فيصل الأحمر: أكتب نصي بطريقة أوركسترا لغوية جمالية

كتب رواية «حالة حب» 3 مرات بحثاً عن اللغة المناسبة للموضوع

نشر في 05-01-2020
آخر تحديث 05-01-2020 | 00:03
يهتم الكاتب الجزائري فيصل الأحمر بجماليات اللغة، حتى إنه كتب روايته «حالة حب» ثلاث مرات، بحثاً عن اللغة المناسبة للموضوع، مع بناء يذكر بـ«ألف ليلة وليلة» في طريقة التوالد السردي.
وفي حوار أجرته معه «الجريدة»، قال الأحمر، الذي يتنوَّع إنتاجه بين الرواية والشعر والنقد والترجمة، إنه لا يشعر أيضاً بعبور أجناسه، لافتاً إلى أنه يكتب نصه بطريقة أوركسترا لغوية جمالية... وفيما يلي نص الحوار:
• يتنوع نشاطك بين النقد والرواية والشعر والترجمة والتدريس الأكاديمي... كيف أسهم هذا التنوع في إثراء تجربتك؟

أمارس هذه الأنماط الكتابية منذ زمن بعيد، بحيث ذاب عندي تماماً الشعور بأنني أقوم بعبور أجناسي حينما أترك نصاً شعرياً لفائدة دراسة أو مقال فلسفي أو لفائدة نص روائي أكون بصدد كتابته، مع ملاحظة أنني أقضي وقتاً مديداً في كتابة أي رواية، والحاصل عندي هو إيماني بعمق أن الأجناس الأدبية ليست سوى حيل سطحية لا تلمس جوهر المعنى أبداً. طرائق في القول تبدأ كعادات فردية، ثم نتعود عليها، لكي تتحول العادة القولية إلى تقاليد راسخة يصعب التفكير في المعنى بعيداً عنها.

كان هاديغير يقول إن هناك فجراً للمعاني كان قبل سقراط مع متحدثين مبكرين، مثل بارميندياس الذي لا نعلمُ على وجه الدقة إن كان شاعراً أم فيلسوفاً، لأنه أصلاً كان يتعاطى الكلمات والمعاني بطريقة خالية من التفكير في الأجناس. وذلك هو الموقع الذي أشعر بنجاعته وأنا في أفكر في الكتابة.

• "حالة حب" رواية تتحدث عن الحب فلسفياً، ما دافعك الرئيس لإبداع هذا العمل؟ ثم إنك تحدثت في بعض ندواتك عن غياب قصص الحب الكبيرة في عالمنا... برأيك ما سبب ذلك؟

سأبدأ من النهاية، فمن الموضوعات التي تستوقفني دوماً الجوع الجنسي الذي يعانيه العرب والمشارقة عموماً. ظاهرة يزيد مقدار غرابتها إذا ما تأملنا التاريخ المنتعش جنسياً للثقافة العربية والإسلامية لاحقاً. من أين أتانا هذا الخلل يا ترى؟ كيف تحولنا إلى هذه الحال، بعدما كنا مجتمعاً يتعاطى بحُرية وأريحية الموضوعات الجنسية وموضوع الحب وحتى المشاهد الحسية التي هي وجه آخر من وجوه ما يمكنني أن أسميه بالبعد الديمقراطي للفعل "أحب"؟

في مقاربتي أن الاستعمار ومفهوم الحياء في بعده الرهباني الذي جاءنا من إحدى الصيغ المسيحية التي ارتبط بها الاستعمار هو الذي زرع فينا فروس الانكماش الجنسي الذي أصاب تصريف الفعل "أحب"، فأصبح الحب الذي هو قيمة إيجابية دار حولها – ولا يزال يفعل – كل التراث الشعري العربي، بما فيه تراث المديح النبوي الشريف، الذي يفترض ألا يكون مناسبة مقبلة للحديث المغرق عن الحب.

لاحظ أن الافتتاحيات الشعرية الشهيرة كانت ترتكز على ثلاثة أركان أساسية في الحياة، لأن البدايات عناوين العقل والفهم أي مرتكزات المعنى الأمهات. كان المدَّاحون يصفون الأطلال (وهي ميدان تهييج الذاكرة والتاريخ واستذكار ثنائية الموت والحياة) ويقولون أبياتاً من الحكمة (وهي خلاصات عقلية ذات طابع بيداغوجي عميق)، أو يبدؤون بمعاني الحب والتغزل، ما يدل على أن الحب كالتاريخ والذاكرة، وكالحكمة قائمة من قوائم الحياة.

