الإنسانية تفتقر إلى قيادة في معركتها ضد «كورونا»

نشر في 27-03-2020
آخر تحديث 27-03-2020 | 00:02
الرئيس المريكي دونالد ترامب
الرئيس المريكي دونالد ترامب
قبل العصر الحالي للعولمة بوقت طويل، قتلت الأوبئة الملايين من البشر؛ ففي القرن الرابع عشر، على سبيل المثال، لم تكن هناك طائرات ولا سفن رحلات، ومع ذلك انتشر الطاعون الأسود من شرق آسيا الى أوروبا الغربية خلال أقل من عقد من الزمن، وقتل ما بين 75 و200 مليون شخص.
يلقي الكثير من الناس اللوم على العولمة بسبب انتشار وباء كورونا المستجد، ويقولون إن الطريقة الوحيدة من أجل منع المزيد من مثل هذه الأوبئة تكمن في قيام عالم ضد العولمة، ويمكن لذلك الهدف أن يتحقق من خلال بناء جدران وتقييد السفر وخفض المبادلات التجارية. وعلى أي حال، وفي حين يعتبر الحجر الصحي القصير الأجل خطوة أساسية نحو منع انتشار الأوبئة؛ فإن العزل الطويل الأجل سوف يفضي الى انهيار اقتصادي، من دون أن يقدم أي حماية حقيقية ضد الأمراض المعدية، بل العكس من ذلك. ويتمثل العلاج الحقيقي للوباء في التعاون فقط.

ويشار في هذا الصدد الى أن الأوبئة قتلت الملايين من البشر، قبل العصر الحالي للعولمة بوقت طويل. وفي القرن الرابع عشر، على سبيل المثال، لم تكن هناك طائرات ولا سفن رحلات، ومع ذلك انتشر الطاعون الأسود من شرق آسيا الى أوروبا الغربية، خلال أقل من عقد من الزمن، وقتل ما بين 75 مليونا و200 مليون شخص. وفي إنكلترا توفي أربعة من كل عشرة أشخاص، كما فقدت مدينة فلورنسا 50 ألفاً من سكانها الـ100 ألف بسبب الطاعون.

وفي القرن الذي أعقب عام 1918 أصبحت الانسانية عرضة بقدر أكبر للأوبئة، بسبب مزيج من زيادة عدد السكان وتوافر وسائل مواصلات أفضل. وفي وسع الفيروس الانتقال من باريس الى طوكيو مثلاً في أقل من 24 ساعة.

وخلال القرن الماضي جمع العلماء والأطباء والممرضون والممرضات في شتى أنحاء العالم معلومات حول فهم الآلية وراء الأوبئة وسبل مكافحتها. وتشرح نظرية التطور كيفية تفشي الأمراض الجديدة وتحول الأمراض القديمة الى نوعية أكثر فتكاً وشدة. ومكنت الجينات العلماء من التجسس على طريقة عمل الجراثيم المسببة للمرض بصورة عامة. وفي حين لم يتمكن العلماء في القرون الوسطى من معرفة أسباب الطاعون الأسود تمكن علماء اليوم من تحديد سبب فيروس كورونا المستجد خلال أسبوعين فقط.

بعد فهم الأسباب

وبمجرد التوصل الى فهم كيفية حدوث الوباء يصبح من الأسهل محاربته. وسمحت عمليات التلقيح والمضادات الحيوية والخطوات الصحية الأفضل، للبشر، بالتقدم والانتصار على الأوبئة. وفي عام 1967، على سبيل المثال، أصاب الجدري 15 مليون شخص وقتل حوالي مليونين منهم. أما في العقد التالي فكانت حملة التلقيح ضد الجدري ناجحة تماماً، مما دفع منظمة الصحة العالمية في عام 1979 الى إعلان انتصار البشرية على الوباء، وأنه تم القضاء عليه بصورة تامة. وفي عام 2019 لم يتعرض شخص واحد للاصابة أو الموت بسبب الجدري.

