إعادة اكتشاف إمكانات إيران

نشر في 15-12-2019
آخر تحديث 15-12-2019 | 00:30
 بروجيكت سنديكيت قبل ما يقرب من الألف عام، ولِد في مدينة نيسابور، في إيران الزمن الحاضر، واحد من أكثر الفرس شهرة في التاريخ: عمر الخيام. في الغرب، يُعرَف الخيام في الأساس بأنه شاعر، وذلك بسبب ترجمة أهم أعماله إلى اللغة الإنكليزية في القرن التاسع عشر، ولكن في زمنه، صاغ سمعته في الأغلب في الرياضيات وعلم الفلك، ومن المعتقد في حقيقة الأمر أن التعبير عن القيمة المجهولة في المعادلة بعلامة (x) كان مستمداً من الخيام، فقد أشار إلى القيمة المجهولة على أنها «شيء» (من اللغة العربية)، وهو المصطلح الذي نُقِل إلى اللغة الإسبانية القديمة ليصبح (xay)، والتي منها نشأ الرمز المستخدم عالميا الآن (x).

ويدين الجنس البشري بخطوات لا حصر لها إلى الأمام لمفكرين فُرس، ميزوا أنفسهم لقرون من الزمن بتطورهم العلمي غير العادي، واليوم تحتل إيران المرتبة الخامسة على مستوى العالم من حيث عدد الخريجين الجدد في أفرع العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، بعد الصين والهند والولايات المتحدة وروسيا، وفي هذا الصدد تتفوق إيران بدرجة كبيرة على قوى تكنولوجية كبرى مثل اليابان، حيث عدد السكان، علاوة على ذلك، أكبر بنحو 50%.

غير أن التقدم العلمي قد يكون رغم ذلك سيفا ذا حدين. كان هذا صادقا على سبيل المثال فيما يتصل بالبرنامج النووي السري الإيراني، الذي ظهر إلى العلن في عام 2002، ورغم أن قادة إيران أصروا على أن أهداف البرنامج سلمية ومتوافقة تماماً مع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، فإن ردة فعل المجتمع الدولي كانت حذرة، وعلى هذا فقد كُـلِّفت بصفتي الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي بمهمة التوصل إلى تفاهم دبلوماسي مع إيران، التي كان المفاوض الأول عنها حسن روحاني، مستشار الأمن القومي آنذاك.

وبعد العديد من الصعوبات والتقلبات، اكتملت الدائرة أخيراً في عام 2015، عندما توصلت القوى العالمية الرئيسة وإيران- حيث أصبح روحاني رئيساً للبلاد- إلى اتفاق نووي تاريخي حقاً، والذي عُرِف بمسمى «خطة العمل الشاملة المشتركة».

إن الدبلوماسية ليست مهمة هينة على الإطلاق، ولا توجد طرق مختصرة يسلكها أولئك الذين يمارسونها، وكان روحاني مفاوضاً عنيداً حقاً، كما كنت أتوقع، لكني كنت دوماً أقدر له نهجه الصريح المتقبل لرأي الطرف الآخر، ففي عام 2013، بعد أن تركت العمل السياسي النشيط، كان روحاني لطيفاً بالقدر الكافي لتوجيه الدعوة إليّ لحضور تنصيبه الأول كرئيس، وبعد أن شرح لي خططه بالتفصيل خلال زيارتي، لم يتبق لديّ أدنى شك في أن رئيس إيران الجديد عازم تمام العزم على تجاوز الفترة القاتمة التي كانت خلال ولاية سلفه محمود أحمدي نجاد.

ويتطلب بناء أي شيء المثابرة والخيال دائماً، وكان روحاني يتمتع بالمثابرة والخيال معا، أما تدمير أي شيء، فلا يتطلب سوى القليل زيادة على الطموح، ومن المؤسف أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لديه وفرة من ذلك، ففي عام 2018 قرر سحب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، وبدأ بسحق الثمار التي جنيت بشِق الأنفس من تلك الجهود الدبلوماسية البطيئة والمضنية.

