«الإخوان»... وكوارث مصر والسودان

نشر في 10-10-2019
آخر تحديث 10-10-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر هل ناقش الإخوان المسلمون سقوطهم مرتين في السودان ومرة مدوية في مصر؟ وهل يعقل أن تقع هذه الكوارث الدعوية والحزبية، وتمر على الجماعة تجارب التقصير والفشل في بلدين كالسودان ومصر، للإخوان فيهما صولات وجولات ووجود سياسي ودعوي ونشاط تأسيسي عريق، وفي بلدين تشكل الثقافة الإسلامية والتصوف والتدين بألوانه، العمود الفقري لزاد الجماهير الفكري؟ أعني أن تقع هذه المصائب والمحن، دون أن تسمع قواعد الإخوان من قادتها ومفكريها في مصر والسودان وعامة المتابعين تفسيراً لانحراف هذه التجارب الإخوانية وارتجال سياساتها، وتجنيد إمكانات جماعات الإخوان لدعمها وإنجاحها؟

أين النقد الذاتي المتوقع؟ وأين الموقف الصريح من التلاعب بالشعارات، والاحتماء بالمبررات؟ ولماذا تبرئة النفس بأي ثمن؟

يقولون إن ما جرى في مصر "انقلاب عسكري"، ولكن مصر انشقت نصفين في تلك الليلة، وكادت أن تشتعل في مدنها وقراها حرب أهلية لا يعلم أحد حجمها، وخاصة لو كان أحد الإخوان أو غيرهم قد اجتزّ رقبة الرئيس "السيسي"، كما اقترح فقيه الإخوان المسلمين في الكويت يومذاك!

لماذا لا يتوقف الإخوان بعض الوقت أمام تجاربهم في مصر والسودان، وانتكاسة هذه الأنظمة في ثلاثة نماذج مع "جعفر النميري" و"عمر البشير" في السودان، و"د. محمد مرسي" في مصر؟ لماذا كانت الفجوة بذاك الاتساع بين ما في كتب الإخوان والواقع السياسي؟ ولماذا امتلأت الشوارع في القاهرة والخرطوم وغيرهما، بالدعوة إلى أن يترك الإسلاميون السلطة؟ ولماذا خسر الإخوان فوق مصر والسودان دول الخليج ومجلس التعاون، مما سيعقد علاقاتهم ويزيد تخبطهم، دون أي أمل في الخروج هذه المرة سالمين غانمين، فالواضح أنهم لم يخسروا السلطة والمال والنفوذ فحسب، بل كذلك السمعة والبراءة والنقاء. فقد كان الإخوان لسنين طويلة، ربما منذ 1954، محل تعاطف الكثرين من المعادين للدكتاتوريات العربية، كنموذج للمعارضة المسكينة المضطهدة، والأيدي النظيفة المتوضئة المهددة بالقطع، وكان الكثير من المتدينين في تعاطف قليل أو كثير معهم، ومع مشروعهم السياسي "الإسلامي"، وقد تغير الكثير من ملامح هذه الصورة في مصر وشمال إفريقيا وسورية والأردن والدول الخليجية.

هيمن الإخوان والتيار الإسلامي، انقلابياً وانتخابياً لبعض الوقت على السودان ومصر، وكان الوصول لحكم هذين البلدين بمثابة حلم لا يصدقه الإخوان أنفسهم، فمصر "أم الدنيا" و"مفتاح الشرق الأوسط والعالم العربي"، أما السودان فكانت إحدى أكبر الدول العربية مساحة وأثراها بالإمكانات الاقتصادية.

