مسؤولية الشركات عن التحفيز العالمي

نشر في 06-11-2019
آخر تحديث 06-11-2019 | 00:00
يدرك قادة الأعمال ماذا يحدث عندما يتحول تيار الرأي العام ضدهم، وفي حين أن المنتقدين محقون في مطالبتهم بترجمة تعهداتهم الأخيرة إلى أفعال، فإن هناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنهم سيفعلون ذلك.
 بروجيكت سنديكيت في شهر سبتمبر وَقَّع 183 من رؤساء الشركات التنفيذيين على بيان يؤكد التزامهم بتجاوز شعار "المساهم أولا" إلى التعبير عن مصالح جميع أصحاب المصلحة، بمن في ذلك الموظفون، والعملاء، والموردون، والمجتمعات، وكانت استجابة كثيرين لهذا البيان عامرة بالشكوك، لكن رفض البيان من قِبَل المائدة المستديرة للأعمال باعتباره مجرد حيلة من حيل العلاقات العامة يدل على الفشل في إدراك الرياح المعاكسة العاتية التي يواجهها عالم الأعمال والشركات، وقدرتها المثبتة على التكيف.

منذ ظهور الشركة الحديثة، اضطرت الشركات إلى مواجهة مفارقة أساسية: فالمجتمع يحتاج إلى منظمات ضخمة لحل المشكلات الجماعية المعقدة، لكنه يخشى أيضا من السلطة المركزية وعملية اتخاذ القرار، كما يوضح روبرت د. أتكنسون ومايكل ليند في كتابهما الأخير بعنوان "الكبير جميل: فضح زيف أسطورة الأعمال الصغيرة"، تتفوق الشركات الكبيرة في الولايات المتحدة على الشركات الصغيرة في كل المؤشرات تقريبا، من الأجور والإنتاجية إلى الصادرات والإبداع.

ومع ذلك، تصنف استطلاعات الرأي العام الشركات الكبرى بين المؤسسات الأقل فوزا بثقة الناس (فوق أخبار التلفزيون والكونغرس الأميركي فقط). وقد شكلت مفارقة الثقة هذه تحولات درامية عديدة في حوكمة الشركات على مر السنين. حدث التحول الأول في القرن التاسع عشر، عندما حولت الثورة الصناعية الإنتاج من الشركات الصغيرة التي يديرها مالكوها إلى الشركات الحديثة المتعددة الوحدات، وتسببت في ظهور طبقة إدارية احترافية. وأدت حركة الدمج الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر، عندما حلت عشرات قليلة من الاتحادات الاحتكارية محل الآلاف من الشركات الصغيرة، إلى التعجيل بإعادة تنظيم مشهد الشركات على هذا النحو.

عملت الشركات العملاقة الجديدة على دفع المجتمعات إلى الأمام، لكنها خلقت أيضا اختلالات جديدة، وواجهت المقاومة على الفور، في عام 1890، أعلن عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون شيرمان: "إذا لم نكن نتحمل ملكا بوصفه سلطة سياسية، فلا ينبغي لنا أن نتحمل ملكا على عرش الإنتاج، والنقل، وبيع أي من ضرورات الحياة". بهذه الكلمات، وُلِد قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار.

وفقا لدراسة نشرها في عام 1935 الخبير الاقتصادي شو ليفرمور، فإن أكثر من نصف الاتحادات الاحتكارية التي تشكلت في الولايات المتحدة في الفترة من 1888 إلى 1905 اختفت أو تراجعت إلى المؤخرة في ثلاثينيات القرن العشرين، ورغم أن التقدم التكنولوجي السريع ربما كان أشد ضررا من السياسات التي أدت إلى حل الاتحادات الاحتكارية، فقد تعلمت الأعمال درسا واضحا: إذا أهدرت ترخيصك الاجتماعي للعمل، فإن الحجم يتحول إلى عائق.

ساعد هذا الإدراك في إرساء تحول جديد في الحوكمة: إضفاء الطابع المؤسسي على أعمال الخير التي تمارسها الشركات. ورغم أن قادة الأعمال كأفراد كانوا بين أكبر المانحين في أميركا منذ القرن السابع عشر، فإن أعمال الخير أصبحت في القرن العشرين جزءا أساسيا في ممارسة الأعمال في الولايات المتحدة. وقد ساعد هذا في إدامة وقف إطلاق النار الضمني، مع زيادة ميل الحكومة إلى السماح للشركات بالعمل بأقل قدر من التدخل.

إذا كانت بداية القرن العشرين تشكلت بفِعل المؤسسات الحديثة المتعددة الوحدات، فإن النصف الأخير من القرن العشرين كان يدور حول الشركات المتعددة الجنسيات. بدأ التحول بعد الحرب العالمية الأولى ثم اكتسب المزيد من الزخم بعد نهاية الحرب الباردة، عندما عملت أسواق الدمج والتوسع الهائل الذي طرأ على أنظمة الشركات البيروقراطية على تمكين الشركات من الاستفادة من الاقتصادات العالمية ذات الحجم الكبير.

