بعد تخلي ترامب عن الالتزامات الأميركية... هل تبقى واشنطن حليفة جديرة بالثقة؟

نشر في 27-10-2019
آخر تحديث 27-10-2019 | 00:00
 ذي برينت أصدر الرئيس دونالد ترامب أمراً بسحب حوالي ألف جندي أميركي من شمال سوريا غداة مكالمته الهاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 6 تشرين الأول، فسرّع بذلك نشوء الأزمة. اعتُبِر قراره خيانة لحلفائه. اليوم، من الطبيعي أن تتساءل حركة "طالبان" بدورها حول صوابية استئناف مساعيها لعقد اتفاق مع الولايات المتحدة أو انتظار أن ينفذ صبر ترامب مجدداً، في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويتخلى عن حليفه الظاهري المتمثل بالحكومة الأفغانية في كابول. في جميع عواصم العالم، يسود قلق كبير حول مصداقية الولايات المتحدة كشريكة للبلدان في عهد ترامب، وسبق أن بدأت خطة لإعادة ضبط الاستراتيجيات القائمة، حيث يتردد الكثيرون اليوم في التحالف مع الأميركيين لأن الثقة وثبات المواقف عاملان أساسيان لصمود الالتزامات بين الحلفاء ولتنفيذ الجهود المشتركة التي تحمل مجازفات. يعلن ترامب بسلوكه انقلابا كبيرا للدور الذي رسمته الولايات المتحدة لنفسها في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً غداة حل الاتحاد السوفياتي وخلال مرحلة القطب الواحد في السياسة الدولية في الفترة اللاحقة. يتعارض قرار ترامب مع الملاحظات التي تلقاها قبل مكالمته مع أردوغان، ومع توصيات الجيش الأميركي وموقف مناصريه الجمهوريين النافذين في الكونغرس، بما في ذلك زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، ورئيس اللجنة القضائية ليندسي غراهام.

لكن تتماشى قراراته مع المواقف التي عبّر عنها مراراً وتكراراً خلال حملته الانتخابية في عام 2016 ومنذ انتخابه رئيساً للبلاد في 8 نوفمبر من السنة نفسها. لقد شكك بقيمة الحلفاء والتحالفات (مع أوروبا وحلف "الناتو" وأطراف أخرى) بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وانتقدهم لأنهم لم يلتزموا بتكاليف تحالفاتهم، ودعا القوات الأميركية إلى إنهاء الالتزامات الخارجية الناشطة (في أفغانستان وسورية)، وشجّع البلدان على اتخاذ مسار "قومي" في مجال السياسة الخارجية. وفي ديسمبر 2018، استقال وزير الدفاع جيم ماتيس غداة قرارات شخصية أخرى اتخذها ترامب، على غرار قرار سحب القوات الأميركية من سورية، مع أنه عاد ونُفّذ بطريقة مخففة لاحقاً. صحيح أن ترامب اتخذ قراراته أحادية الجانب في السياسة الخارجية الأميركية ونفذها بطريقة متطرفة، لكن بدأت تداعيات الالتزام العسكري الأميركي الموسّع في أفغانستان (منذ 2001) والعراق (منذ 2003) وسورية تتراكم منذ فترة طويلة. خاض سلف ترامب، أوباما، حملته الانتخابية في عام 2008 بناءً على وعود بإنهاء الحرب في العراق ووضع حد لحرب أفغانستان بطريقة مسؤولة. شدد أوباما على قيمة التحالفات والتزامه بدعم اليابان والفلبين في حال تعرضهما للهجوم، لكنه رفض تأييد مطالباتهما بجزر "سينكاكو" ومياه "سكاربورو" الضحلة في خضم نزاعهما مع الصين. حدد الرئيس هاري ترومان في خطاب تنصيبه في يناير 1949 "أربعة مسارات عمل أساسية": دعم الأمم المتحدة والوكالات المرتبطة بها، وتعافي الاقتصاد العالمي، وتقوية "الأوطان التي تحب الحرية ضد مخاطر الاعتداءات"، و"الاستفادة من التقدم العلمي والتطور الصناعي الحاصل لتنمية المناطق المتخلفة".

