«د. القتم»... ومراحل الثقافة الكويتية

نشر في 07-11-2019
آخر تحديث 07-11-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر كل من يطالع الطبعة الموسعة الجديدة، أو "الجزء الثاني" من كتاب "د.عبدالله القتم" الموسوعي، "مراحل التطور الثقافي في الكويت"، بجزأيه، مكتبه دار العروبة 2019، يرى بوضوح الجهد الذي بذله الباحث في زيادة محيط الكتاب ليصبح مرجعا في مجاله، وليشمل كل من لم تتسع الإشارة إليه والحديث عنه الطبعة الأولى، 2012.

مقالنا هنا ليس مقالاً نقديا تقييمياً بقدر ما هو نظرة عامة في عمل توثيقي يشكل بلا ريب إضافة مهمة للمكتبة الكويتية.

لم يشغل الباحث نفسه بأي مقدمة نظرية في تعريف "الثقافة" وبيان التيارات الثقافية الكويتية وغير ذلك، وقد جعل هذا، الباب مفتوحا للباحث لأن يختار من الكتّاب والإعلاميين والفنانين وغيرهم ممثلين للمراحل الخمس التي قسم إليها تاريخ هذه الثقافة. ووفق ذلك، فنحن نعيش اليوم سنوات "المرحلة الخامسة" وهي مرحلة "النهوض من الجمود". ويقول د.القتم "إن بوادر دخول الثقافة في الكويت مرحلة جديدة اتضحت قبل دخولنا في القرن الحادي والعشرين، وتمثلت هذه البوادر في ضجر الناس من التخلف والجمود الذي ساد المجتمع لأكثر من ثلاثة عقود".

ما مستجدات هذه المرحلة الخامسة من الثقافة الكويتية في تحليله؟ يرى د. القتم أن المرحلة الأولى بدأت مع قرار مثقفي الكويت عام 1913 بشأن تشتت جهودهم وتبعثر آرائهم، "ولذلك قرروا التجمع في مكان للتشاور وتبادل الآراء والأفكار، فكانت مكتبة الجمعية الخيرية مكاناً جيدا للقاء، ولكن بعد فترة رأوا أن يؤسسوا مكتبة تكون مكاناً للقراءة وتبادل الآراء".

وانتهى الأمر بهذه المجموعة من نشطاء الفكر الكويتيين في بداية القرن العشرين إلى إنشاء المكتبة الأهلية سنة 1923، والنادي الأدبي سنة 1924.

سبقت مرحلتنا الحالية، يقول الباحث، "مرحلة جمود النهضة" مع حل مجلس الأمة سنة 1976 حيث "تقوقع المثقفون، وبرز أصحاب المصالح الضيقة، وضاقت الحكومة بدور المثقفين في إشاعة الصراحة والانفتاح، فتم حل مجلس الأمة وتعطلت بعض مواد الدستور، وتم إطلاق بعض الصحف، وفُرضت رقابة شديدة على الكلمة المكتوبة، وقفز إلى صدر المواجهة الرجعيون والمنافقون، والمصلحيون، وتجمدت التنمية الفكرية، وعانت القوى الوطنية من التضييق عليها".

وهبط المستوى العام للتعليم في هذه الفترة التي امتدت في الثلث الأخير من القرن، وقد "تخلت وزارة التربية عن برامجها السابقة في حث الطلبة على اختيار المواد العلمية، وكثر طلبة المواد الأدبية، ثم أضيفت مادة حفظ القرآن الكريم إلى مناهج التربية، وتسابقت الحكومة والجمعيات الأهلية في إجراء مسابقات حفظ القرآن الكريم، وقلّ الاهتمام بالعلوم والرياضيات، ففقدت الكويت ريادة العلم في المنطقة.

وضمن مؤشرات الجمود والتراجع يشير د. القتم إلى حدث دولي، فقد: "دخلت الكويت مسابقة علمية لطلاب المدارس الثانوية وهي مسابقة دولية، وتتكون من إحدى وأربعين دولة، فكان ترتيب الكويت التاسع والثلاثين، تلك الدراسة أعدها مكتب التربية الأميركي التابع لوزارة التعليم الأميركية، وجاءت النتيجة أن الكويت احتلت آخر ثلاث دول في الرياضيات وفي الهندسة كذلك، وأيضا في الجبر، ومثل ذلك في علوم الحياة، وأما الفيزياء والكيمياء وقضايا البيئة فقد حصلت الكويت على الترتيب نفسه، وهذه فضيحة دولية تعليمية للكويت، التي سبقت كثيراً من الدول في الاهتمام بالتعليم الحديث، ولكن في هذا الوقت لا يوجد اهتمام جاد بالعلم". ويضيف د.القتم: "ومن أعجب العجائب أن الدول المتقدمة في هذه المواد العلمية ليست متقدمة على الكويت في الدخل القومي، بل إن الكويت تتفوق عليها جميعا". (ص418) غير أن كتاب د.القتم يخلو من الإشارة إلى تاريخ نشر المصدر.

