شارع سوق الأجبان!

نشر في 13-10-2019
آخر تحديث 13-10-2019 | 00:05
 عهود ناصر في مثل هذا الوقت من السنة الماضية، كنت أتجول في شوارع بروكسل، حيث المطر الشتوي يبلل الأزقة القديمة، تحديدا في شارع يدعى «غودو ماغشي أوفغوماج» أو «شارع سوق الأجبان».

ظننت للوهلة الأولى أن هذا الشارع هو المكان المثالي لشراء قطعة من الجبن البلجيكي الشهي، الذي تعود عراقته إلى القرون الوسطى. إلا أنه لم يكن لهذا الشارع من اسمه نصيب، ولم تكن الأجبان بأنواعها الفاخرة كـ «الغودا والفيو شيميه» تتصدر قائمة المطاعم المترامية يمينا وشمالا.

عوضا عن ذلك، كان الشارع الضيق يعجّ بالمطاعم اليونانية التي التهمت تاريخ سوق الأجبان، وأخذت تقدّم خبز البيتا اليوناني بمبلغ زهيد للسياح الراغبين بالتجول في أنحاء العاصمة!

وبينما كنت أتأمل المشهد السياحي البلجيكي وما خلّفه في نفسي من حيرة وغموض تجاه تحديد ماهية البلد ذي الثقافات المتعددة، استرعت انتباهي سيدة ترتدي معطفا أحمر صارخا وقبّعة بيريه محاكة على الطراز الفرنسي.

بدت هذه السيدة وهي تتسكع على شارع سوق الأجبان المتعرج وكأنها تجسد مشهدا من فيلم سينمائي يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث روايات الحب والحرب.

لقد أثارت هذه السيدة في نفسي حنينا الى أزمنة لا أعرفها، أخذت تتشابك في عقلي كصورة ذهنية حية، حيث وقفت هي بين الليل والأضواء، وفتحت باب الماضي على الحاضر.

على نفس ذلك الشارع المليء بالتجاعيد، خُيّل إليّ أنني عدت بالزمن الى قرون خلت، وعاد إلى المدينة شبابها وجمالها. أدخل الى أحد المقاهي خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تمتزج موسيقى الجاز مع الدسائس السياسية ورماد غليون الكتّاب في أغنية حب ساحرة.

ثم أنتقل في الليلة القادمة الى قلب العاصمة باريس في أوائل العشرينيات حين أستيقظ صباحا على قرع أجراس كنيسة نوتردام ورائحة الباغيت والكرواسو المنبعثة من المخبز المجاور الى شرفتي دون استئذان! وتستمر بذلك حلقة التنقل المثيرة عبر الأزمنة والشوارع والمدن بلا عودة.

يرى العديد من علماء النفس رحلة العودة بالزمن الى الماضي أو ما يسمى بالنوستالجيا التاريخية على أنها حالة إنكار لواقع مرير، وأن الشاعرين بالحنين إنما يحنون لماض مغاير لواقعهم غير المُرضي نتيجة «لخلل» في خيالهم الرومانسي، لذلك يأتون بمصطلحات مثل الزمن الجميل أو العصر الذهبي.

لكن باعتباري أحد أفراد عصبة العالقين في الماضي، فإنني لا أرى تلك التجليات الشاعرية إلا انعكاسا لصورة رمزية عاطفية لديستوبيا ما بعد الحداثة، حيث تزيفت ماهية الواقع والحب والحلم، وامتزجت المفاهيم ببعضها البعض حتى كدنا لا نعرف ما إذا كانت الحقيقة حقيقة، أم ضربا من الخيال في زمن تهاوى فيه كل شيء الى ركام من الفوضى.

لعل هذا «الخلل الرومانتيكي» هو دلالة على الإبداع، وأن الماضي المفقود لا يرحل الى الأبد، إنما يذهب الى المكان الذي تذهب اليه الأشياء المفقودة.

قد يكون هذا المكان على ناصية أحد شوارع بلجيكا، أو مقابل ضفة نهر السين الباريسية أو في منتصف رواية من القرن التاسع عشر. ستتمكن من الذهاب الى هناك إذا امتلكت جرأة الفرار الى المبهم، حيث يتحول الحلم الى حقيقة في عالم المطلق.

ملاحظة: ينصح بمشاهدة فيلم منتصف الليل في باريس، حيث يتجسد الخيال على أرض الواقع.

back to top