مشكلة منهجية في اختيار خبراء الشؤون الإيرانية في واشنطن

بعضهم يخطئون في ترجمة الوقائع وتصنيفها أو يبسِّطون الأدلة لدعم أجنداتهم

نشر في 18-09-2019
آخر تحديث 18-09-2019 | 00:03
ترامب وجون بولتون
ترامب وجون بولتون
لفهم استراتيجية "الضغوط القصوى" العشوائية والخطيرة تجاه إيران في عهد ترامب، قد نميل إلى لوم أقرب المستشارين إلى الرئيس، على رأسهم جون بولتون (قبل استقالته). في النهاية، نادراً ما أخفى مستشار الأمن القومي رغبته في تغيير النظام في إيران.

لكن بولتون لم يكن يستطيع إلا فرض نفوذه السياسي، فيستعمل في معظم الأوقات اتهامات مبهمة ضد إيران، لأنه حظي بالصلاحيات اللازمة لفعل ذلك من نظام إنتاج المعلومات في واشنطن.

يُصدِر هذا النظام دوماً تقييمات غير مثبتة ومبنية على أفكار ايديولوجية عن الجمهورية الإسلامية على حساب التحليلات القيّمة والعميقة والمثبتة.

حتى لو لم يوافق معظم المسؤولين في أوساط السياسة الخارجية الأميركية على آراء بولتون الأكثر تطرفاً عن إيران، إلا أنهم يتحملون مسؤولية ترسيخ ذلك النظام على نطاق أوسع: في هذا النظام، يتعامل كبار المسؤولين الحكوميين الأميركيين مع الاتهامات الموجّهة ضد إيران كوقائع، وتُستعمَل مواقع مفبركة على الإنترنت كمصادر مشروعة للمعلومات في وسائل الإعلام الأميركية، ولا يُطلَب من خبراء السياسة المزعومين في الشأن الإيراني أن يقيّموا خبراتهم الخاصة أو يعلنوا عن تضارب مصالحهم.

المشكلة المنهجية

لهذا السبب، أردتُ تسليط الضوء على هذه المشكلة المنهجية في مجال "الخبرة في الشؤون الإيرانية" في واشنطن، علماً أنها ليست جديدة ولا محصورة بالأطراف السياسية المتطرفة التي تتحكم راهناً بالسياسة الخارجية. أستطيع التأكيد على ترسيخ غياب المحاسبة في التعامل مع الخبراء في الشؤون الإيرانية نتيجة الأداء الجماعي للمسؤولين عن السياسة الخارجية الأميركية، ما أدى ولو جزئياً إلى زعزعة السياسات المعمول بها وزيادة خطورتها في عهد ترامب اليوم.

أتطرق إلى هذا الموضوع الآن، بعدما تابعتُ النقاشات حول السياسات الأميركية تجاه إيران منذ عام 2006. طوال ثلاث سنوات، عملتُ مع منظمات بارزة تُعنى بالسياسة الخارجية، ولاحظتُ أن المعلومات حول الجمهورية الإسلامية تشتق من مصادر أولية. وبصفتي باحثة، درستُ لاحقاً دور الخبراء في المعاهد البحثية في رسم معالم السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. وخلال سنتين من العمل الميداني في المجال الإثنوغرافي في العاصمة واشنطن، بين 2014 و2016، قابلتُ أكثر من 180 مسؤولاً في السياسة الخارجية، داخل الحكومة وخارجها، وحضرتُ مئات المناسبات السياسية وتابعتُ خبراء يعملون في الشأن الإيراني شخصياً أو عن طريق كتاباتهم.

