلوم ومعارف التراث العربي الإسلامي، فلم ترو عطشه الفكري، ولم تسد جوعه المعرفي، ولم تجب عن تساؤلاته القلقة منذ الصغر، فاطلع على علوم ومعارف وفلسفات الغرب، والتهمها التهاماً، وهضمها هضماً، ليقدم لنا زاداً معرفياً ثرياً. ما أروع هذا الإنسان، يجهد في تبصير الناس ليحيوا، وهو زاهد في المال والجاه والمنصب والشهرة، وحتى مجرد التكريم!

ماذا قدم البليهي؟

لا يمكنني الإحاطة بالإنتاج الفكري الضخم الذي قدمه البليهي، فذلك لا يمكن رصده وحصره، فقد كتب الآلاف من المقالات في صحيفة الرياض، عبر 40 سنة، غير المئات من المحاضرات والحوارات واللقاءات، إضافة إلى سلسلة الكتب الصادرة حتى الآن: النبع الذي لا ينضب، وأد مقومات الإبداع، بنية التخلف، حصون التخلف، عبقرية الاهتمام التلقائي، الريادة والاستجابة (تأسيس علم الجهل لتحرير العقل)، الإنسان كائن تلقائي، بجزأين، وعشرات تحت الطبع. يشكل هذا الإنتاج الثري، فتحاً جديداً في عالمي الفكر: العربي والعالمي.

لقد قدم البليهي مشروعاً فكرياً شاملاً ومتكاملاً غير مسبوق، لا يتعلق بالمجتمع العربي الإسلامي فحسب، بل بالمجتمع الإنساني عامة، ويقوم هذا المشروع، بحسب فهمي، على ركائز أساسية، تتجسد في نظريات جديدة، تفسر طبيعة المعرفة التي يكتسبها الإنسان في مجتمعه، وطبيعة الثقافات الحاكمة للمجتمعات، وكيف تتغير المجتمعات وتنهض لتلحق بركب المزدهرين.

أبرز هذه النظريات، في تصوري، ثلاث:

الأولى: نظرية "التلقائية" وهي نظرية توضح كيف يتبرمج الأفراد منذ طفولتهم "تلقائياً" بالسائد "ثقافياً واجتماعياً" في البيئة، وكذلك المجتمعات تتبرمج بقوالب ثقافية عامة.

الثانية: نظرية "عبقرية الاهتمام التلقائي"، وهي نظرية تشرح كيف يمكن للتعليم أن يكون رافداً للتغيير، وكيف ظهرت "القلة المبدعة" التي استطاعت كسر طوق "البرمجة المجتمعية التلقائية" فحققت إنجازات مزدهرة تنعم بها البشرية اليوم.

الثالثة: نظرية "الريادة والاستجابة" وهي نظرية تفسر وتحلل قوانين التغيير في المجتمعات الإنسانية، وتوضح أن المجتمعات لا تنهض إلا إذا توافر لها جناحان: جناح الريادة في الفكر والعمل من قبل المفكرين الذين كسروا "البرمجة التلقائية"، وجناح الاستجابة الاجتماعية من قبل المجتمع لهؤلاء المفكرين الرواد، وهذا الجناح الأخير هو الأهم، وهو الذي يتكرر غيابه في الماضي والحاضر، وتعاني المجتمعات المتخلفة غيابه، طبقاً لصبحي دقوري، في مؤلفه القيم "حوارات مع البليهي وتعريف بفكره"، دار التنوير، بيروت 2016.

في هذا المقال الأول، أحاول التعريف بجانب من النظرية الأولى "التلقائية" والنتائج المترتبة عليها، وكيف يمكن استثمارها لمصلحة تغيير مجتمعاتنا.

ما نظرية "التلقائية"؟

أهم ما في هذه النظرية أنها تجيب عن أهم تساؤل طرح في القرن الـ19 لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟ كما تجيب عن تساؤل اليوم: لماذا لا تتغير المجتمعات العربية رغم مظاهر التحديث؟

خلاصة النظرية طبقا للبليهي أنها أشبه بالقدر (قدر الأفراد والمجتمعات)، فالإنسان كائن تلقائي، يولد بقابليات فارغة (الفطرة) مهيأة للتشكل "تلقائياً" بأي قالب ثقافي اجتماعي أسبق إليه (العقل يحتله الأسبق إليه) والأفراد يتشربون "تلقائياً" الثقافة المحيطة منذ التنشئة الأولى، فيتبرمجون بها أبدا، المعضلة ليست في البرمجة، بل في اعتقادهم أن ذلك تم باختيارهم، وهذا "وهم مركب" فهم واهمون، وهم لا يدركون أنهم واهمون، وهو ما يسميه البليهي "الجهل المركب". وللحديث تكملة.

* كاتب قطري

back to top