مبادرة ماكرون في روسيا

نشر في 07-10-2019
آخر تحديث 07-10-2019 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت يُعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من القادة الذين يريدون تحويل مسار التاريخ، فقد عمل على تغيير السياسة الفرنسية، وحصل على مناصب لمرشحيه المفضلين على رأس المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، ويحاول الآن تحسين العلاقات الأوروبية الروسية.

قارن المسؤولون الفرنسيون استراتيجية ماكرون لروسيا بانفتاح الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون على الصين في عام 1972، لكن الانفتاح الدبلوماسي لماكرون يشبه انفتاح نيكسون بشكل عكسي، وبدلاً من جذب الصين لاحتواء السوفيات، يريد ماكرون "تسهيل وتوضيح علاقات أوروبا مع روسيا" لمنع روسيا من تحسين علاقتها مع الصين، وهو يأمل بذلك ضمان سيطرة أوروبا على مستقبلها.

في الواقع، يسعى ماكرون للحصول على هيكل أمني جديد بأسلوب فخم، مما يعكس مشروع المهندس الحضري جورج أوجين هوسمان لإعادة تصميم باريس في القرن التاسع عشر، وكخطوة أولى أعلن إجراء محادثات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة فورت دي بريجانسون في جنوب فرنسا قبل قمة مجموعة السبع في أغسطس في بياريتز، وقام الوزراء الفرنسيون المسؤولون بتنفيذ الخطة بقلب الوضع منذ ذلك الحين. وبدلاً من البدء بجدول أعمال من الأعلى إلى الأسفل، يحاولون بناء الأمن الأوروبي من الأسفل إلى الأعلى، مع متابعة تحسين العلاقات مع روسيا. تركز خريطة الطريق الفرنسية على خمسة مجالات رئيسة: نزع السلاح والحوار الأمني وإدارة الأزمات والقيم والمشاريع المشتركة. وفي أواخر شهر أغسطس، ألقى ماكرون خطابا يوضح رؤيته لنظام "دوائر متحدة المركز" يضمن درجات مختلفة من التكامل الأوروبي والأوروبي الآسيوي، وينبغي أن يضمن مثل هذا النظام حدود الناتو والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويسمح بعلاقة أكثر إنتاجية مع الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي الذي تقوده روسيا، ويوفر الوسائل لإدارة النزاعات الإقليمية، وخاصة الصراع في أوكرانيا.

يُعد توقيت تنفيذ المبادرة منطقيا للغاية، ومثل ماكرون قام رئيس أوكرانيا المنتخب حديثا، فولوديمير زيلينسكي، بإنشاء حزب سياسي من لا شيء، ووصل إلى السلطة على وعد بالتخلص من نظام قديم ومُشوه، وبشكل أكثر تحديدا جعل زيلينسكي حل الوضع الأمني في أوكرانيا أولوية قصوى.

يعتقد ماكرون أن انجذاب روسيا نحو الصين هو جزئياً نتيجة لسوء الإدارة الغربية، وإنه ليس ساذجاً بشأن العدوان الإقليمي والتدخل الانتخابي من قبل الكرملين، لكن أي دولة تشكل تهديدا على أوروبا، حسب وجهة نظره، يجب مواجهتها بشكل مباشر، كما أوضح لي أحد المسؤولين الفرنسيين، "ما هو صالح لإيران وكوريا الشمالية صالح أيضا لروسيا، ولن نتمكن من التأثير على البلاد وتوجيهها نحو سلوك أكثر مسؤولية إذا ما اختبأنا ببساطة وراء جدار العقوبات".

كما زاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الحاجة المُلحة لجهود ماكرون، حيث أكد شكوك فرنسا المؤيدة للمبادئ السياسية لتشارلز ديغول حول عدم موثوقية أميركا كضامن للأمن الأوروبي، وفي حين يتصاعد النزاع بين الولايات المتحدة والصين، فإنها ستولي حتماً اهتماما أقل لأوروبا والبلدان المجاورة (الاتحاد السوفياتي السابق والشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، والأسوأ من ذلك، يخشى الفرنسيون عقد ترامب صفقة كبيرة مع روسيا، تاركا الاتحاد الأوروبي بين الولايات المتحدة والصين.

