تقسية القوة الناعمة

نشر في 07-11-2019
آخر تحديث 07-11-2019 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت يميز منظرو العلاقات الدولية بصفة عامة بين القوة الناعمة والقوة القاسية، ويقصد بالقوة الناعمة ممارسة النفوذ السياسي عن طريق أدوات مرنة، وغير ملزِمة مثل المساعدة الاقتصادية؛ ونشر المعايير البيئية، والصحية، وتلك المتعلقة بالأمن المدني؛ وصادرات السلع الثقافية، ويرفض قادة القوة الناعمة عموما إجبار الآخرين، ويفضلون ممارسة النفوذ بالقدوة.

ويعد الاتحاد الأوروبي الرائد في هذا النهج. وبالمقابل، يقصد بالقوة الصلبة، أدوات الإكراه العسكرية، والاقتصادية.

فبدلا من أن تكون البلدان التي تعتمد على القوة القاسية الموجودة تحت تصرفها، مثالا يحتذى به، فإنها تمارس تلك السلطة في محاولة لإخضاع الآخرين لرغباتها. ويقول ميكافيلي، إنهم يفضلون أن تُكنّ لهم مشاعر الخوف بدلا من الحب، وخير مثال على هذا روسيا، وبين أوروبا وروسيا، لطالما مثلت الولايات المتحدة مزيجا فريدا من القوتين.

ولكن اليوم، أصبح التمييز بين القاسي واللين أقل أهمية، لأن القوة الناعمة نفسها تُسلح، وفي حين يشير إليه بعض المعلقون الآن باسم "القوة الحادة"، تُستخدم أدوات القوة اللينة التقليدية- التجارة، والمعايير القانونية، والتكنولوجيا- بشكل متزايد للإكراه.

وإذا أردنا تحديد ثلاثة أسباب رئيسة لهذا التغيير، فهي صعود الصين، والتنافس الصيني الأميركي الذي تلا ذلك، والقوى الجديدة للتكنولوجيا الرقمية.

وحتى الآن، فإن أكثر المجالات التي سُلحت فيها القوة الناعمة حساسية هي التجارة، إذ منذ اعتلاء الرئيس دونالد ترامب السلطة، زادت الولايات المتحدة من التعريفات الجمركية على الواردات، وبرر تهربه من النظام التجاري المتعدد الأطراف القائم على القواعد بـ"الأمن القومي"، ومع أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على السيطرة على النظام المتعدد الأطراف بمفردها، إلا أنها لا تزال تلحق الضرر بمنافسيها (وحلفائها) على أساس ثنائي.

وكانت عواقب هذا التسليح التجاري عميقة، فمع حلول نهاية عام 2019، سيكون متوسط معدل تعريفة الاستيراد في الولايات المتحدة 6.5٪، مقارنة مع 1.5٪ فقط قبل ثلاث سنوات، مما يجعلها قريبة من البرازيل من حيث حواجز الاستيراد. وفرضت إدارة ترامب الآن رسوما على 90٪ من الواردات من الصين، لكن أهدافها الاستراتيجية من الحرب التجارية لا تزال غير واضحة. ولا شك أن إدارة ترامب تريد إجبار الصين على تقليص فائضها التجاري الثنائي مع الولايات المتحدة، والكثيرون في الولايات المتحدة يريدون من الصين أن تتحرك نحو اقتصاد السوق، لكن المفارقة هي أن الحرب التجارية أجبرت كلا البلدين على اعتماد التجارة المدارة، مما يمنح الدولة الصينية قبضة أقوى على الاقتصاد. إن حقبة جديدة من التجارة المدارة تنطوي على مخاطر كبيرة على أوروبا، وقد تضطر الصين إلى استيراد كميات أقل من أوروبا من أجل استيراد المزيد من الولايات المتحدة، أو قد تتخلص من صادرات الأسواق الأوروبية التي لم تعد قادرة على شحنها إلى الولايات المتحدة. وفي كلتا الحالتين، أصبحت التجارة الدولية بشكل متزايد لعبة محصلتها صفر.