ما مستجدات المرحلة الحالية التي تعيشها الحياة الثقافية في الكويت؟ ومتى بدأت؟

يقول د. القتم إن الشعب الكويتي "ضاق ذرعا بتصرفات من سيطر على المجتمع، لذا اتخذت الحكومة بعض الإجراءات، وأصدرت بعض القوانين التنويرية، محاولة منها وقف تدخلات تلك القوى أو الحد من نفوذها". من هذه الإجراءات التي يعددها إقرار الحقوق السياسية للمرأة، وقانون الصحافة الجديد رغم بعض ملامحه السلبية، وقانون التجمعات لعام 2008 الذي احتجت عليه بعض الفعاليات السياسية والاجتماعية، وحكمت المحكمة الدستورية ببطلان ذلك القانون على أنه غير دستوري، وتعديلات الدوائر الانتخابية وبخاصة مرسوم اعتماد الصوت الواحد الذي يقول إنه "كان نقطة تحول في لجم التصويت الجماعي، وتعاضد المجموعات المتضامنة، وأخيرا من مستجدات هذه المرحلة بعد طول جمود عودة جمعيات المجتمع المدني".

كان لكل هذه القرارات تأثيرها البارز في الحياة الثقافية، ولهذا يقول د. القتم: "التحول الذي طرأ على الموقف السياسي في الكويت انعكس على النشاط الثقافي والأهلي، فبرزت أفكار وآراء جديدة على الساحة الثقافية، فتم افتتاح مركز الشيخ جابر الأحمد الصباح الثقافي، وبه دار الأوبرا، ومسرح عبدالحسين عبدالرضا، بعد أن توقف بناء المسارح عشرات السنين، ومركز الشيخ عبدالله السالم الصباح، لاحتوائه على عدة متاحف، وعلى الرغم من هذه المشاريع الثقافية الكبيرة، لا يزال الوضع الثقافي في مرحلة أقل من المطلوب، بسبب وجود الرقابة الصارمة على المطبوعات والعمل الفني". (ص538).

عانى د. القتم على الأرجح، الكثير في اختيار أسماء مثقفي ورموز كل مرحلة من مراحل الثقافة الكويتية، وبخاصة مرحلتنا حيث يصعب الاختيار، ويتداخل الإبداع بمظاهر الشهرة، ويكثر تذمر بعض من لا يتم اختيارهم، وإذا كان أساس الاختيار ربما التأثير في ثقافة المجتمع الكويتي، فهذا يشمل حقولا واسعة وشخصيات أدبية وفنية وتربوية وإدارية وحتى سياسية ورياضية، مما قد يجعل حجم الكتاب مهولا وأشبه ما يكون بالموسوعات الببلوغرافية.

من شخصيات هذه المرحلة وضمنهم، من لم يشر إلى مساهمتهم في الجزء الأول، شخصيات بارزة ذات دور حقيقي، وأخرى لا يمكن اعتبارها من الطبقة نفسها، كما يمكن الجدل حول عدد الصفحات والكلمات التي اختص بها الباحث كل شخصية مهمة مقارنة بمن هو أقل أهمية.

ومن المعروف بالطبع أن هذا الكتاب يتناول مراحل "التطور الثقافي" الذي يشمل التطور في حقول الأدب والفن والتربية وكل مجال تقريبا، كما توحي كلمة "ثقافة" أو Culture، وهذا كله مما يعقد مهام الباحث كما أشرنا. وقد نتساءل هنا من "المثقف"؟ وما الذي يميزه عن الخريج والمتعلم والأديب وغيرهم؟ ونترك البحث والإجابة للقارئ!

في كتاب د.القتم إشارات عديدة كالكتب الأخرى في تاريخ الثقافة أو الأدب الكويتي إلى ضياع الوثائق والنصوص أو حتى القضاء عليها أو إهمالها، وإن كان أشهرها ما جرى لنتاج الشاعر "فهد العسكر".

في كتاب د.القتم جهد قيم لاستكشاف ودمج الثقافة الشيعية وشخصياتها داخل التجارب الشعرية والخطابية وحتى إدخال الحسينيات في المجرى العام للثقافة الكويتية، ومن هؤلاء الشيخ كاظم بن علي الصحاف (1895- 1979) الذي تنقل في دراسته بين النجف وكربلاء والجزيرة العربية، حيث "نزل في الأحساء عند العالم الجليل الشيخ موسى بوخمسين، وألقى العديد من المحاضرات في إذاعة مكة المكرمة". ويقول عنه د. القتم: "وكان الشيخ كاظم يتنقل بين الكويت والعراق والمملكة العربية السعودية، وينظم الشعر في كثير من المناسبات، وشعره بين الجيد والمتوسط، ولكن معظم شعره جمع في ديوان، واطلعتُ على بعض الأشعار في مدح رسول الله وأهل بيته، عليهم السلام، كما رأيت كتابه "تذكرة الأشراف في ترجمة آل الصحاف"، وتم طبع ديوان شعره، وفي أواخر حياته استقر في الكويت حيث توفي فيها". (ص134).

