ناجي العلي... والكويت

محمد الصقر ذهب إليه في مخيم عين الحلوة عام 1983 وجاء به إلى «القبس»

نشر في 20-12-2019
آخر تحديث 20-12-2019 | 00:04
حين أُخرِج وعائلته من فلسطين، ولم يكن يتجاوز الثانية عشرة من عمره سنة 1947، كان في حالة ضياع وغير قادر على تحديد مصيره، مُسحت قرية "الشجرة" المولود فيها عام 1937 عن بكرة أبيها، بقيت في ذاكرته صورة البيوت والأشجار والحجارة، يقال إنها سميت

بـ "الشجرة" لأن المسيح كان يتظلل بفيء شجرة تقع في الطريق هناك.

تعرّض للتهجير من بلدة تشبه قرى فلسطين، تضرب جذورها في الأرض، فيها المسلم والمسيحي واليهودي، تطل على واد بُنيت فيه مستوطنة زرعت بمهاجرين رحلوا إليها من أوروبا.

ابن فلاح ارتبط بالأرض، نزح باتجاه مدينة "بنت جبيل"، وهناك تعرّف والده إلى "إسكافي فقير" كانا يلتقيان من قبل، استضافه مدة شهرين.

كان الرسم الأول له، خيمة على شكل هرم، وفي قمة الخيمة بركان ترتفع منه يدٌ مصممة على التحرير، وبالنسبة إليه كانت الخيمة ترمز إلى جبل، وبداخلها غليان، كان مؤمنا أن هذه الإرادة والغليان في المخيم لا بدّ أن ينفجرا باتجاه الخارج.

الحاج ياسين ياسين، ابن شقيقته، يروي كيف يدافع عن أهله ووطنه "حين كان طفلاً، كان القائد باسم الدرك والمكتب الثاني، اسمه أبو مرعي، بمنزلة الحاكم الذي يعاقب ويسجن، أول قدومه، جمع أبو مرعي الناس في المدرسة، أطفالا وكبارا وشيوخا، وأخذ يهيننا في استعراض لسلطته، أنتم الفلسطينيون كذا وكذا.

الوحيد الذي تصدّى له كان ناجي، وقف الطفل النحيل، وقال له: "أنت لا يحق لك أن تهيننا"، فردّ عليه بألفاظ مشينة!

يكمل الحاج ياسين روايته: "في هذا المخيم التقى غسان كنفاني، ناجي، وأعجب برسومه، حمل ثلاثة منها، ونشرها لاحقا في مجلة الحرية عام 1961 دون أن يُعلمه، أما أول رسم له فكان على جدران منزل جدي، رسم بالفحم صورة رجل يحمل رأسه في يده".

حملت لوحات ناجي العلي الأولى، وكما ظهرت في "الحرية" عنوان "ينتظر أن تأتي"، جاء فيها "أن الحدة التي تتسم بها خطوطه، وقساوة اللون الراعبة والانصباب في موضوع معيِّن على ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف".

في المخيم تشكّل وعيه السياسي، كان يمشي في أزقته وينشد:

يا ظلام السجن خيِّم.. إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الموت إلا.. فجر مجد يتسامى

في تلك الأثناء قرر أن يتعلم الرسم أكاديمياً، فالتحق بالأكاديمية اللبنانية، لكنه لم يستطع إكمال دراسته فيها، ولم يكن ملتزما بالحضور نتيجة الملاحقات التي تعرض لها، ثم انتقل لتدريس مادة الرسم في الكلية الجعفرية بمدينة "صور" الجنوبية، وبقي هناك سنتين.

نزل إلى بيروت، وعمل في ورش للميكانيكا والكهرباء، وكان عمره نحو 16 عاما، كان عليه أن ينصب خيمة وزعتها عليه وكالة غوث اللاجئين، احتفظ بها ليقوم بنصبها في "مخيم شاتيلا"، وفي عام 1957 ذهب إلى مدينة جدة ليقضي فيها نحو سنتين، ويعمل في مجال الميكانيكا، وفي تلك الأثناء كان يمارس الرسم وقت فراغه.

