مفتي القدس يتدخل في شؤون العراق!

نشر في 26-03-2020
آخر تحديث 26-03-2020 | 00:10
 خليل علي حيدر كانت الشخصيات السياسية والعسكرية العربية بعد زوال الدولة العثمانية وقيام الانقسامات التي فرضتها اتفاقية (سايكس بيكو) ورسم الحدود بين العراق وسورية وبروز مختلف أنواع المشاكل في كل منهما، وفي شرق الأردن وفلسطين ولبنان، يجدون أنفسهم يتحركون في مجالات متشابهة، وتمر بالعديد منهم تحديات متماثلة، كما لم يكن أي منهم، مهما كان موطن ميلاده أو بلاده يجد بأسا أو غرابة في أن يتحرك بحرية كاملة في هذه الدول، وقد يتدخل في أدق قراراتها ويزاحم نخبها، بدوافع قومية أو دينية أو نضالية أو غير ذلك.

وقد نجد زعيماً كمفتي فلسطين "الحسيني"، أو عسكرياً مثل "فوزي القاوقجي" أو بعض كبار رجال التربية والثقافة مثل المفكر القومي "ساطع الحصري" ضمن من أدوا دوراً بارزاً في أكثر من بلد، فالمناضل القومي "فوزي القاوقجي" مثلاً (1890- 1976) وُلد في "طرابلس" الشام ودرس في المدارس العثمانية الرسمية والتحق بالكلية الحربية في إسطنبول وتخرج سنة 1912 ضابطاً في سلاح الفرسان، وأتقن عدة لغات وشغف بقراءة التاريخ، وصارت له صلات واسعة مع القبائل العربية في الجزيرة الفراتية بين سورية والعراق.

حارب القاوقجي في صفوف الجيش العثماني ضمن سلاح الفرسان، وشارك في معركة (الشعيبة) قرب البصرة سنة 1915 وجُرح فيها، ثم "توصل إلى نتيجة" مفادها أن القضية القومية لا تحل عن طريق العمل الحزبي بل عن طريق العمل العسكري وحده، وفي سنة 1916 شارك في العمليات العسكرية ضد البريطانيين في بئر السبع وفي النقب بفلسطين، ورغم عواطفه القومية لم يكن ميالا للانضمام للثورة العربية التي أعلنها "الشريف حسين" سنة 1916 بسبب تحالف الشريف مع البريطانيين، وعندما أسس الملك فيصل أول دولة سورية وأول حكومة عربية انضم فوزي إلى الجيش العربي في سورية، وعُين مترجماً في دائرة الترجمة لإتقانه عدة لغات ومنها (التركية والفرنسية والألمانية وبالطبع العربية).

وعمل في سورية بإمرة "ياسين الهاشمي"، وشارك في معركة ميسلون في يوليو 1920، وبعد سقوط الحكومة وخسارة المعركة أدى دوراً مشهوراً في إطلاق سراح كبار قادة الثورة السورية سنة 1925، ثم في الانضمام للثورة في حماة وفي جبل القلمون، ثم تولى قيادة قوات الثورة في منطقة الغوطة، وفي عام 1928 عمل على تأسيس جيش نظامي بعد دخوله إلى الجزيرة العربية، إلا أن سياسته تعارضت مع سياسة قادة المملكة، فعاد إلى العراق ومنح رتبة نقيب في الجيش العراقي، غير أنه استقال وانتقل إلى فلسطين سنة 1936 ليتولى سرايا المتطوعين العرب ضد البريطانيين ثم عاد إلى العراق، حيث ساند عام 1941 حركة رشيد عالي الكيلاني بكل قوته، وتولى قيادة قوات البادية لصد القوات الإنكليزية القادمة من شرق الأردن، وأصيب بجراح خطيرة، فنقل إلى مستشفى دير الزور، ثم إلى برلين، واستخرج من جسده الكثير من الشظايا، ويقال إن رصاصة بقيت في رأسه حتى أواخر حياته.

وإثر فشل "ثورة الكيلاني" تنقل القاوقجي في البادية السورية ثم انتقل إلى ألمانيا، حيث شارك في بعض الوحدات الألمانية التي أوكل إليها أمر الاتصال بالقوات المعادية للبريطانيين، وفي 1947 كلفته جامعة الدول العربية بقيادة "جيش الإنقاذ" الذي كان يضم المتطوعين العرب في فلسطين، ولكن الجيش حل نفسه في مايو 1949 إثر توقيع اتفاقية الهدنة، فترك القاوقجي فلسطين إلى سورية ثم لبنان في ظروف مادية ونفسية أليمة، وبقي في بيروت حتى وفاته، له "مذكرات القاوقجي"، وترك عدداً ضخماً من الوثائق غنمها في حروبه.

(انظر: إتمام الأعلام، د. نزار أباظة ومحمد المالح، دمشق 1999 ص315-316، وكذلك "موسوعة بيت الحكمة لأعلام العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، بغداد 2000، ص404-405).