وكان الباحث قد أشار في الجزء الأول من كتابه، ص136، إلى تعليم البنات وبداية المدارس التعليمية النظامية للفتيات في الكويت، ويقول "واجه تدريس البنات معارضة شديدة من قبل بعض رجال الدين، وبعض المتزمتين من الأهالي، ولكن خطوة مجلس المعارف- أي ما يعادل وزارة التربية اليوم- سادت واستمرت، وتم افتتاح المدرسة الأولى تبعتها الثانية ثم الثالثة، وفتحت المدرسة الأولى في عام 1937- 1938" (ص128).

ولكن كيف كان موقف رجال الدين الشيعة وبعض المتزمتين ضمن الأهالي من إرسال الفتيات إلى مدارس الحكومة بدلا من كتاتيب المطوعات ومدارس التعليم البسيطة في الأحياء؟ فالمعروف مثلا أن رجال الدين في مدينة النجف المحافظة ذات التأثير الكبير على الفتاوى الدينية الشيعية كانت ضد مثل هذه المدارس، وهو الموقف نفسه لرجال الدين عموما في دول عربية أخرى. ومما جاء في بحوث الأستاذ العراقي "عبدالرزاق الهلالي" أن ثورة كبرى "وقعت في مدينة النجف الأشرف، عندما استجابت وزارة المعارف لمطالبة بعض الفئات المثقفة، وقررت عام 1928 فتح مدرسة للبنات فيها. وما كانت مديرة المدرسة تصل إلى النجف حتى قامت قيامة رجال الدين فيها، ونظمت احتجاجات وعقدت اجتماعات مطالبة بإلغاء المدرسة، وعطلت الأسواق والحوانيت، لكن قائم مقام النجف أقنعهم بأنها مدرسة لبنات الموظفين فقط. وهكذا فتحت المدرسة بعد أن كتب على مدخلها "مدرسة بنات الموظفين".

(الوطن، مقال أفكار وأضواء، 30/ 9/ 1986).

إن ردود فعل الوسط الشيعي على افتتاح المدارس النظامية للبنات في الكويت غير موثقة في حدود ما هو معلوم، وإن كان البعض يشير إلى تحفظات وتردد من قبل العديد من العائلات التي منعت بناتها من الذهاب إلى المدرسة بين الكويتيين عموما لبعض الوقت.

ويجدر بالذكر أن د. القتم يتناول "الحسينيات" باعتبارها من مؤسسات الحياة الاجتماعية والثقافية، ويورد أسماء بعض الخطباء فيها فيقول: "كان معظم خطباء الحسينيات من غير الكويتيين، ولكن بعض الكويتيين برع في الخطابة في الحسينيات مثل الشيخ حسين الفيلي، والملا عبدالرزاق البصير، والملا علي الجريدان، والملا حسين الخياط، والملا عبدالرسول الخياط، والشيخ علي يوسف خريبط، والشيخ حبيب المزيدي، وغيرهم من الماضين، غير أن الأوضاع تغيرت وأدت إلى أن يدرس الخطابة في السنوات اللاحقة مجموعة من الشباب الكويتيين، فامتهنوا الخطابة في المجالس الدينية". (208).

ماذا عن تراث البادية والتراث الشعبي؟

يبرز هنا مرة أخرى سؤال مهم حول منابع الثقافة الكويتية، وحتى العربية في مجال الشعر والأمثال والقصص، فهل من مصادر الثقافة الكويتية والعربية تراث البادثة والتراث الشعبي والشعر النبطي، ولها كلها تأثير ضخم على ثقافة الحضر والبادية، مهما قللت "ثقافة العربية الفصحى" من أهميتها تحت تأثير مخاوف قومية وسياسية واجتماعية؟ ولا حاجة بنا للقول إن شعراء مثل عبدالله الفرج ومحمد الفوزان وبن لعبون وفهد بورسلي وغيرهم، ممن لهم تأثير بالغ على ثقافة الكويت والجزيرة العربية لا يمكن اعتبار إنتاجهم وتراثهم إلا من صميم الثقافة الكويتية.

كتاب د. عبدالله القتم يثير مسائل أدبية واجتماعية عديدة، وقد يتفق بعض القراء ويختلف آخرون مع اللوحة التاريخية والتقييمية التي رسمها لمراحل تطورها ودور المساهمين فيها، ولكن من المؤكد أن كتابه سيحظى بمكانة بارزة بين الكتب التي تدرس هذا الجانب من حياة المجتمع الكويتي منذ أن تشكلت ثقافته. فله خالص الشكر والتقدير.

back to top