والسؤال هو: ما الدرس الذي يمكن أن نتعلمه من ذلك في معركتنا ضد فيروس كورونا المستجد؟

أولاً، أنت لا تستطيع أن تحمي نفسك عن طريق إغلاق حدودك بصورة دائمة. وتذكر أن الأوبئة تنتشر بسرعة كما حدث في العصور الوسطى وقبل وقت طويل من زمن العولمة. وهكذا، وحتى اذا قلصت اتصالاتك العالمية الى المستوى الذي كان سائداً في انكلترا في عام 1348؛ فإن ذلك لن يكون كافياً لضمان الحماية لك.

وثانياً، يشير التاريخ الى أن الحماية الحقيقية تأتي من مشاركة المعلومات العلمية الموثوقة ومن التضامن العالمي. وعندما يتعرض بلد لموجة وباء يتعين عليه أن يتشاطر بأمانة سببه من دون خوف من حدوث كارثة اقتصادية – في حين يتعين على الدول الاخرى أن تثق بتلك المعلومات وأن تكون راغبة في مد يد العون. وفي وسع الصين اليوم تعليم الدول في كافة أنحاء العالم الكثير من الدروس المهمة حول فيروس كورونا ولكن ذلك يتطلب مستويات عالية من الثقة والتعاون الدولي.

الحجر الصحي الفعال

وتدعو الحاجة أيضاً الى توافر التعاون الدولي من أجل تأمين حجر صحي فعال، وربما أن الشيء الأكثر أهمية هو أن يدرك الناس أن انتشار الوباء في أي دولة يعرض كل البشر للخطر، لأن الفيروس يتطور، كما أن فيروس كورونا مثلاً نشأ من الخفافيش كما يقال. وكل انسان حامل للفيروس يعطيه تريليونات من الفرص للتكاثر والانتشار.

وهذه ليست مجرد تكهنات، فقد وصف ريتشارد بريستون في كتابه بعنوان "أزمة في المنطقة الحمراء"، وبشكل دقيق مثل هذه السلسلة من الأحداث خلال انتشار وباء إيبولا في عام 2014 عندما انتقل فيروس ايبولا من خفاش الى البشر. وقد تحول ايبولا من فيروس نادر نسبياً الى وباء جامح، بعد حدوث تغير وراثي في جين واحد من فيروسات ايبولا أصاب أحد البشر في منطقة ماكونا في غرب إفريقيا. ومكن ذلك التغير من الارتباط بناقلات الكولسترول في خلايا البشر، ودخول تلك الخلايا والتسبب بوفاة المصاب.

وربما حدث تغير وراثي مماثل في أحد جينات فيروس كورونا وأصاب أحد الأشخاص في طهران أو ميلانو أو ووهان في الصين. واذا كان ذلك ما حدث حقاً فإنه يشكل خطراً ليس على الايرانيين أو الايطاليين أو الصينيين فقط، بل على حياة البشر في مناطق اخرى من العالم. ومن هذا المنطلق يمكن القول ان الناس في شتى أنحاء العالم يتشاطرون مصلحة وجود في عدم اعطاء فيروس كورونا هذه الفرصة وذلك يعني أن نحمي كل شخص في كل بلد.

تعرف على أبرز الأوبئة التي ضربت العالم

وفي السبعينيات من القرن الماضي تمكنت الانسانية من دحر فيروس الجدري بعد أن تم تلقيح كل السكان في كل الدول ضد ذلك الفيروس، ولو أن دولة واحدة فقط أحجمت عن تلقيح مواطنيها لتعرض العالم كله للخطر، لأن وجود وتطور فيروس الجدري في مكان ما يعني انتشاره دائماً الى مناطق أخرى.

وفي المعركة ضد الفيروسات سوف تحتاج الانسانية الى ضمان حراسة الحدود، ولكن ليس بين الدول، بل بين عالم البشر ومدى انتشار الفيروس، وتواجه البشرية شريحة واسعة لا حصر لها من الفيروسات، كما أن الفيروسات الجديدة تتطور بصورة دائمة نتيجة التغير الوراثي الجيني. ثم إن خط الحدود الذي يفصل بين الفيروس والانسان يمر في داخل كل مخلوق، واذا تمكن فيروس خطر من التغلغل عبر ذلك الخط في أي مكان على سطح الأرض فإن البشرية بأسرها تصبح عرضة للخطر.