ومن الثوريين العرب الذين انضموا في العراق إلى حركة رشيد عالي الكيلاني "أبو خالد" وهو لقب "فؤاد نصار" (1914-1977) الذي أصبح لاحقا الأمين العام الأول للحزب الشيوعي الأردني، وقد ولد "نصار" في بلودان غرب دمشق لأسرة فلسطينية قدمت إليها للعمل في التعليم، وعاد معها إلى الناصرة مسقط رأس والديه، فأدخل المدرسة الابتدائية، لكنه تركها في السنة الرابعة حين اضطر للعمل في صناعة الأحذية لمساعدة أسرته.

شارك "فؤاد نصار" في النشاط السياسي منذ "ثورة البراق" بفلسطين عام 1929، ثم ثورة 1936، فاعتقل بتهمة تشكيل منظمة سرية معادية للانتداب، ثم أفرج عنه وفرضت عليه إقامة جبرية في مدينة الخليل، ثم حكم عليه بالسجن في عكا حيث تعرف على بعض الشيوعيين المعتقلين أواخر سنة 1937 وخاض فيما بعد معارك مع القوات البريطانية، غادر عام 1938 إلى العراق ماشياً على الأقدام، ودخل الكلية العسكرية وتخرج بها بعد أشهر! واشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، وبعد إخفاقها انسحب إلى إيران مع رفاقه، لكنه عاد معهم إلى العراق لأن السلطات هناك رفضتهم فنقلهم العراقيون إلى كردستان، وسُمح له بعد العفو العام 1942 الذي أصدره الإنكليز في فلسطين بالرجوع إلى بلاده، حيث استكمل عمله في تأسيس الحزب الشيوعي وانغمس لاحقا في العمل السياسي، واختير بعد عام 1967 عضواً في "المجلس والوطني الفلسطيني".

(إتمام الأعلام- نزار أباظة، محمد المالح ص314)

وقد يتساءل القارئ كيف انضم فؤاد نصار إن كان ضمن التيار الشيوعي إلى حركة الكيلاني النازية والمعادية للاتحاد السوفياتي؟ ربما لأنها كانت ضد الإنكليز!

ننتقل الآن من المؤرخ د.علي محافظة إلى الحديث عن شدة تدخل المفتي الحسيني في الشؤون السياسية الداخلية للعراق، وخلافه فيما بعد مع الكيلاني، يقول المؤرخ: "يجمع العراقيون من رجال السياسة والجيش الذين كانت له صلة بالحاج أمين الحسيني على الدور الفعال الذي لعبه مفتي فلسطين الأكبر في السياسة الداخلية العراقية، وعلى دوره في إقناع قادة الجيش العراقي بتأييد رشيد عالي الكيلاني، رئيس الديوان الملكي آنذاك، وترشيحه لرئاسة الوزارة".

كان المفتي كما هو معروف عنه شديد العداء للإنكليز لأسباب معروفة عنه كزعيم فلسطين وفي صراع دائم معهم، ويقول السياسي العراقي "طه الهاشمي" عن المفتي في مذكراته، إنه كان "يعتبر كل تفاهم مع الإنكليز خيانة للقضية العربية".

( د. محافظة ص 262).

وينقل المؤرخ عن ناجي شوكت في "سيرة وذكريات" رأيه في المفتي الحسيني فيقول شوكت: "لقد كنت وما أزال أكن للمفتي الحسيني كل ود واحترام، لأني كنت مطلعاً- أكثر من غيري- على آرائه السياسية، وكان كثيرا ما يسألني الرأي عما يجب عمله، وعما كنت أتوقعه في المستقبل من الأحداث، وكثيرا ما كنت أختلف وإياه في بعض الأمور، إذ كان ينظر إلى بعضها كعربي فلسطيني شرد الاستعمار شعبه، ومكن الصهيونية اللئيمة من اغتصاب أرضه، فهو- أي المفتي- يحاول أن يوجه السياسة العراقية من خلال نظرته هذه، وجعل مصالح العراق الوطنية في الدرجة الثانية".

(د. محافظة، ص 262)

وكان "توفيق السويدي" أحد ساسة المرحلة المعروفين، وكان خصماً لناجي شوكت وللمفتي معاً، ويقول منتقدا تصلب المفتي: "من حق سماحته، أي المفتي، كزعيم لفلسطين خاض المعارك في هذه السنين الطوال دفاعا عن بلاده ودفعا للشرور الصهيونية أن يتوسل بجميع الوسائل لتحقيق مآربه الوطنية، وحتى له أن يتفق مع الشيطان لا مع ألمانيا أو اليابان أو إيطاليا للدفاع عن بلاده، ولكن ليس له أن يورط العراق في محنة كانت تؤمن خيرا لفلسطين، ولا تدفع عن العراق الغائلة، لأن ضعف العراق ليس إلا ضعفاً في جبهة الدفاع عن فلسطين". (المصدر نفسه).

وسنرى في المقال القادم كيف كان المفتي، في اندفاعه وحماسه لدول المحور، مستسهلاً إمكانات الإنكليز، ومنخدعا بقوة الجيش الألماني.

back to top