ورغم تناقضات ترامب المتوالية، يمكننا أن نستنتج هدفه الحالي فيما يتعلق بإيران، لأنه استخدم طريقة عمل مماثلة في العديد من المواقف الأخرى، وتسعى استراتيجيته المتمثلة في فرض «أقصى قدر من الضغط» إلى إحداث تشوه اقتصادي في إيران، حتى يضطر قادتها إلى اختيار التفاوض مرة أخرى من موقف أضعف.

ولكن رغم أن العقوبات الاقتصادية أوجعت اقتصاد إيران بشدة، فإن النظام الإيراني ليس أقرب إلى الهاوية الآن، أو إلى التفاوض مرة أخرى، فالعصا لن تنجح دون الجزرة: إذ يفتقر قادة إيران إلى أي حافز للتفاوض إذا لم تعرض إدارة ترامب نوعاً من التنازل أولاً.

الواقع أن الهجوم الاقتصادي الأميركي لم يسفر إلا عن تعزيز القوى السياسية الأقل اعتدالاً في إيران. وكان المستفيد الرئيس منه الحرس الثوري الإسلامي، الذراع شبه المستقلة للمؤسسة العسكرية الإيرانية، والذي عمل على حماية سلامة النظام منذ اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979.

في الآونة الأخيرة، عزز الحرس الثوري الإيراني شعبيته المحلية من خلال تبني نبرة أكثر قومية من كونها دينية، وينظر العديد من الإيرانيين إلى تصنيف الولايات المتحدة لهذه الجماعة على أنها منظمة إرهابية أجنبية باعتباره إهانة للوطن. علاوة على ذلك، من خلال إعاقة التجارة العالمية مع إيران، ساعدت العقوبات الأميركية في إثراء الحرس الثوري، الذي يسد الفجوات التي خلفتها الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات، والذي يسيطر أيضاً على قنوات التهريب.

ليس هناك من شك في نفوذ الحرس الثوري المريب في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، فكانت القوة التابعة له تحت مسمى «قوة القدس»، تحت قيادة الجنرال ذي الشخصية الكاريزمية قاسم سليماني، مسؤولة عن عمليات خارج الحدود الإقليمية ولديها وكلاء في العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، بين دول أخرى.

وفي عام 2016، أنشأ الحرس، كما أوردت التقارير، «جيش التحرير الشيعي» برعاية قوة القدس، والذي يتألف إلى حد كبير من مقاتلين أجانب، وتلحق مثل هذه الأنشطة الضرر الشديد بصورة إيران الدولية، وسيكون التعامل مع قادة إيران أسهل كثيراً إذا أوضحوا أنهم راغبون في رئاسة دولة تقليدية لا حركة تحرير توسعية.

في الوقت ذاته ستكون بصمة إيران في الشرق الأوسط أضعف كثيراً لو لم ترتكب دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية كل هذه الأخطاء الاعتباطية. الواقع أن هذه الأخطاء الفادحة، التي تتراوح من الحرب في العراق إلى الحرب في اليمن، جلبت لإيران مكاسب جيوسياسية كبيرة بتكلفة منخفضة جداً.

في ظل ظروف مثالية، قد تبدأ القوى الإقليمية الكبرى التخفيف من حدة خلافاتها من خلال العمل لإنهاء الحرب في اليمن، حيث أدت حملة القصف إلى إحداث مأساة إنسانية، وربما تفضي هشاشة الائتلاف الموالي للسعودية حالياً- الذي بدأت الإمارات تخفف دورها فيه أخيراً- إلى تسهيل الطريق نحو التوصل إلى حل تفاوضي.

ورغم وفرة الأسباب لعدم الثقة بإيران، فمن غير الممكن أن تنجح أي مبادرة دبلوماسية إذا كان البند الوحيد على الطاولة هو البغض، ولتجنب الانزلاق إلى دوامة من الاتهامات، يتعين على أي دبلوماسي يستحق مكانته أن يكون قادراً على التعاطف مع الطرف الآخر، وهذا ليس كمثل الدفاع عنه.