من المسؤول عن السياسات الخاطئة التي ارتكبت؟ ومن الذي أعطى لخصوم الإخوان كل المبررات؟ ولماذا مثلا اندفعت قيادات وقواعد الإخوان في تأييد نظام "النميري" الإسلامي ولعبته مع د. الترابي؟ ولماذا صفق لهما إخوان القاهرة بهذه الشدة وهاجموا من يشكك في نجاح النظام؟

هناك اقتباسات موثقة وردت في مقالات سابقة لا داعي لإعادة نشرها... في هذا الموضع! ولماذا لم يقف الإخوان ضد انقلاب مايو 1989 كما لم يستفيدوا في قليل أو كثير من دروس السودان في التجربة المصرية التي بادرت إلى "أخونة" نظام د. مرسي أو حاولت ذلك بين ليلة وضحاها؟!

لا يكفي أن يقال عما جرى للإخوان في مصر إنه مجرد "انقلاب عسكري"، فقد أساءت الجماعة السياسة والسلوك، ووقعت ضحية التسرع والاستعراضية، واستفزت قطاعات عريضة من الشعب المصري، ولولا تدخل الجيش المصري، مهما قيل عن نواياه وخططه، فلربما تفجرت الأوضاع، وسالت دماء غزيرة ولتمزقت مصر، ولكان المغامرون من الحرس الثوري الإيراني في وضع أفضل وأكثر اندفاعاً، والعالم العربي أشد تمزقاً، ولما رأى أحد في منطقتنا الخليجية أو عموم الشرق الأوسط أي بصيص نور، وبخاصة لو كانت المنطقة تحت هيمنة حزب الله وأمواله والإخوان المسلمين وتركيا والقاعدة وداعش... إلخ.

فَقَدَ الإخوان هالة القدسية والمثالية والبراءة بعد كل ذلك التخبط في مصر والسودان، وتغيرت موازين القوى، وفقد الإخوان الكثير من المحاضن الدافئة والمراضع والجهات الممولة، وربما فقدوا كما قلنا ما هو أهم، أي ثقة الشارع بهم كقوى معارضة والتعاطف مع مظلوميتهم. أموالهم بالطبع لا تزال وفيرة! كانت جماعة الإخوان في مصر والسودان والعالم العربي في صراع سياسي معتبرين أنفسهم مناضلين في سبيل الحرية وحق الانتخاب والتعددية، ولكن أحداث مصر والسودان أبرزت الوجه أو الوجوه الأخرى للإخوان والإسلاميين.

وكانت النتيجة في اعتقادي أن جماعة الإخوان وجماعات الإسلام السياسي تواجه اليوم شريحة واسعة من الجماهير التي لم تكن تعاديها أو تشكك في مآربها، وباتت اليوم إما محايدة أو مترددة أو معادية، أو أكثر تعاطفاً مع ما يقوله خصومها.

نال "النميري" لدى "تطبيقه الشريعة" مباركة الإخوان، وقفز "البشير" إلى السلطة في انقلاب عسكري، متحالفاً مع الإسلامي الكبير د. حسن الترابي، علَم الإخوان في السودان، وتمت القفزة الانقلابية، وسط صمت الإخوان "المعادين للعنف والانقلابات والثورات"، كمثل صمتهم اليوم عما يجري في بلاد الأناضول التي امتلأت سجونها قضاة وصحافيين ومدرسين ومحامين ونجارين ومقاولين وموظفين وشيوخا عواجيز، ومرضى تتم جرجرتهم على سلالم العمارات وبلكونات المباني، وتجري إهانتهم أمام زوجاتهم وأولادهم وجيرانهم، بتهمة الاشتراك في محاولة "فتح الله غولن" الانقلابية!