تتمثل أكبر مخاوف ماكرون في أوروبا نفسها، ولن يصبح الاتحاد الأوروبي أبداً لاعباً عالمياً في القرن الحادي والعشرين إذا ظل مُنقسما ومُحاطا بالقوى الأخرى، من وجهة نظر ماكرون، فإن إعادة صياغة علاقة أوروبا مع روسيا هي الخطوة الأولى لضمان السيادة الأوروبية. قال لي أحد المسؤولين الفرنسيين: "إذا لم يكن لديك مقعد على طاولة القوى العظمى، فذلك لأنك على القائمة"، ومن المؤكد أن الفرنسيين يفهمون دعم الأوروبيين الآخرين للعقوبات المفروضة على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم وتوغلها في شرق أوكرانيا؛ لكنهم يخشون ضعف السياسة الأمنية في أوروبا.

من الناحية المثالية، يجب على الاتحاد الأوروبي اتباع استراتيجية مُزدوجة مع روسيا، والجمع بين العقوبات وسياسة الردع والتزام الناتو، وبالنسبة إلى الفرنسيين، لا توجد أهداف واضحة لهذا النوع من الالتزام، كما أن العقوبات لا تعالج التهديد العام الذي تشكله روسيا. يتساءل المسؤولون الفرنسيون: "ماذا سيحدث للوحدة الأوروبية، إذا اتخذت موسكو أي إجراء بشأن أوكرانيا أو سورية وقررت بعض الدول الأعضاء منع تجديد العقوبات"؟ يُشير ذلك على الأرجح إلى نهاية سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا. ومع ذلك، تُثير مبادرة ماكرون جدلا كبيرا، لم يتبين بعد ما إذا كان بوتين لديه أي مصلحة في حل الصراع في أوكرانيا، وحتى إذا كانت أوروبا قادرة على فصل روسيا عن الصين، فمن غير الواضح ما إذا كانت إدارة ترامب ستوفر الدعم وتسمح بتنفيذ المبادرة الأوروبية.

لكن أكبر الأسئلة موجودة على الجبهة الأوروبية، إذ تخشى العديد من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية أن يصبح أبناؤها مواطنين من الدرجة الثانية ضمن إطار عمل "دوائر متحدة المركز" لماكرون، ويخشى آخرون من أن يبيع ماكرون أوكرانيا عن طريق إجبارها على تسوية النزاع بشروط روسيا. إن إطلاق ماكرون مبادرته دون التشاور أولاً مع الأوروبيين الآخرين، الذين يشعر الكثير منهم بالقلق بالفعل من التزام أميركا الضعيف بأمن الاتحاد الأوروبي، لا يساعد في حل الأمور.

أشار المسؤولون الفرنسيون إلى أن نيكسون لم يتشاور مع حلفاء الولايات المتحدة قبل الشروع في مهمته مع الصين، لكن مصداقية نيكسون كصقر للأمن لم تكن موضع شك، في حين تُعتبر فرنسا غير موثوقة من قبل البعض في وسط وشرق أوروبا، الذين يخشون أن يتم التضحية بمصالحهم أيضا في محاولة ديغولية جديدة للمطالبة بمكانة على الساحة العالمية.

إذا أراد ماكرون النجاح فيتعين عليه إثبات التزامه بسيادة أوروبا الوسطى والشرقية والدول السوفياتية السابقة وأمنها مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وعليه أيضا إجراء تعاون أوثق مع دول الشمال الأوروبي ودول البلطيق، وكذلك مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة، والممثل السامي الجديد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيف بوريل. قبل كل شيء، يجب أن تنشئ مبادرة ماكرون منصة موثوقة لنهج أمني مشترك، إذا اعتُبر أنها تفضل بعض البلدان أكثر من غيرها، فستنتهي المبادرة وصاحبها في القائمة، وليس في كتب التاريخ.

* مارك ليونارد

* مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top