ويكتسب تسليح القوة الناعمة مكاسب في المجال القانوني أيضا، عن طريق تطبيق القوانين الوطنية خارج الحدود الإقليمية. وتعتمد كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذه السياسة، ولكن الاختلافات في الطريقة التي يتمتع بها كل فرد بهذه القوة بدأت تنكشف. ولم تُستخدم سياسة تطبيق القوانين الوطنية خارج الحدود الإقليمية في أوروبا أبدا لأغراض سياسية بحتة، كما أنها تقتصر بشكل أساسي على ثلاثة مجالات: معايير السوق، وسياسة المنافسة، وحماية البيانات الشخصية. ومع ذلك، تستخدم الولايات المتحدة الدولار بانتظام لفرض عقوبات على أي نشاط اقتصادي تعتبره تهديدا لمصالح سياستها الخارجية، حتى على المدى القصير. فعلى سبيل المثال، فرضت وزارة العدل الأميركية على البنك الفرنسي بي إن بي باريبا غرامة بقيمة 9 مليارات دولار لانتهاكه الحصار الأميركي المفروض على كوبا، والسودان، وإيران. وبموجب قانون توضيح الاستخدام القانوني الخارجي للبيانات لعام 2018، يمكن لسلطات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة، الآن، الوصول إلى البيانات التي تحتفظ بها الشركات الأميركية حتى عندما لا تُخزن في الولايات المتحدة. ومرة أخرى، تحملت الشركات الأوروبية تكاليف هذه التدابير، ولأن الشركات الأوروبية مندمجة بشكل كبير مع الاقتصاد الأميركي، فقد كافحت أوروبا للحفاظ على سياسة خارجية مستقلة تجاه إيران. وإن لم يحول اليورو إلى عملة دولية لمنافسة الدولار، فسيظل الاقتصاد الأوروبي هشا إلى درجة كبيرة، أمام سياسة تطبيق القوانين الوطنية خارج الحدود الإقليمية للولايات المتحدة. والمجال الثالث الذي تتجلى فيه تسليح القوة الناعمة هو التكنولوجيا، وخاصة فيما يتعلق بشركة 5G. فعلى عكس أنظمة النطاق العريض 3G و4G، فإن توظيف شبكة G5 له آثار أمنية وجيوسياسية بعيدة المدى، لأنه لا يعِد بتحسين الاتصال الهاتفي المحمول فقط، ولكن أيضا بتسريع عملية تطوير إنترنت الأشياء، ورقمنة اقتصادات بأكملها. إذا، فإن أي تدخل ضار في بنية 5G قد يتسبب في أضرار اقتصادية، أو اجتماعية، أو حتى مادية كبيرة.

ونظرا لقدرة الصين المتزايدة على إدارة الحرب السيبرانية، عبَّر رئيس جهاز المخابرات الألمانية عن تحفظاته الشديدة بشأن فتح شبكة 5G الألمانية لشركة هواوي الصينية، ومع أن هواوي هي، حاليا، المزود الرائد في العالم لأجهزة 5G، إلا أن هواوي تخضع للقانون الصيني، إذا فهي مسؤولة في النهاية تجاه الحزب الشيوعي الصيني، وأجهزة الاستخبارات والأمن الصينية. وبغض النظر عما يظنه المرء بشأن إدارة ترامب، فإن الولايات المتحدة ليست مخطئة في تسليط الضوء على الخطر المحتمل، الذي تمثله هواوي، ومزودو التكنولوجيا الصينيون عموما. ويجب أن تفتح مزاعم الولايات المتحدة ضد الشركات الصينية مثل هواوي وZTE، عيون الأوروبيين أمام تهديد التكنولوجيا الشبكية المسلحة. وإذ نتطلع إلى المستقبل، لن يكون من غير المعقول بالنسبة للولايات المتحدة تقديم دعمها لشركات أوروبية مثل إريكسون أو نوكيا، اللتين تؤديان دور أوزان موازية لهواوي في أوروبا، وأماكن أخرى. وتمنع قوانين المنافسة الصارمة للاتحاد الأوروبي، من جانبه، تقديم مساعدة علنية لهذه الشركات على أراضيه. ولأن الاتحاد الأوروبي ليس دولة، فليس له مصلحة في تقديم معونة حكومية، أو لعب ورقة تسليح القوة الناعمة. ومع ذلك، يجب على القادة الأوروبيين أن يحرصوا على عدم تجاهل الحقائق على أرض الواقع، إذ إن ضياع فرصة النجاح في التعامل مع ديناميكية عالمية جديدة مثيرة للقلق، لن يكون في مصلحة آخر فاعل رئيسي في العالم للقوة الناعمة.

* أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية بباريس. «زكي لعايدي»

back to top