جريدة الأنباء الكويتية نشرت يوم

25/ 10/ 1984 مقابلة مع مرشد الإخوان الأسبق الأستاذ "عمر التلمساني" (ت 1986)، وكان ضمن ما نشر سؤال يقول: "لو وصل الإخوان إلى الحكم، فماذا سيفعلون، وكيف سيكون تعاملهم مع معطيات الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً؟

وكان جواب المرشد "التلمساني" الذي وجهه إلى خصوم الإخوان: "لنا برامجنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والعسكرية، ولا تحتاج الى أكثر من تبويب يتم في شهر أو بعض شهر، ولكنهم لا يقرؤون... فما حيلتنا معهم؟ إن شرع الله إذا طبق لن "يدربك" الدنيا على بعضها، ولكنه ينفذ في تؤدة وحكمة واتزان وفق معالم العصر الحالي في غير ما زعزعة ولا اهتزاز. إن المؤمنين يثقون بهذا تماماً، أما غيرهم من المعاندين والمكابرين، فليس لنا منهم إلا أن نرجئهم إلى حين تطبيق شرع الله، وإنه لقريب".

أتيحت الفرصة للإخوان المصريين عام 2013، بعد 29 سنة أي ثلث قرن، فهل طبق الإخوان في مصر برنامجهم في "حكمة واتزان وفق معالم العصر الحالي" كما وعد المرشد؟ في الأول من نوفمبر من العام نفسه، أشاد المرشد "التلمساني" بتجربة تطبيق الشريعة في نظام "جعفر النميري" بالسودان، وقال يصفها: "إنها خطوة مباركة أتمنى لها النجاح، أما الذين يعارضون هذه الخطوة الموفقة، فهم الذين يكرهون الإسلام والمسلمين، ويكرهون أن يروا حكم الله مطبقاً في الأرض". (جريدة السياسة الكويتية، 1/ 11/ 1984).

لقد كان المرشد التلمساني (1904-1986) في الثمانين من عمره عندما اتهم في جواب انفعالي واضح معارضي تطبيق جعفر النميري للشريعة في السودان، بأنهم "يكرهون الإسلام والمسلمين" فقد أثارت تلك الخطوة التي لم تكن أكثر من خدعة أو مناورة معارضة الكثيرين، وربما حتى شكوك الإسلاميين والإخوان، ففي النهاية انفصل حتى د. حسن الترابي، مؤسس الحركة الإسلامية في السودان عن "أمير المؤمنين" جعفر النميري، ونجا بسمعته "الإسلامية الحركية" بعض الوقت.

فكيف يرتجل شيخ كالتلمساني حكماً متعجلاً كهذا على خصوم "النميري" الذي جاء إلى الحكم في انقلاب غير مرحب به عام 1969، ورحل عن السلطة عام 1985 غير مأسوف عليه أو على نظامه المستبد؟ ولماذا لم يقل الإخوان عن نظامي النميري والبشير بأنهما "مجرد انقلابات عسكرية"؟

ومن صور الضياع الفكري والعقائدي للإخوان المسلمين ألّا أحد يمكن أن يجزم هل الحركة جماعة انقلابية ثورية "راديكالية" كما يقال، أم هم حقا مع التغيير السلمي واللاعنف والاعتدال والوسطية، كما يشيعون أم أنهم "براغماتيون" من مدرسة "اللي تكسب به إلعب به" أو مبدأ "الغاية تبرر الواسطة"، مع الحرص الشديد على أن تحاط الغاية والواسطة معاً، بكل ما يمكن استخدامه من تغطية وتمويه؟

لقد وصف الإخوان أنفسهم منذ البداية بصفات كثيرة تسهل عليهم استخدام مختلف الشعارات والسياسات، وقد روجوا لسنوات في مناطق مصر الفقيرة والجماعات والمساجد الشعارات الشعبوية، وقالوا تارة إن الانقلاب والثورات مؤامرات شيوعية هدامة، وقالوا في كتب أخرى لهم ومقابلات، إن ثورة يوليو الناصرية عام 1952 كانت ثورة الإخوان التي سرقها منهم عبدالناصر، كما قالوا لأثرياء مصر ورجال الأعمال وخصوم الثورة في زمن السادات إنهم، أي الإخوان، "أعداء ثورة يوليو" و"خصوم التأميم" وتوزيع الأراضي على الفلاحين. وهذا بعض ما اتصفت به أفكارهم وشعاراتهم في الدول الخليجية التي نادوا فيها فترة طويلة بالاعتدال ونبذ الانقلابات والوسطية، رغم أن بعض كتبهم تقول أشياء أخرى، برزت في ثورات "الربيع العربي"، على استحياء!