في روايتي "حالة حب" حاولت التأمل فلسفياً في الحب بمعزل عن الضوابط التقليدية لهذا الموضوع ولإكراهاته، وهدفي كان الابتعاد عن التسجيلية، وعن المنبرية الفجة التي تريد أن ترافع لفائدة متهم ما اسمه الحب. أردت فحص تقلبات قلب ما وطريقته في تعاطي الأسئلة والتناقضات والرغبات والمشاعر المتداخلة لهذا الشعور الذي يبدو أننا نعرفه كثيراً إلى درجة أننا صرنا لا نعرفه تماما!

• يبدو انشغالك باللغة كبيراً، هل تُعنى بذلك الشق أكثر من تقنية الكتابة؟ أم أن كلتيهما (اللغة والتقنية) تسير في خط متوازٍ؟

في "حالة حب" خضت مغامرة كتابية خاصة (والرواية عندي ليست حكاية أرويها أبداً، فهي دائماً قصة التفكير بموضوع فيه مقاربات كثيرة، منها ما هو عمومي، ومنها ما هو خاص متفرد ناشز عن التجارب المتداولة، وأنا دوماً أحاول جعل كل ذلك متجاوراً في النص بطريقة أوركسترا لغوية جمالية، وربما يكون هذا هو ملمحي الكتابي الأساسي). الرواية جنس أدبي راقٍ ببنية شديدة التعقيد، وبتشكيل متلاحم يهدف إلى تجربة في المعنى مادته الأولى اللغة، والثانية الخيال، الذي مرجعه الواقع والتجارب المعيشية. وبالنسبة إلى روايتي، فقد كتبتها ثلاث مرات، بحثاً عن اللغة المناسبة للموضوع، مع بناء يذكر بـ"ألف ليلة وليلة" في طريقة التوالد السردي.

• ما المواصفات التي يجب توافرها في أديب الخيال العلمي؟ ثم لماذا لا يشهد هذا الأدب رواجاً في عالمنا العربي مقارنة بالغرب؟

أدب الخيال العلمي نظريٌ ذو تبعات فلسفية، أي أنه ذو أبعاد سياسية بالضرورة، فالخيال العلمي يحاول رسم معالم للحياة في المستقبل. هو أدب الأقوياء أو الذين يستعدون لمنزلة الأقوياء الذين يكتبون التاريخ.

أما الأنظمة السياسية العربية، فهي تحاول دوما دفع عجلة الحياة صوب المحافظة على معلّمات الحياة الحالية كما هي. أنظمة تنظر إلى الإنسان العربي كفرد مسلوب الإرادة، ولا تحبذ فكرة التفكير النظري في إمكانيات أخرى للحياة، وهي فكرة تحاربها بعض الأنظمة القائمة دينياً بخلفية الكفر والزندقة العقلية، لهذا يتطور عندنا الأدب الرومانسي كثيراً، فهو أدب الإنسان المغلوب على أمره، مسلوب الإرادة.

أما السبب الذي يكرره كثيراً المعلقون ومؤرخو الأدب، فهو فقر الحياة اليومية إلى الجانب العلمي، فلا يمكن لحياة فارغة من العلم والتكنولوجيا أن تطور أدباً خيالياً علمياً. وهو كلام صحيح أيضاً، وإن كنت شخصياً أعترض عليه من باب كون المعطى التكنولوجي يغزو كوكب الأرض جميعه، فجل المدن العالمية ذكية، تسير عن طريق الذكاء الاصطناعي، والبرمجيات جزء فاعل من حياتنا، وهذا ما يعززه العدد المتزايد من كتاب وكتب الخيال العلمي الذين يظهرون باستمرار.

• بعد رحيل رائد أدب الخيال العلمي في العالم العربي نهاد شريف، ألا ترى ضرورة إنعاش هذا اللون الأدبي المهم؟

أعتقد أنه من المهم جداً في إطارنا هذا ما نلاحظه من تحول الخيال العلمي من أدب هامشي أو أدب للناشئة إلى أدب رسمي يعتلي أعلى المراتب، كما هي حال الروايتين الفائزتين بالبوكر، أكبر جائزة روائية في الوطن العربي: "فرانكنشتاين في بغداد" لأحمد السعداوي، و"حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصرالله. وكل هذا يبشر بأن الأمور بصدد التغير جذرياً على أيدي جيل تربى على الألفة مع الأمور التكنولوجية.

الأدب الرومانسي يتطور عربياً لأنه أدب الإنسان المسلوب الإرادة

أدب الخيال العلمي نظري ذو تبعات فلسفية
back to top