وفي عام 1962 قرر المجيء إلى الكويت، حيث الرزق الذي لم يجده في عمان، وحيث الحرية التي لم يجدها هناك أيضا، كان هدفه أن يشتغل هنا لفترة قصيرة يجمع بعض المال ويعود ليدرس الفن الذي يطمح إليه في إيطاليا أو القاهرة.

التحق بمجلة "الطليعة" ليعمل فيها رساما ومخرجا فنيا، وكان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد يوسف النفيسي، المنتمي لحركة القوميين العرب، وكانت "مجموعة الطليعة" و"النادي القومي الثقافي"، بقيادة د. أحمد الخطيب، الذي كان أول طبيب كويتي تخرج في الجامعة الأميركية ببيروت عام 1953، يُعدان جناحاً خليجياً لـ"حركة القوميين العرب"، كما يذكر شاكر النابلسي في كتابه "أكله الذئب".

كما كانت "مجموعة الطليعة" هي التي أسست هذه المجلة لتنطق باسم حركة القوميين العرب، وتنادي بمبادئها في الحرية والوحدة، خاصة بعد أن أصبح للقوميين العرب نواب في مجلس الأمة كأحمد الخطيب وسامي المنيس وجاسم القطامي وعبدالله النيباري، وثمانية آخرين محسوبين عليهم.

في اليوم التالي لوصوله، ذهب الى مبنى مجلة "الطليعة" في عمارة الصفاة، شارع فهد السالم بمدينة الكويت، طبقا للعنوان الذي أعطاه إياه غسان كنفاني، مع جواب تعريف وتوصية لرئيس التحرير أحمد يوسف النفيسي، وكان الجو حارا جدا ورطبا خانقا، لكن العلي عرف هذا الجو واعتاد عليه خلال إقامته السابقة في السعودية، حيث رسم فيها لكنه لم ينشر، فكان يشتغل في النهار بالميكانيكا، ويجلس آخر الليل يرسم كل ما يشاهده ويختزنه في الذاكرة.

عن تلك المرحلة يكشف سليمان الشيخ، العلاقة المتجددة مع غسان كنفاني من خلال الرواية التي كتبها عام 1961 بعنوان "العبيد"، ونشرت في "الطليعة"، ففي بدايات عمله بالمجلة عام 1963 عرض عليه نص الرواية كي يرسم مع فصولها وأجزائها، وفعلا قام بالمهمة ورسم مع كل نص ما يناسبها اعتبارا من 22/5/1963، واستمر حتى 11/9/1963، وسبق لغسان كنفاني أن عمل في مدارس الكويت وصحافتها منذ عام 1955.

وتميزت لوحات ناجي، التي رسمها لرواية "العبيد"، بالطابع التجريدي الرمزي، وراعى فيها بعض الأصول الفنية من ناحية، وضبط الكتل وتوزيع الظلال وتوازن الأبيض والأسود، ويمكن إعادة هذا الأمر إلى حداثة التجربة الفنية التي كان ناجي مر بها، كدراسته للفن في الأكاديمية اللبنانية للرسم عام 1960، ومن تجربة تدريس مادة الرسم نفسها في الكلية الجعفرية بمدينة صور اللبنانية منذ عام 1961 حتى 1963.

مهمة رسام الكاريكاتير تختلف عن الآخرين، عن كل شخص يعمل ريبورتاج، عن أي شخص آخر، ليست مهمتي الأشياء المضيئة في المجتمع، بل أن أرى الثغرات، والعيوب وإلى أين يوصلنا هذا الطريق؟ هذا الرصد أحس أنه من أنواع كشف الألغام، مهمة صعبة نتائجها غالبا ما تسقط على الرسام، ومزعجة للحياة اليومية والإنسانية، وأريد أن أقتطع هذا الجانب وأقول إن ما دفعني أكثر إلى الكاريكاتير هو أنني في تلك المرحلة كنت أرى أنه يلبي حاجتي وحاجة الناس أجمعين، وكلنا نعرف أن أول ما ترعرع الكاريكاتير كان في مصر، وبعد ذلك في لبنان، وكان الرسامون في تلك اللحظة يدغدغون عواطف الناس، فمثلا يهاجم رسام الكاريكاتير شخصا مثل شمعون، ما كانت توجد روح نقدية بقدر ما هي دغدغة في الصباح عندما يستقبل الكاريكاتير الخاص به يكون سعيداً لأن رسام الكاريكاتير رسمه وهو يشرب القهوة، وقد انتبهت إلى هذا جيداً. في مصر كانوا يعملون مقدمة للكاريكاتير وبهذا كانوا يستغفلون القارئ، وهذا عدم احترام له، إنك تعمل له كل هذه الهوامش والشرح وتلقمه الفكرة.