المرشد التلمساني قال بصراحة في مقابلة في جريدة "السياسة" في 24/ 5/ 1986 إن "الإخوان هم صانعو هذه الثورة، ثورة 23 يوليو 1952 في مصر، بل أضاف بما هو أكثر صراحة، رغم أن عمره في الثمانين، فقال إن مطالب الإخوان بالتغييرات الانقلابية قديمة: "طالبنا منذ عام 1928- سنة تأسيس الجماعة- حتى اليوم وغد، بانقلاب يغير حال البلد إلى أفضل مما هي عليه بكثير".

وهكذا يتلاعب الإخوان بالكلمات والتصريحات، فيقولون ما يريدون قوله، ويحتفظون بخطوط الرجعة والنفي، بينما يطالبون الآخرين بدقة التعبير والوضوح والإشارة الصريحة إلى المراجع!

للإسلامي السوداني "حسن مكي محمد أحمد" رسالة أكاديمية نشرت عام 1986 بعنوان "حركة الإخوان المسلمين في السودان 1944-1969"، مطبوعات دار القلم في الكويت، يقول في نهاية دراسته الأكاديمية إن التيار الإسلامي لابد أن يقبض على السلطة، ذلك أن "فوز الحركة الإسلامية بنصيب من السلطة ضرورة لنقل قيم الدين المجرد من مبادئ عامة الى برامج ومتطلبات تفي بحل مشاكل المجتمع السوداني".

والمجتمع السوداني جاهز لهذه النقلة، والجماهير مستعدة "لتقبل سلطات الحركة الإسلامية"، أين يكمن الإشكال إذاً؟ يقول الباحث الإسلامي مكي "قد تصح القابلية في المجتمع، ولا يوجد الاستعداد في الحركة"، يقصد في الجماعة أو الحركة الإسلامية. و"قد تنضج الظروف ثم لا توجد القيادة، والقيادة المطلوبة هي تلك التي تملك القدرة على الاستجابة لمتطلبات سودان الغد". (ص191) .

ثم يمضي في حديثه عن الشروط المثالية التي لابد من توافرها في هذا القائد، ولا يعلم أحد متى سيرأس جماعة الإخوان في أي بلد قائد كهذا، بالمواصفات التي يعددها؟!

لقد رأى الجميع القدرات السياسية والزعامية المتواضعة للرئيس الدكتور "محمد مرسي"، ولكن في أرشيف الإخوان، فيما يتعلق بضعف الزعامات نماذج لا تصدق!

المرشد "عمر التلمساني" في مقابلة 24/ 5/ 1986 نفسها مع جريدة السياسة، التي تحدث فيها عن "الانقلابات"، قال حول وصوله لقيادة جماعة الإخوان ما يلي: "لا أدري كيف أصبحت مسؤولا عن جماعة الإخوان المسلمين. المصادفة شاءت أن أتولى قيادة الإخوان بسبب عامل السن".

المرشد محمد حامد أبو النصر، الذي جاء بعد التلمساني صرح لجريدة السياسة بعد أيام، ونشر كلامه يوم 27/ 5/ 1986 بما يلي: "شخصياً، أحس أنني لست أهلاً لهذا المركز لأنه يحتاج إلى شخصية سياسية متمرسة تصارع الشخصيات السياسية القوية في العالم... حركتنا صارت حركة دولية". حركة الإخوان المسلمين تعاني العلل والأدواء في كل الدول العربية والإسلامية وأوروبا وأميركا، ولكنها في مجموعها كذلك علة العلل، فلا هي التي تتغير وتتطور، ولا هي التي تسمح بالتطور والتغيير!

back to top