هل تتحول أميركا إلى الفاشية؟

نشر في 23-01-2020
آخر تحديث 23-01-2020 | 00:00
لم يفت الأوان بعد لمعالجة مظالم الأميركيين وإعادة بناء مؤسسات البلاد، لكن هذا مستحيل في بيئة مستقطبة سياسيا، ولن تفضي الاتهامات بالفاشية إلا إلى جعل هذه البيئة أقل ترحيبا بخصوم ترامب.
 بروجيكت سنديكيت من الواضح أن القومية البيضاء آخذة في الصعود في الولايات المتحدة، فوفقا لرابطة مكافحة التشهير، خلال الفترة من بداية عام 2018 إلى نهاية عام 2019، شهدت الولايات المتحدة 6768 واقعة تطرف ومعاداة للسامية (أغلبها من اليمين)، وهذا الرقم أعلى كثيرا مقارنة بالسنوات السابقة، مما دفع عددا كبيرا من المراقبين إلى استنتاج مفاده أن الرئيس دونالد ترامب مسؤول عن ارتفاع مستويات التطرف المحلية في الولايات المتحدة.

منذ أن أطلق ترامب حملته الرئاسية في عام 2015 لم يتورع علنا وسرا عن تشجيع العنف من قِبَل أنصاره، فبعد أن قام جيمس أليكس فيلدز جونيور، المؤمن بتفوق أصحاب البشرة البيضاء، بالاندفاع بسيارته إلى حشد من المحتجين المضادين في شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، فقتل شخصا وأصاب العشرات، قال ترامب بلا خجل: "كلا الجانبين كان يضم أناسا رائعين للغاية"، ولم يتورع عن استخدام الخطاب العنصري في وصفه لدول إفريقية بل حتى أعضاء الكونغرس من غير ذوي البشرة البيضاء.

الواقع أن كلمات ترامب ليست بلا عواقب، فبالإضافة إلى قاتل شارلوتسفيل، قال العديد من القوميين البارزين من ذوي البشرة البيضاء الذين ارتكبوا أعمال عنف أو إرهاب داخلي إنهم استلهموا ذلك من الرئيس، ومن هؤلاء سيزار سايوك جونيور، الذي أرسل بالبريد رسائل متفجرة إلى ديمقراطيين بارزين، ومنهم الرئيس السابق باراك أوباما ومنافسة ترامب في انتخابات 2016 هيلاري كلينتون؛ وهناك أيضا روبرت باورز، الذي قتل 11 شخصا في معبد يهودي في بيتسبرغ؛ وباتريك كروسيوس الذي قتل بالرصاص 22 شخصا في إل باسو. يستنتج بحث جديد أجراه الخبيران الاقتصاديان كارستن مولر من جامعة برنستون وكارلو شوارتز من جامعة واريك وجود ارتباط سببي مباشر بين تغريدات ترامب المعادية للمسلمين وجرائم الكراهية ضد المسلمين.

بسبب ميل ترامب إلى إثارة العنف وتشويه الحقائق، استنتج كثيرون أنه فاشي، والحقيقة الأكثر شؤما هي أن ترامب يسعى إلى نزع الشرعية عن المؤسسات الديمقراطية والإجراءات البيروقراطية النزيهة غير المنحازة، ليس فقط للتغطية على معاملاته ومعاملات أسرته التجارية المشبوهة، بل أيضا كاستراتيجية لتعظيم قوته وسلطته. كان الفاشيون الإيطاليون والنازيون يستخدمون استراتيجيات مماثلة منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدا.

ولكن من الخطأ أن نبالغ في تقدير أوجه التشابه هذه، فبادئ ذي بدء، من غير الممكن أن نفهم الفاشية بين الحربين العالميتين في غياب العنصر المغاير، وهو في حالتنا الشيوعية، التي اعتبرها كثيرون من الألمان والإيطاليين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة تهديدا لوجودهم. لم يعد مثل هذا التهديد قائما اليوم، كان انتخاب أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة سببا لتعزيز مخاوف المتطرفين من وجود مؤامرة "لإحلال" سكان أميركا من ذوي البشرة البيضاء، لكن نظريات المؤامرة هذه لا يمكن مقارنتها بالتهديد الذي فرضته الشيوعية في العالم الحقيقي في أعقاب الثورة البلشفية في روسيا في عام 1917.

ثانيا، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان الشباب المصابون بالصدمة وخيبة الأمل الذين قَسَت قلوبهم بفِعل الحرب يشكلون نسبة كبيرة من السكان في العديد من البلدان، وفي حين أن العديد من قدامى المحاربين العائدين من العراق وأفغانستان (وبعضهم من أشد أنصار ترامب) عانوا من صدمات مماثلة، فإنهم لا يتمتعون بالعدد أو النفوذ السياسي الذي كان لنظرائهم في فترة ما بين الحربين.

ثالثا، على الرغم من خطابه ومحاولاته استدرار العون من دول أخرى في حملته لإعادة انتخابه، فإن ترامب لم يحاول بعد توطيد سلطته بوسائل غير انتخابية، وقد يتغير هذا إذا خسر أمام المنافس الديمقراطي في نوفمبر، ولكن حتى لو حدث هذا فسيكون بعيدا للغاية عن التقويض المنهجي للعمليات الديمقراطية الذي كان يمارسه الفاشيون في الماضي.