أنا أحيانا أحس بأنه لا ترسم فكرة جميلة كاملة الأوصاف والبناء الفني حتى تصل إلى نخبة من الناس ليستمتعوا بها، أريد أن أقول للناس إلى أين وصلت قضيتنا؟ وأريد أن أرسم لهم وأوصل لهم هذه الرسالة، منذ عشرين سنة وأنا أرسم على الأفكار نفسها: الحرية والوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين... وأتناول المواضيع وأشرحها بطريقة تفصيلية، ولأني مؤمن بهذه الأفكار، ومؤمن بفلسطين... فلسطين ليست فقط غزة والضفة الغربية أيضا ليست فقط رفح والناقورة.

عام 1967 جرت انتخابات نيابية في الكويت، وكانت نتائجها مثار حملة من طرف المعارضة قادتها مجلة "الطليعة"، والتي وجهت انتقاداتها إلى الحكومة، ساءت أحوال المجلة ماديا، وتعرضت للمنع والمصادرة أكثر من مرة، وتوقفت عن القراء إلى أن تقرر إغلاقها مؤقتا، وهو ما أدى إلى توقف ناجي العلي عن الرسم والعمل والحصول على مورد عيش كريم.

شاءت الظروف أن يلتحق بجريدة "السياسة" لصاحبها الأستاذ أحمد الجارالله، الذي تعرف على ناجي وعرض عليه العمل كرسام متفرغ.

في "السياسة" أبدع شخصية "حنظلة" فالولادة تمت هنا، يقول عن رفيقه الدائم "حملت بحنظلة" في الكويت وولدته هناك، خفت أن أتوه، أن تجرفني الأمواج بعيداً من مربط فرسي فلسطين، وولد "حنظلة" أيقونة تحفظ روحي، وتحفظني من الانزلاق، "حنظلة" وفي لفلسطين، وهو لن يسمح لي بأن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق عن جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع.

وعندما اكتشف "حنظلة" كتب رسالة إلى جانب صورته في "السياسة" موقعة منه مع صورته وهو يدير وجهه للقراء، بغير عادته، وأثار التوقيع المصاحب للكاريكاتير جدلا وآراء مختلفة، كان له فيها وجهة نظر شرحها كالتالي:

عندما أتيت إلى دول الخليج، وبالذات الكويت، التقيت أصدقاء كنت سجينا معهم، واتضح لي أنهم بدأوا يفقدون عقولهم، ولذلك بدأت أخاف على نفسي، وبالفعل هذه المعاناة جعلتني "أحمل" وبالتالي ألد هذا الطفل وأقدمه للقراء وأعلنه... وبدأت أقدمه، في المرة الأولى على أنه "حنظلة"، طفل من "عين الحلوة"، ووعدت الجماهير بأن أظل محافظا على روحه، وهو نوع من المخاطبة الذاتية للقراء، وعندما رسمته بهذه الطريقة والشعر مثل القنفذ، لأن القنفذ يعتبر شعره سلاحا أمام خصومه، وحاولت ألا أرسمه طفلا جميلا، بل رسمته طفلا حافيا، وكان أيقونة بالفعل بالنسبة لي تحفظني، هذا الطفل سلبي وعلامة لا أستطيع أن أشرحها، علامة من علامات الرفض، وذلك عندما تقوم الدول بالمساعدات، وهذا تشبيه بالطفل عندما يرفض شيئا يقدمه له أبوه أو أي شخص، ويضع يديه وراء ظهره دون أن يتكلم، وهذه الحركة شكلتها فنيا بعد حرب أكتوبر، شعرت بها، الطفل أصبح ضميرا قوميا يقف بأفق إنساني هو ليس فقط ابن "عين الحلوة" بل هو ابن النيل وابن الخليج.