خلال القرن الماضي، عززت البشرية تلك الحدود بصورة غير مسبوقة، وتم وضع أنظمة رعاية صحية عصرية للعمل على شكل جدار على تلك الحدود، ولكن أجزاء طويلة منها ظلت معرضة الى حد كبير، كما يوجد الملايين من الناس حول العالم يفتقرون حتى إلى خدمات الرعاية الصحية الأساسية، ثم إن توفير رعاية صحية أفضل للايرانيين والصينيين يساعد في حماية الاسرائيليين والأميركيين أيضاً من الأوبئة، وهذه الحقيقة البسيطة يجب أن تكون واضحة للجميع ولكنها تغيب عن أذهان أكثر الناس أهمية في العالم.

وتواجه الانسانية اليوم أزمة حادة، لا بسبب فيروس كورونا فقط، بل نتيجة نقص الثقة بين البشر أيضاً. وخلال السنوات القليلة الماضية أسهم عدد من رجال السياسة بصورة متعمدة في تقويض الثقة بالعلوم والسلطات العامة والتعاون الدولي. ونتيجة لذلك نحن نواجه اليوم هذه الأزمة، وليس لدينا قادة يستطيعون تنظيم وتنسيق ردة فعل عالمية.

الدور الأميركي

خلال موجة وباء إيبولا في عام 2014 قامت الولايات المتحدة بذلك الدور القيادي، كما قامت بدور مماثل إبان الأزمة الاقتصادية العالمية المالية في عام 2008، عندما حشدت عدداً كافياً من الدول للمساعدة في منع حدوث انهيار اقتصادي دولي. ولكن واشنطن تخلت عن ذلك الدور، وأوقفت الادارة الأميركية الحالية دعمها للمنظمات الدولية مثل منظمة الصحة الدولية، وأوضحت بجلاء الى العالم أنها غير معنية بوجود أصدقاء، بل بضمان مصالحها فقط. وعندما تفجرت أزمة كورونا اتخذت الولايات المتحدة موقف المتفرج وامتنعت حتى الآن عن القيام بدور قيادي، وحتى اذا حاولت في نهاية المطاف الاضطلاع بذلك الدور فلن تنجح، لأن الثقة بإدارة الرئيس ترامب انعدمت الى درجة أفقدتها ثقة أكثرية دول العالم. وهل يمكنك أن تتبع زعيماً شعاره هو "أنا أولاً"؟

الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة لم تملأه أي دولة اخرى، والعكس صحيح. وتسود مشاعر رهاب الأجانب والعزلة وعدم الثقة الآن معظم أرجاء النظام الدولي، ومن دون الثقة والتضامن العالمي لن نتمكن من منع انتشار وباء كورونا المستجد، ويحتمل أن نشهد المزيد من هذه الأوبئة في المستقبل.

وفي الأزمة الراهنة، يتم الصراع الحيوي ضمن الانسانية نفسها. واذا أسفر هذا الوباء عن درجة أوسع من الفرقة والتباعد وعدم الثقة بين البشر فإن ذلك سيعني أعظم انتصار للفيروس. أما اذا أفضى الى تعاون عالمي أوثق فسوف يشكل انتصاراً، ليس على فيروس كورونا فقط بل على كل الأوبئة في المستقبل.

يوفال نوح هراري *

في العقد التالي لظهور «الجدري» كانت حملة التلقيح ضده ناجحة تماماً مما دفع «الصحة العالمية» في عام 1979 إلى إعلان انتصار البشرية على الوباء

التاريخ يشير إلى أن الحماية الحقيقية تأتي من مشاركة المعلومات العلمية الموثوق بها ومن التضامن العالمي
back to top