أخيرا، في حين أن الدعم غير المشروط من جانب الحزب الجمهوري لترامب يشبه على نحو مخيف سلوك الساسة من يمين الوسط الذين دعموا بينيتو موسوليني وأدولف هتلر، فلا يمكننا أن نتبين عنصرا فاشيا بشكل خاص يرتبط بالساسة من معدومي المبادئ الذين يتصرفون بلا شرف أو نزاهة.

وهذا أمر بالغ الأهمية، لأنه من المهم حقا أن نتبين ما إذا كان علينا أن نصف ترامب بالفاشي، أو نستخدم لوصفه تسمية أخرى، ومن المؤكد أن فترة رئاسة ثانية لترامب ستمثل أزمة وجودية للمؤسسات الأميركية، فالقوى التي أعاقت أجندته- وأكثرها أهمية المواطنون المحتشدون- ستزداد ضعفا في ظل المزيد من تطبيع حكمه، وسيستمر تقويض الاتفاقيات السياسية بشكل أكثر جذرية مما كانت عليه الحال خلال فترة ولاية ترامب الأولى. كما ستستمر بلا هوادة الجهود التي تبذلها الإدارة لإزالة الخبرات المحايدة من الجهاز البيروقراطي، وربما يصبح النظام السياسي بالكامل، بما في ذلك السلطة القضائية، مستقطبا على نحو لا يمكن إصلاحه.

لكن الاستقطاب الحزبي وتدمير أي أرض وسط للتسوية من الأسلحة الرئيسة في حرب ترامب ضد المؤسسات التي كان المقصود منها الإبقاء عليه تحت السيطرة. والواقع أن أولئك الذين يصفونه هو وأنصاره بالفاشية لا يعملون إلا على تعميق الانقسام، ونزع الشرعية عن المظالم (الحقيقة غالبا) التي يشكو منها الملايين من الأميركيين، وأغلبهم لا علاقة لهم بالقومية البيضاء أو التطرف.

الواقع أن الاستراتيجيات الأكثر تبشيرا في مقاومة ترامب وإلحاق الهزيمة به ليست كمثل تلك التي كانت لازمة لمحاربة الحركات الفاشية في القرن العشرين. فما أن تولى موسوليني وهتلر السلطة، لم تكن هناك أي وسيلة لإيقافهما من خلال العمل من داخل النظام. على النقيض من ذلك، تُـعَد صناديق الاقتراع الطريقة الأكثر فاعلية لمحاربة ترامب، كما اتضح من انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس في عام 2018، عندما ألحق الديمقراطيون هزيمة قاسية بالجمهوريين واستعادوا مجلس النواب.

السبيل الأفضل إلى الأمام إذا يتمثل في استراتيجية ذات شقين، فأولا، يتعين على الديمقراطيين (وكل الأطراف المهتمة الأخرى) أن يعكفوا على إيجاد طريقة أفضل للتواصل مع الملايين الذين صوتوا لصالح ترامب لأنهم شعروا بأنهم- وفي العديد من الحالات كانوا كذلك حقا- نُـبِذوا بالعراء اقتصاديا وهُـمِّشوا سياسيا. وأي حركة تدير ظهرها لهؤلاء الأميركيين لا تقلل من فرصها في الفوز بالسلطة السياسية فحسب، بل تعمل أيضا على تعميق الاستقطاب الذي سمح لترامب بالتصرف بلا ضابط أو رابط تقريبا، صحيح أن أغلب أنصار ترامب لن يتحولوا بسهولة إلى تأييد المرشح الديمقراطي في عام 2020، ولكن من الأهمية بمكان رغم ذلك أن يدرك المرشحون الديمقراطيون مخاوف هؤلاء الناخبين وأن يشرعوا في بناء الجسور إليهم.

ثانيا، يجب أن يكون فوز الديمقراطيين حاسما، وإلا فإن ترامب وأنصاره سيدّعون أن الانتخابات سرقت منهم، وعلى هذا فإن الاحتياج واضح إلى نصر ديمقراطي ساحق لإعطاء إشارة إلى عموم البلاد بأن أغلب الأميركيين يعارضون أجندة ترامب المدمرة، وعدم احترامه للمؤسسات السياسية الأميركية، وخطابه الاستقطابي.

لم يفت الأوان بعد لمعالجة مظالم الأميركيين وإعادة بناء مؤسسات البلاد، لكن هذا مستحيل في بيئة مستقطبة سياسيا، ولن تفضي الاتهامات بالفاشية إلا إلى جعل هذه البيئة أقل ترحيبا بخصوم ترامب.

*دارون عاصم أوغلو

* أستاذ علوم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤلف المشارك (مع جيمس روبنسون) لكتاب "الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية".

منذ أن أطلق ترامب حملته الرئاسية في عام 2015 لم يتورع علنا وسرا عن تشجيع العنف من قِبَل أنصاره
back to top