في حالة إيران يتطلب ذلك إدراك العوامل التي تغذي شعور قادتها بانعدام الأمان، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن المسلمين الشيعة يمثلون أقلية واضحة في المنطقة، وأنهم على النقيض من مجموعات دينية أخرى،

لا يملكون أسلحة نووية.

علاوة على ذلك، من المعروف أن سجل أميركا البائس التعس في تغيير الأنظمة الأجنبية في وقت السِلم بدأ في إيران، عام 1953، مع إطاحة رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً محمد مصدق.

كل هذه العوامل متأصلة بعمق في الوعي الشعبي في إيران وتنعكس في سرد الجمهورية الإسلامية الرسمي، ومع ذلك كان روحاني قادراً على التغلب على الضغينة، مع غيره من موقعي خطة العمل الشاملة المشتركة، ولكن بعد أن بدأت السحب تنقشع، استدعت أميركا وابلاً من الأمطار المشؤومة، فمن خلال الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات جديدة خارج حدود القانون على بلدان الطرف الثالث، أوقعت إدارة ترامب الحكومات والشركات في مختلف أنحاء العالم في معضلة

لا تطاق: فإما أن تخسر هذه الحكومات والشركات القدرة على الوصول إلى النظام المالي الأميركي، أو تحكم على إيران مرة أخرى بالعزلة العقيمة.

الحق أن العاصفة التي أثارتها الولايات المتحدة تهدد بهدم كل الجسور الغربية مع إيران، بما في ذلك في قطاعات مثل العلوم، والتي تتحلى بميول ليبرالية واضحة، وحتى العلماء الإيرانيون المنخرطون في أنشطة حميدة بلا جدال يستشعرون آثار العقوبات الأميركية، وما دام الإنذار الأميركي باقياً، فإن إمكانات إيران العلمية الهائلة- لا في توليد المعرفة فقط، بل في تعزيز التعاون الدولي أيضاً- ستظل راكدة غير منجزة، وينطبق الأمر نفسه على رفاهية الإيرانيين في مجمل الأمر، الذين عانوا طويلاً عواقب الغضب السياسي الداخلي والدولي.

ويضيف إلى كل هذه التعقيدات تزامن الدورات الانتخابية في إيران وأميركا، فسوف تقع الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس في الولايات المتحدة في نوفمبر 2020 بين الانتخابات البرلمانية في إيران في فبراير، والسباق الرئاسي الذي من المقرر إجراؤه في عام 2021 (الذي لن يكون روحاني مؤهلاً لخوضه، بعدما أكمل ولايته الثانية على التوالي).

وتزيد هذه الزوبعة الانتخابية الوشيكة صعوبة تخفيف إيران لمواقفها: ذلك أن الجناح الأكثر محافظة في النظام، الذي يأمل الاستفادة من تقلبات السياسة الأميركية في صناديق الاقتراع، يفرض ضغوطاً شديدة على المعتدلين.

من المرجح أن تُفضي انتصارات المتطرفين في كلا البلدين إلى تعميق العداوة المتبادلة الهَـدّامة التي ميزت العلاقات الأميركية الإيرانية خلال القسم الأعظم من السنوات الأربعين الأخيرة، ولكن إذا سادت أصوات أكثر اعتدالاً، فستظل الفرصة قائمة لإطلاق العنان لإمكانات إيران السلمية الغنية. فرغم كل شيء، نجحت الدبلوماسية ذات مرة في السنوات الأخيرة، ولا ينبغي لنا أن نستبعد احتمالات نجاحها مرة أخرى.

* خافيير سولانا

* ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية، والأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير خارجية إسبانيا سابقاً، وحالياً رئيس مركز «إيساد» للاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية، وزميل متميز لدى مؤسسة بروكنغز.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top