بوتين يريد المال

نشر في 05-12-2019
آخر تحديث 05-12-2019 | 00:00
على مدار عشرين عاماً ظل بوتين يقلد زملاءه وأصدقاءه من جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق مناصب قوية في الأجهزة الأمنية والعسكرية الروسية، وكان بوسع هؤلاء، الذين يطلق عليهم وصف "الرجال الأقوياء" أن يكتسبوا من السلطة القدر الذي يسمح لهم بالقيام بكل ما يحلو لهم.
 بروجيكت سنديكيت في كتاب بعنوان "بوتين وحكم اللصوص" لكارين داويشا الصادر عام 2014 زعمت أن المفتاح إلى فهم روسيا في عهد بوتين هو المال، ففي حين كان بوتين يروج بين عامة الناس لقصص حول استعادة نفوذ روسيا العالمي، فإنه جمع هو وعشيرته من المقربين، كما شرحت داويشا، كميات هائلة من الثروة الشخصية، وفي اعتقادها يجب أن يُنظَر إلى بوتين، أكثر من كونه مستبدا أو قوميا أو انتقاميا، على أنه محتال.

في ذلك الوقت، لم أتفق معها في ذلك الرأي: رغم أن المال كان بلا شك مهما لفهم نظام بوتين، فلا ينبغي لنا أن نستبعد رغبته في اكتساب النفوذ العالمي، ولكن في أعقاب الغارة التي شنتها قوات الأمن على معهد ليبيديف للفيزياء في موسكو الشهر الفائت غيرت رأيي.

لعقود من الزمن، كان معهد ليبيديف في صدارة التقدم العلمي والتكنولوجي الروسي، وعلى هذا، فقد يبدو أن المعهد مناسب تماما للاضطلاع بدور مركزي في النهوض بالأولويات الاستراتيجية التي حددها بوتين ذاته في مايو 2018: العلوم، والإبداع التكنولوجي، والإنتاج الموجه نحو التصدير.

ولكن على الرغم من ذلك، زارت قوات الأمن الروسية معهد ليبيديف للفيزياء في الشهر الماضي، في محاولة للعثور على مديره نيكولاي كولاتشيفسكي، واحتجازه واستجوابه حول خطة مفترضة دبرتها شركة Trioptics التي استأجرت مكاتب لها في بنايات المعهد، لتصدير نوع خاص من النوافذ البصرية إلى ألمانيا، ولأن هذه النوافذ لها تطبيقات في صناعة الفضاء أو الأنشطة العسكرية، كما تزعم السلطات، فإن تصديرها ربما يقوض الأمن الوطني.

ولكن لماذا يتخذ مسؤولو الأمن في روسيا إجراءات تتعارض مع أهداف الكرملين السياسية المعلنة؟ يزعم بعض المراقبين أنهم خرجوا ببساطة عن سيطرة بوتين. على مدار عشرين عاما، ظل بوتين يقلد زملاءه وأصدقاءه من جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق مناصب قوية في الأجهزة الأمنية والعسكرية الروسية، وكان بوسع هؤلاء، الذين يطلق عليهم وصف "الرجال الأقوياء" أن يكتسبوا من السلطة القدر الذي يسمح لهم بالقيام بكل ما يحلو لهم، حتى إن كان ذلك يعني تقويض الجهود التي يبذلها بوتين لوضع روسيا على طريق التقدم.

وهو أمر ممكن، لكنه ليس مرجحا، والتفسير الأقرب إلى العقل هو أن بوتين ذاته متناقض، ففي حين يريد بوتين أن يتمكن من الترويج للإنجازات الروسية في العلوم والإبداع، فهو يريد أيضا إثراء نفسه قدر الإمكان، وكما لاحظت كارين داويشا، فإذا اضطر إلى الاختيار، فإن المال يأتي أولا.

وفيما يتصل بمعهد ليبيديف للفيزياء يبدو أن مصالح بوتين المالية مرتبطة بابنته كاترينا تيخونوفا، التي تدير معهدا علميا يحمل اسم Innopraktika، والذي تموله الدولة، ينتسب هذا المعهد لجامعة موسكو الحكومية، التي نعرف عن رئيسها فيكتور سادوفنيتشي تاريخه الطويل في خدمة من هم في السلطة.

يبدو أن عمل المعهد يركز على أجهزة تقرأ نشاط الدماغ، ولكن من الواضح أنه يشرف أيضا على جميع أشكال مشاريع البناء على قطعة أرض شاسعة متاخمة لمقر جهاز الأمن الفدرالي- المنظمة التي خَلَفَت جهاز الاستخبارات السوفياتية السابق- وخدمات الحماية الفدرالية.

إذا واصلنا متابعة مسار الأموال العلمية، فسنصل إلى المؤسسة المرموقة الأكاديمية الروسية للعلوم، التي عقدت انتخابات في الأسبوع الفائت، فبعد انتخابات المؤسسة في عام 2013، حيث لم يكن أداء المرشحين المدعومين من الكرملين طيبا، أعلنت الحكومة إصلاحات كبرى، بما في ذلك قرار تعليق الانتخابات في المؤسسة لمدة ثلاث سنوات.

