القضية التي تتسبب في قضايانا

نشر في 06-10-2019
آخر تحديث 06-10-2019 | 00:00
السبب وراء العديد من "القضايا" لدينا هو أن النموذج الرأسمالي العالمي قد توقف عن العمل بالطريقة المعهودة، وخاصة في سنة الأزمة المالية 2008 وبعدها، وأصبح هذا واضحا للعديد من الناخبين الغربيين حتى بعد أن عانى الخبراء فهماً في طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية الجارية على وجه التحديد.
 بروجيكت سنديكيت قمت مؤخرا كرئيس للمعهد الملكي للدراسات الدولية (تشاتم هاوس) باستضافة فعالية خارجية مع بعض من أقوى الداعمين للمعهد وموظفي الأبحاث وقادة آخرين، وقد خرجت من هذه الفعالية بصورة أوضح عن ثلاث من أكبر القضايا في عصرنا الحالي: تباطؤ نمو الإنتاجية، والسياسات المناهضة للسلطة، وصعود الصين.

بشكل عام فإن السبب وراء العديد من «القضايا» لدينا هو أن النموذج الرأسمالي العالمي قد توقف عن العمل بالطريقة المعهودة، وخاصة في سنة الأزمة المالية 2008 وبعدها، وأصبح هذا واضحا للعديد من الناخبين الغربيين حتى بعد أن عانى الخبراء في فهم طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية الجارية على وجه التحديد.

طبقا للكتب الاقتصادية التي كنت أقرؤها خلال نشأتي في سبعينيات القرن الماضي فإن الشركات الناجحة ضمن نظام قائم على أساس السوق يجب أن تقدم الأرباح للمساهمين فيها، وهذا بدوره يجب أن يقود إلى استثمار أقوى وتصاعد الأجور، وفي الوقت نفسه، فإن إمكانية تحقيق الأرباح يجب أن تجذب المزيد من الداخلين الجدد للسوق، وهذا بدوره سيقلل من ربحية المساهمين الحاليين ويزيد التنافسية ويعزز الابتكار.

إن هذا النمط لم يعد صالحا، حيث يبدو أن أرباح المساهمين المعلنة آخذة في التصاعد بشكل مستمر، عادة بمساعدة إدارة فعالة للغاية للميزانيات والشؤون المالية، ولكن هناك أدلة قليلة على زيادة الاستثمارات أو الأجور ونتيجة لذلك فإن الإنتاجية في العديد من الاقتصادات المتقدمة أصبحت تتجه للانخفاض. في مثل تلك الظروف، ليس من المستغرب أن ينجذب الناخبون الغربيون إلى أحزاب سياسية مناهضة للسلطة، ولكن هذا لا يعني تفكك الديمقراطية الليبرالية كما نسمع عادة، وفي واقع الأمر فإن التقرير القادم لتشاتم هاوس يشكك بشكل كبير في مصداقية هذا الادعاء الذي يثير مخاوف لا داعي لها.

بين السبيعنيات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة تحركت السياسة في الدول الغربية باتجاه اليمين، وهو توجه عكسه حزب العمال الجديد في المملكة المتحدة وقيادة حزب الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية، ولفترة من الزمان بدا أن نموذج السياسات هذا كان ناجحا وفي ظروف النمو المستمر والتضخم المنخفض والموجة المتصاعدة التي رفعت جميع (أو معظم القوارب)، تبلور إجماع نيوليبرالي، وتم تهميش الآراء البديلة.