نص كتبه ناجي العلي في التعريف عن "حنظلة":

عزيزي القارئ اسمح لي أن أقدم لك نفسي... أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا...

اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي... اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة...

نمرة رجلي: ما بعرف لأني دايما حافي.

تاريخ الولادة: ولدت في 5 حزيران 67.

جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا... إلخ، باختصار معيش هوية ولا ناوي أتجنس...

محسوبك إنسان عربي وبس...

التقيت بالصدفة بالرسام ناجي... كاره فنه لأنه مش عارف يرسم... وشرحلي السبب... وكيف كل ما رسم عن بلد السفارة بحتج... الإرشاد الأنباء (الرقابة) بتنذر...

قالي الناس كلها أوادم... صاروا ملايكة... وآل ما في أحسن من هيك... وبهالحالة... بدي أرسم بدي أعيش... وناوي يشوف شغله غير هالشغلة...

قلتله أنت شخص جبان وبتهرب من المعركة... وقسيت عليه بالكلام، وبعدما طيبت خاطرو.. وعرفتو على نفسي وإني إنسان عربي واعي بعرف كل اللغات وبحكي كل اللهجات، معاشر كل الناس، المليح والعاطل والآدمي والأزعر... كل الأنواع... اللي بيشتغلوا مزبوط واللي هيك وهيك... وقلتله إني مستعد أرسم عنه الكاريكاتير كل يوم وفهمته إني ما بخاف من حدا غير من الله واللي بدو يزعل يروح يبلط البحر... وقلتلوا عن إللي بيفكروا بالكنديشن والسيارة وشو يطبخوا أكتر من ما بيفكروا بفلسطين...

ويا عزيزي القارئ أنا آسف لأني طولت عليك... وما تظن إني قلتلك هالشي عشان أعبي هالمساحة.. وإني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن صديقي الرسام أشكرك على طول..وبس.

(حنظلة)

تغير التوقيع المصاحب للكاريكاتير منذ الخطوة الأولى، كان الرسم بلا توقيع ثم اختار توقيع "ناجي"، بعدها وجد ضالته برموز أخرى، منها الفداء والافتداء والصلب مع التوقيع باسمه أو من دونه، ووضع الصليب ضمن دائرة أو في مستطيل غير متساوي الأضلاع، رافقته فكرة الصليب، ليستبدل الاسم بالرمز، لتحمل أعماله في "الحرية" وصحيفة "اليوم" اللبنانيتين، ذاك كالمغزى، ليأتي "حنظلة" عام 1968 ببيان مكتوب نشره في "السياسة".

كان يفتش عن نفسه وعن حالة جديدة، بخلاف الرسامين الذين يحشرون أنفسهم داخل اللوحة، ولأنه يحب الناس خلق هذا الطفل الذي هو في أعماقه ناجي نفسه، وبهذا الشكل "الحنظلي"، ليقدمه للقراء أو كنوع من العهد بأنه سيظل ابن عين الحلوة، دون أن يفلح أي مجتمع استهلاكي في التأثير عليه، لأنه سيظل وفياً ومنتمياً لفلسطين، كانت رؤية الطفل مقززة للنفس في المرة الأولى، ولا توجد امرأة تتمنى أن تحمل به، لكن بعد ذلك استوعب حنظلة واجبه، لأنه كما يقول "دافئ، حنون، صادق، وصعلوك".

حنظلة بمثابة شهادة ميلاد، نوع من الإعلان بأنه سيبقى مخلصاً لطبقته ومخيمه، هذا الصبي تطور من الداخل في وعيه والتزامه، وأصبح ذا هوية قومية وأخيراً بات يملك الهوية الإنسانية، أما لماذا هو سلبي؟ فيجيب: "هذه الحركة إشارة إلى أنه بريء، وغير مشارك في اللعبة القذرة التي تمارس في المنطقة".

بعد ولادته كان كثير الحركة، عفوياً وصادقاً، كان في الخندق مع المقاتلين يغني الزجل، يصرخ، يؤذن، يهمس ويبشر بالثورة.