بعد ذلك، تَـقَـرَّر أن ضمان "الإنصاف" يتطلب موافقة الحكومة على كل المرشحين، على الرغم من أنهم أكاديميون، ثم حاولت الحكومة جعل ميخائيل كوفالتشوك- الشقيق الفيزيائي "للمصرفي الشخصي" للرئيس بوتين، الملياردير يوري كوفالتشوك- رئيسا للأكاديمية الروسية للعلوم في عام 2017.

لكن على الرغم من كل المكائد، فاز الفيزيائي الأكثر تميزا ألكسندر سيرجيف بالانتخابات، ورغم أن سيرجيف انتقد جهود الحكومة لإصلاح الأكاديمية الروسية للعلوم- فضلا عن سيطرتها الأوسع على البحث العملي، وهو أحد الأسباب الرئيسة راء هروب المواهب الشابة من روسيا- فإن سمعته الدولية كانت كبيرة إلى الحد الذي جعل بوتين مرغما على الموافقة على ترشحه.

لم يفعل الكرملين الشيء نفسه مع أليكسي خولخوف، زميل سيرجيف، ومع ذلك، في ضربة أخرى تلقتها الحكومة، أصبح خولخوف في وقت لاحق نائبا لرئيس الأكاديمية الروسية للعلوم.

هذا العام، واصل أعضاء الأكاديمية الروسية للعلوم مقاومة أجندة الكرملين، فقبل شهرين من الانتخابات، حددت لجنة مكافحة التزوير في الأكاديمية الروسية للعلوم 56 مرشحا للعضوية على أنهم منتحلون أو يروجون لعِلم زائف، وقررت الحكومة أن هذا لا ينبغي أن يكون كافيا لاستبعادهم (وهو موقف غير مستغرب: ذلك أن أطروحة رسالة الدكتوراه التي قدمها بوتين ذاته قِيل إنها منسوخة من كتاب أكاديمي في علوم الإدارة صادر في عام 1978). وفي النهاية استُبعِد ستة فقط من قائمة المرشحين.

الواقع أن هذه المقاومة من قِبَل الأكاديمية الروسية للعلوم غير مقبولة للكرملين، وكذا المكانة العالمية التي يحظى بها خولخوف، الذي بعد أن شغل منصب نائب رئيس جامعة موسكو الحكومية حتى العام الماضي، أصبح خليفة محتملا لسادفنيتشي، وإذا نجح خولخوف في الحصول على هذا المنصب، فربما تصبح الجامعة أقل انفتاحا على مشاريع البناء المرتبطة بجهاز الأمن الفدرالي، وأقل دعما للمعهد الذي تقوده "الابنة الأولى"، وأقل استعدادا لتوزيع شهادات مزيفة على المقربين من الكرملين. من الواضح أن الغارة على معهد ليبيديف للفيزياء- التي كما يندب سيرجيف، زادت من تقويض سمعة العلماء الروس- ربما كانت بالتالي مدبرة لإضعافه.

في مناقشة هذه الغارة، أَسَرّ لي صحافي صديق في موسكو بوجه خال من أي تعبير: "في روسيا بوتين، الفيزياء تنتمي إلى الجواسيس، والتاريخ يكتبه رجال الشرطة السرية، في حين يرسم الجنود الحدود الجغرافية". والواقع أن سيرجي ناريشكين، مدير جهاز الاستخبارات الخارجية، يتولى أيضا رئاسة الجمعية التاريخية الروسية، في حين يقود وزير الدفاع سيرجي شويجو الجمعية الجغرافية الروسية.

إن العِلم لا يزال يقاوم، ولكن نظرا لشهية بوتين التي لا تشبع للمال هو وبطانته، فإن هذا أقصى ما في وسع علماء روسيا المخلصين عمله، وهي الرسالة التي نقلتها الغارة على معهد ليبيديف للفيزياء بكل وضوح، وعلى حد تعبير أكاديمي متقاعد في حديثه معي: "قل ما تشاء عن الاتحاد السوفياتي، لكن المعرفة مهمة، وروسيا اليوم، على الرغم من ادعاءاتها بأنها دولة عظمى، تشبه مستعمرة صغيرة سابقة، حيث يود كل جنرال في السلطة لو يعطي نفسه لقب دكتور في الفلسفة، لمجرد زيادة أرباحه".

* أستاذة الشؤون الدولية في جامعة نيو سكول، وأحدث مؤلفاتها "بالمشاركة مع جيفري تايلور" كتاب "على خطى بوتين: البحث عن روح الإمبراطورية عبر مناطق روسيا الزمنية الإحدى عشرة".

«نينا ل خروشوفا»

رغم أن المال كان بلا شك مهماً لفهم نظام بوتين فلا ينبغي لنا أن نستبعد رغبته في اكتساب النفوذ العالمي

«في روسيا بوتين الفيزياء تنتمي إلى الجواسيس والتاريخ يكتبه رجال الشرطة السرية في حين يرسم الجنود الحدود الجغرافية»
back to top