كل شيء تغير بعد 2008 فخلال العقد الماضي يبدو أن الأسواق توقفت عن تحقيق النمو الذي يمكن تقاسمه على نحو واسع، ولم تأت الأحزاب الرئيسة بأي أفكار جديدة، وعليه توجه الناخبين للأصوات التي كانت مهمشة على اليسار واليمين. لقد كان من المؤكد أن سياسات أقصى اليسار التي اقترحها زعيم حزب العمال البريطاني جيرمي كوربين لم تكن لتنجح ولكن هذا لم يكن مهما فالمهم للناخبين المهمشين هو ان مقترحات كورين تقدم شيئا جديدا لا يمنحه النظام الحالي وبنفس الطريقة فإن اولئك المنتمين لمعسكر اليمين من غير المرجح أن يقدموا المزيد من الازدهار، لكن أفكارهم تتميز بأنها تبدو مختلفة، فإلقاء اللوم على الهجرة والعولمة والصين لكل شيء يبدو أنه يقنع الكثيرين. من أجل تقديم خيار أفضل للناخبين، يجب على الوسط أن يقدم ما هو أفضل من ذلك للتحقق من أن قوى السوق تحقق النتائج نفسها، كما كانت عليه الحال في العقود السابقة، وعليه فإن التركيز على اتهامات عامة تتعلق بالشعبوية وانتهاء الديمقراطية لن يحقق أي شيء. إن الكثيرين من زملائي الليبراليين خلال محاولتهم توضيح اللحظة الحالية يعتمدون على طرح غير صحيح، فالمشكلة ليست أن القوى الشعبوية الجديدة المخيفة تدمر النموذج الاقتصادي بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية بل العكس صحيح تماما. ان صعود الحركات السياسية الجديدة هو نتيجة منطقية للفترة السابقة التي تميزت بتعزيز الليبرالية الجديدة وفشل التفكير الوسطي في تقديم النتائج نفسها التي كان يحققها في السابق. في واقع الأمر هناك بعض الصحة في الطرح القائل إن وسائل التواصل الاجتماعي قد عملت على تسهيل انتشار الآراء غير التقليدية، وأحيانا البغيضة. لقد كان من الواضح أن كبرى شركات وسائل التواصل الاجتماعي لم تنفق ما يكفي على حماية مستخدميها من الدعاية المعقدة والاحتيال وما شابه ذلك، لكن السؤال الحقيقي هو: لماذا تلك الرسائل وجدت العديد من الآذان الصاغية؟ إن التقنيات نفسها التي تسمح للأصوات المهمشة أن تصل إلى جمهور أضخم بكثير متوافرة كذلك للوسطيين، فقد عززت حملة باراك أوباما الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية سنة 2008 من قوة هذه المنابر بشكل كبير.

أخيرا، إن النزاع الصيني الأميركي المتعلق بالتجارة والتقنية ربما يبدو أكثر دراماتيكية، بسبب إشراكه قوة صاعدة ليست ليبرالية وليست غربية، ولكن جوهر الصراع هو اقتصادي، وخلال العقد القادم تقريبا فإن من المرجح أن يتجاوز الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأميركي ليصبح الأضخم في العالم.

فيما يتعلق بي أرى أنه يجب على صناع السياسة الغربية أن يكافحوا مرض الخوف من الصين وتشجيع مجتمعاتهم على التعايش بشكل مريح معها، فالتقدم الاقتصادي في الصين لن يمنع سكان أميركا والبالغ عددهم 327 مليون نسمة من أن يصبحوا أكثر ثراء، ولو تبنى الغرب سياسات منطقية فإن الشركات والمستهلكين في الغرب سيستفيدون بشكل كبير من نمو الصين. بالنسبة إلى مراكز الأبحاث مثل تشاتم هاوس فإن من الواضح أنه يجب علينا أن نؤدي دورا نشطا أكبر في توضيح الحقائق فيما يتعلق بجميع تلك القضايا، حيث ستكون من الأمور المأساوية أن نضحي بازدهارنا الجماعي كنتيجة للتفكير غير الواضح.

* جيم أونيل

* رئيس سابق لإدارة الأصول في غولدمان ساكس، ووزير سابق للخزانة في المملكة المتحدة، وحاليا رئيس لتشاتم هاوس. «بروجيكت سنديكيت، 2019»

بالاتفاق مع «الجريدة».

back to top