عام 1974، حين صدرت جريدة "السفير" في بيروت، اتصل به صاحب الجريدة، ورئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان، طالباً منه العودة إلى لبنان، وشعر أن في الأمر خلاصاً، عاد لكنه تألم وتوجعت نفسه لما رآه، شعر أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية من قبل الثورة، تتوفر له رؤية سياسية واضحة يعرف هدفه...

كان مبشراً بالثورة، يراها "ثورة قومية لا فلسطينية، حتى ثورة 1936، كان لها هذا الطابع الفلسطيني المحض، لذلك لم تنجح في أن تكون نموذجي الذي يجب أن أحتذيه"، كما يشرح ذلك بنفسه.

وجوده في لبنان ومعايشته لحربها الأهلية، اتخذ منها موقفاً سياسيا فورياً، دانها وحاكمها وبالتالي رفضها، شعر أنها حرب بلا عدالة "جُيرَت" وحفر لها أكثر من مسلك حتى أنها اتخذت طابعا طائفيا.

شعر بعجزه في التعبير عن الحرب بسبب بشاعتها، لكنها جعلته أكثر إنسانية وأكثر إيماناً بقضيته وأكثر تعلقاً بلبنان.

بعد غزو بيروت من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ألحت عليه فكرة حلم السلاح، علماً أنه لم يطلق رصاصة واحدة، لأنه لم يتصور يوما أن يكون قادرا على القتل،"كنت ألتقي محمود درويش أثناء حصار بيروت، شدَّ على يدي مشجعاً، كان مرتاحاً إلى لغتي في الرسم، خصوصاً حين أرسم الزهرة في مواجهة القذيفة".

في فنه، لديه حنين دائم إلى الأرض وأثناء مغادرة الثورة الفلسطينية بيروت رسم الموجة التي حملت الأزهار، وقذفت بها على قدم بيروت المجروحة.

رموزه صارت واضحة، من خلال أعماله في "السفير"، وبعدها في "القبس"، فالشخص المتكرش رمز للأنظمة والإنسان الفقير والمرأة الفقيرة والطفل هم رموز للبشر، ليس من أشخاص، بل رموز يحركهم وهم لا يتغيرون،الذي يتغير هو العالم من حولهم.

بقي في "القبس" مدة ثلاثة أعوام (1985 – 1987) استمر في نقده للأنظمة العربية ولقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ اليوم الأول لعمله هنا، أدرك الأستاذ محمد جاسم الصقر أن رسوماته بمثابة "قنبلة" يحملها بين يديه أينما رحل..

كثيرة هي الرسومات التي نشرت له تنتقد وبمرارة وقسوة ياسر عرفات والذي اشتكى بدوره على "القبس" لدى الحكومة الكويتية التي كانت تصغي لطلباته، كما يروي الأستاذ محمد الصقر نفسه، ويكاد يجزم أن إبعاده من الكويت كان بتحريض شخصي ومباشر من عرفات، والذي ضاق صدره ذرعاً بالرسومات.

عام 1987 صنع ناجي بريشته أخطر رسمين كاريكاتيريين يمسان أبوعمار و كانت لهما تبعات كارثية، الأول بتاريخ 3 يونيو 1987، عبارة عن حوار يجري بين "حنظلة" ومن يمثل السلطة، صاحبة الوجاهة والكرش، يسأله... بتعرف رشيدة مهران، أجابه.. لا سامع فيها.. لأ.. ما بتبرف رشيدة مهران ولا سامع فيها؟ كيف صرت عضو بالأمانة العامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين... لكان مين يللي داعمك بها المنظمة يا أخو الشليته.

أما الكاريكاتير الثاني فكان حول دعوة الشاعر محمود درويش إلى لقاء للشعراء والأدباء الإسرائيليين والفلسطينيين.

علاقة خاصة مع لبنان

علاقته بلبنان، علاقة أهل وأصدقاء وبيت، فيه جزء كبير من تاريخه وحياته، وحين يكون خارجه، ينتابه شعور بالغربة والشوق، زاد حبه له بعد الحرب، بات يراه شبيها بفلسطين، هذا الشعور عنده نحو لبنان يجرحه أن يسمع بغربته عنه "كأن هذا يضع حدا قاطعا بين الحب وعدم صلاحيتي له، أو كأنني أسرق شعوراً بالشوق لا حق لي فيه".