لكنه لم يتكلم عن ضرورة أن تحاول الولايات المتحدة توفير "منتجات عالمية" على مستوى الأمن والتنمية وتُحدد المعايير الدولية في خضم مساعيها لتحقيق مصالحها الوطنية. غداة لحظة أحادية الجانب خلال التسعينيات، أعلن البعض في الولايات المتحدة "نهاية التاريخ"، بمعنى أن العالم سيعكس من الآن فصاعداً صورة المجتمعات "الليبرالية" الغربية، فيما يتوسع حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي شرقاً لاستثمار النصر في الحرب الباردة. لكن فشلت الولايات المتحدة في إنهاء تورطها العسكري في أفغانستان والعراق وسورية، جاءت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 لتشكك بنموذج الحوكمة الاقتصادية الأميركية، وبعد عام 2000، بدأت روسيا تخدم مصالحها بكل ثقة، باعتبارها قوة مضادة للغرب، في جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا وأخيراً سورية، وفي السنوات التي تلت الركود الاقتصادي في عام 2008، أصبح اقتصاد الصين ودورها العسكري المتنامي أكثر وضوحاً. في غضون ذلك، واجهت أوروبا المصاعب بسبب مخاوفها من خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، وواقع انسحاب بريطانيا منه، والجمود الاقتصادي، وزيادة نفوذ القوى السياسية اليمينية. يبدو أن ترامب يعمل راهناً على عَكْس عدد من الاستراتيجيات الأميركية المعتمدة في حقبة ما بعد الحرب، فهو يتخلى عن مبدأ التعددية، بما في ذلك منظمة التجارة العالمية، وتردد في دعم المادة الخامسة المرتبطة بالتزامات التحالف في "الناتو"، وفرض رسوماً على واردات الفولاذ والألمنيوم من بلدان شريكة وحليفة لأسباب متعلقة بالأمن القومي. كذلك، تجاوز أي اعتبارات خاصة للدول النامية وسحب فوائد التجارة التفضيلية التي تسمح بدخول منتجات هندية معفاة من الضرائب. لذا يحتاج حلفاء الأميركيين راهناً إلى ابتكار استراتيجيات وشراكات جديدة. تكلمت فرنسا عن تطبيع العلاقات، في حين تبني ألمانيا خط أنابيب آخر للطاقة مع روسيا، رغم استمرار خلافاتهما حول شبه جزيرة القرم وأوكرانيا. تحتاج أوروبا إلى تقريب المسافة بين الأمن والسياسة الخارجية، علماً أن الولايات المتحدة وروسيا والصين ستحاول حتماً إحباط هذه المساعي. رحبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووسّعت تركيا وإسرائيل نطاق تواصلهما مع روسيا التي تُعتبر الآن صانعة قرار أساسية في سورية، أما الدول الأعضاء في "رابطة أمم جنوب شرق آسيا"، فلا تريد أن تضطر للاختيار بين الولايات المتحدة والصين، غداة الاستراتيجية الأميركية في المحيطَين الهندي والهادئ، ومن المنتظر أن تصبح اليوم أكثر حرصاً على الخصوصية الصينية. أصبحت الصين من جهتها أكبر شريكة تجارية لأستراليا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

يتعين على الهند أيضاً أن تُحدد سياساتها في ظل هذا النفوذ متعدد الأقطاب. لا تزال الولايات المتحدة أهم شريكة للهند في مجالات التجارة والاستثمار والدفاع والتعليم والروابط الشعبية، كما أنها تدعم طموحاتها العالمية. بفضل عناصر التقارب في المحيطَين الهندي والهادئ وتنامي التعاون في قطاعات التجارة والاستثمار والدفاع، ستضمن الهند استمرار الالتزام الأميركي بنجاحها الاقتصادي والأمني، لكن يجب أن تفهم في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة ستتخذ قرارات تصبّ في مصلحتها، بناءً على دوافعها السياسية الخاصة. ستكسب الهند الثقل المطلوب عبر متابعة جهودها الرامية إلى تعميق التزامها مع روسيا من خلال عقد شراكات في مجالَي الطاقة والدفاع والقيام باستثمارات في الشرق الأقصى الروسي. فيما يخص الصين، من الأفضل على الأرجح أن تختبئ الهند وتنتظر الوقت المناسب وتبني قدراتها وتخوض لعبة طويلة لتعزيز التقارب بين الطرفين، رغم الاختلافات الواضحة، كما يحصل خلال القمة غير الرسمية. تحتاج العلاقات مع اليابان، وأوروبا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية، و"رابطة أمم جنوب شرق آسيا"، وغرب آسيا، إلى انتباه مضاعف.

في حقبة وزمن مختلفَين، دعا الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون إلى "السلام والتجارة وإقامة صداقة حقيقية مع جميع البلدان... من دون أن تتشابك التحالفات مع أي منها"، لكن نظراً إلى عدم ثبات الموقف الأميركي بشأن دور الولايات المتحدة في "المنتجات والمعايير العالمية"، قد تسمح استراتيجية مبنية على "مساهمين متعددين" أو "تحالفات متعددة" بحماية المصالح الوطنية من مختلف التحديات، على غرار الإرهاب وتوسع نفوذ الخصوم في الدول المجاورة.

* أرون ك. سينغ

* سفير سابق للولايات المتحدة ومسؤول عن شؤون أفغانستان وباكستان بعد اعتداءات 11 سبتمبر. المقالة تعبّر عن رأيه الشخصي.

back to top