ثم أطلت مفارقة الثقة برأسها مرة أخرى، ورغم أن شركة البرمجيات العملاقة مايكروسوفت تجنبت مصير أكبر شركة اتصالات أميركية، AT&T، التي جرى تفكيكها في ثمانينيات القرن العشرين، فإنها اضطرت إلى رفع الحواجز التي تحول دون دخول برمجيات الأطراف الثالثة، وهي الخطوة التي ساعدت في وقت لاحق شركات مثل غوغل على النمو. رغم أن حملات مكافحة الاحتكار في تسعينيات القرن العشرين لم تكن بحجم أو نطاق تلك الحملات في أوائل القرن العشرين، فقد شعرت الشركات بالضغوط الرامية إلى حملها على إعادة النظر في دورها في المجتمع. وفي عام 1973، في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، أكد مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب أن "الغرض من الإدارة الاحترافية" هو خدمة جميع أصحاب المصلحة وتنسيق مصالحهم المختلفة. ثم بشر ما يسمى "بيان دافوس" بتحول آخر، من "خيرية الشركات" إلى "مواطنية الشركات"، وهي فكرة مفادها أن أي شركة، مثلها كمثل أي مواطن، يجب أن تعمل على مواءمة مصالحها الشخصية مع المصالح المشتركة للمجتمع. ولكن على الرغم من تأييد المشاركين في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في ذلك العام للبيان بالإجماع، فإن مواطنية الشركات ظلت مجرد فكرة متطرفة، ولم تتحول إلى اتجاه سائد إلا الآن، بعد ما يقرب من نصف قرن من الزمن. كان المحفز متمثلا في الثورة الصناعية الرابعة، التي تميزت بتوسع الأعمال إلى مجال البيانات والخوارزميات، وعلى نحو أو آخر، ربما تقود الشركات الأصغر حجما هذه المرحلة من نشاط الأعمال. وكما قال جاك ما، مؤسس شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة "علي بابا" للحاضرين في دافوس هذا العام، "في السنوات العشرين الأخيرة، كانت العولمة تحت سيطرة 60 ألف شركة في مختلف أنحاء العالم. ولنتخيل كيف ستكون الحال إذا تمكنا من توسيع هذا الرقم إلى 60 مليون شركة".

لكن هذه لن تكون عودة إلى الماضي، حيث تقود الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم الاقتصاد. الواقع أن جاك ما كان يروج لمنصة قام ببنائها للسماح للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم ببناء شركات معولمة.

هنا يكمن الفارق الأساسي بين الأسواق الحديثة، وتلك التي تصورها آدم سميث في عام 1776: لكي تتمكن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم من المنافسة فإنها تحتاج إلى اكتساب القدرة على تخزين ومعالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات، وهي القدرات التي تقدمها شركات عملاقة مثل علي بابا، وأمازون، وفيسبوك، وغوغل.

على نحو مماثل، في حين كان صعود "اقتصاد العمل المؤقت" يعني أن المزيد من الناس أصبح بوسعهم العمل كشركات مكونة من شخص واحد، فإن هؤلاء العمال يعتمدون على منصات متعددة الجنسيات للوصول إلى "العمل المؤقت". وهذا التوتر بين الضخامة غير المسبوقة- مؤخرا أصبحت أبل وأمازون من أولى الشركات ذات الملكية الخاصة التي تبلغ قيمتها تريليون دولار- والأحجام الصغيرة التي تعود إلى عصر ما قبل الصناعة هو العنصر الكامن في صميم مفارقة الاتحادات الاحتكارية اليوم.

نتيجة لهذا، أصبحت الشركات أكثر من أصحاب المصلحة؛ فهي تحكم غالبا المنصات التي يتقاطع عندها كل أصحاب المصلحة، ولتجنب ردة فعل شعبية سلبية أخرى، يتعين على الشركات أن تجعل هذه المنصات تخدمنا ليس فقط كمستهلكين، بل أيضا كأصحاب أعمال، وعمال، ومواطنين، وفي وقت يتسم بقدر غير مسبوق من التحديات العالمية- بما في ذلك تغير المناخ ومستويات مرتفعة من التفاوت- فإن هذا يجب أن يشمل استخدام قدر غير مسبوق من القوة من قِبَل قيادات المنصات لتحفيز الحلول على نطاق عالمي.

في وقت سابق من هذا العام، احتفلت شركة Beyond Meat المنتجة للحوم الاصطناعية بدخول سوق البورصة لأول مرة بنجاح كبير. بدلا من التركيز على تلبية الطلب المتزايد على اللحوم من خلال زيادة عمليات الزراعة المصنعية، كما فعلت الشركات في الماضي، تعمل هذه الشركة- وشركات أخرى مشابهة، مثل Impossible Foods- على المساعدة في تقليل الاستهلاك الإجمالي للحوم، والذي يشكل محركا رئيسيا لتغير المناخ.

يعمل هذا على دفع التحول الأخير في توجيه أصحاب المصلحة للشركات، وهو لا يركز على التوسع بقدر أكبر من الحكمة فحسب، بل أيضا على اكتساب المزيد من الحكمة في اتخاذ القرار حول ما يمكن توسيعه. يدرك قادة الأعمال ماذا يحدث عندما يتحول تيار الرأي العام ضدهم، وفي حين أن المنتقدين محقون في مطالبتهم بترجمة تعهداتهم الأخيرة إلى أفعال، فإن هناك الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنهم سيفعلون ذلك.

* سباستيان بوكوب

* رئيس قسم البرمجة في المنتدى الاقتصادي العالمي.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

إذا كانت بداية القرن العشرين تشكلت بفِعل المؤسسات المتعددة الوحدات فإن النصف الأخير منه كان يدور حول الشركات المتعددة الجنسيات
back to top