خرجت الثورة الفلسطينية المسلحة من بيروت عام 1983، ومعها أبو عمار والقيادات السياسية مبحرة باتجاه تونس، ليأتي العرض له من رجل لم يعرفه سابقا هو الأستاذ محمد جاسم الصقر، والذي قصده في مخيم عين الحلوة بصيداً، عارضا عليه العمل في الكويت وفي صحيفة "القبس".

يومها، قال: "أنا لن أغادر بيروت، ولم أغادر فلسطين، وعندما أذهب إلى الكويت فإنني.. وبلغة العسكريين أتراجع إلى خط دفاع ثان"... فما زال في الكويت هامش للصحافة"، وكان لديه شعور بضرورة وجوده هناك، وسيبقى وفياً لبيروت وللشعب اللبناني، ولفقراء هذا البلد.

في بيروت رسم الحمامة كرمز، كما رسم الفراشة والزهرة، كان قاسيا على الحمامة لأنها ترمز للسلام... رآها كغراب البين والحائم فوق الرؤوس، "والعالم الذي أحب السلام وغصن الزيتون، هو نفسه الذي تجاهل حقنا في فلسطين، لقد كان ضمير العالم ميتاً والسلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا، والذي أوصلني إلى قناعة بعدم شعوري ببراءة الحمامة".

دعوة إلى الاختفاء

رسومات عمقت الخلاف بين ناجي و"القبس" من جهة، وبين القيادة الفلسطينية من جهة أخرى، ووصلت تهديدات لناجي، كان على الطرف الآخر بالمفاوضات أبوإياد والذي تربطه علاقة صداقة مع محمد الصقر، ويتعاطف مع ناجي العلي، حصلت محاولات للتوسط بين أبوعمار وناجي على أرض الكويت، لكنها لم تنجح، قررت السلطات الكويتية إبعاده في شهر أغسطس 1986. جاءه محمد الصقر ليعرض عليه خيارات الارتحال وأي من البلدان يرغب في الذهاب إليها. وبسط أمامه خريطة العالم العربي، وراح يعدد الدول ويتنقل بينها، إلى أن استقر على مدينة لندن كمكان آمن، هناك طاردته التهديدات ونصائح من مسؤولين فلسطينيين تدعوه إلى الاختفاء فترة حتى تنقضي ثورة الغضب من قبل أبوعمار!

تسارعت الأحداث، وبقي ناجي يرسم في "القبس الدولي"، التي كانت تصدر في لندن، ولم يتوقف عن البوح بكل ما يعتريه من فوران، وما تتعرض له الثورة الفلسطينية من انحرافات.

وفي يوم الثاني والعشرين من يوليو 1987 أطلقت عليه رصاصات الغدر وأصابت جسمه النحيل، وهو متوجه إلى مكتب "القبس" الدولي، بقي ناجي يصارع الموت في المستشفى، وبعد 38 يوماً، أي في التاسع والعشرين من أغسطس 1987، دخل عالم الشهداء لينتقل إلى بارئه ويدفن في المقبرة الإسلامية هناك.

* هذا التقرير جزء من بحث شامل أُعد خصوصاً لمؤتمر الفكر العربي "17"، ونُشر في التقرير السنوي 2019، تحت عنوان "فلسطين... مرايا الإبداع والفكر والثقافة". والموضوع يختص فقط بتاريخ العلاقة بين ناجي العلي و"القبس" عندما كان الأستاذ محمد جاسم الصقر رئيسا لتحريرها وبين الصحافة الكويتية.

الصقر: إبعاد ناجي من الكويت تم بتحريض من عرفات

أدرك الصقر أن رسوماته بمنزلة قنبلة يحملها بين يديه

وضع أمامه خريطة للعالم العربي وترك له حريّة الاختيار

اغتيل أمام «القبس الدولي» في لندن وفي يده رسمه الكاريكاتيري

الصقر وناجي واجها القيادة الفلسطينية بعد رسمَي رشيدة مهران ومحمود درويش

عمل في «الطليعة» رساماً ومخرجاً فنياً

ولادة «حنظلة» تمت في الكويت وفي صحيفة السياسة بعد النكسة
back to top