بفضل هذه الأبحاث الدقيقة، تمكنتُ من توثيق الانتهاكات على مستوى "الخبرة في الشؤون الإيرانية" في أوساط السياسة الخارجية الأميركية. اتّضح هذا الانتهاك بشكلٍ متكرر لدى من يدعمون تغيير النظام أو خوض مواجهة مع إيران. غالباً ما يخطئ هؤلاء الأفراد في ترجمة الوقائع وتصنيفها، أو يبسّطون الأدلة على نحو خطير لدعم أجنداتهم الايديولوجية ضد الجمهورية الإسلامية. لكن لا ينحصر سوء استخدام الخبرات بمؤيدي استعمال القوة في واشنطن. فقد رصدتُ أيضاً لامبالاة مفاجئة لفهم تعقيدات إيران المعاصرة في أوساط الليبراليين الذين يفضلون توسيع التواصل الدبلوماسي مع الجمهورية الإسلامية. قال لي عضو سابق في فريق أوباما الذي شارك في المفاوضات حول "خطة العمل الشاملة المشتركة": "فور اتخاذ قرار التفاوض مع إيران، لم نعد نستفيد من الخبراء في الشؤون الإيرانية. بل أصبحنا بحاجة إلى خبراء نوويين بكل بساطة".

وحتى عندما يلجأ المسؤولون في الحكومة الأميركية إلى "الخبراء في الشؤون الإيرانية" لتشريع قراراتهم السياسية أو تحديد وجهتها، يميلون إلى الاتكال على فريق من المحللين الراسخين داخل الأوساط الخارجية مع أن مؤهلاتهم تبدو مختلطة في أفضل الأحوال.

عند التدقيق بكبار الخبراء الذين تسلموا الملف الإيراني في معاهد بحثية بارزة في واشنطن بين 2014 و2016، يتّضح أن ثلثهم تقريباً يحمل شهادات دكتوراه، ولم يقدّم إلا عدد ضئيل منهم أطروحة حول موضوع مرتبط بإيران. كذلك، لم يكن نصف هؤلاء الخبراء يجيد قراءة اللغة الفارسية أو كتابتها أو نطقها خلال عملي الميداني، حتى أن عدداً مماثلاً لم يطأ أرض إيران يوماً.

في هذا السياق، قال لي مسؤول قابلتُه في واشنطن: "هل تتخيلين شخصاً يدعي أنه خبير في الشؤون الفرنسية، ما يعني أن يعرف كل شيء عن فرنسا: تاريخها، ثقافتها، سياستها... لكنه لا يجيد اللغة الفرنسية أو لم يزر فرنسا يوماً"! هذا هو وضع الخبراء في الشؤون الإيرانية في العاصمة الأميركية. استُدعي خبير معيّن خمس مرات لتقديم شهادته أمام الكونغرس باعتباره شاهداً موثوقاً به في الملف الإيراني بين العامين 2014 و2015، مع أنه لم يدرس الشؤون الإيرانية رسمياً ولا يفهم اللغة الفارسية ولم يزر البلد مطلقاً ولا يتمتع بخبرة تقنية في التكنولوجيا النووية!

في المقابل، تتجاهل واشنطن محللين قادرين على تقديم تقييمات مدروسة وعميقة ومتخصصة حول إيران، على اعتبار أن فئة محدودة من الناس تستطيع فهم مصطلحاتهم، أو يُعتَبرون في أسوأ الأحوال "مدافعين عن النظام". أوضح لي محلل إيراني أميركي يعمل على هامش المؤسسات الرسمية في واشنطن: "يكفي أن نطرح رأياً مغايراً عن إيران كي نُعتبَر فوراً ناطقين باسم آيات الله"!

في شهر يونيو، تبيّن أن وزارة الخارجية الأميركية تموّل منشورات استفزازية على الإنترنت لتشويه سمعة الأصوات الإيرانية الأميركية الداعية إلى السلام عن طريق "مشروع التضليل الإيراني"، ما يثبت مجدداً أن الجدل حول إيران ينجرّ عمداً نحو خطاب المواجهة في واشنطن.

ميل منهجي إلى إضعاف المؤهلات المطلوبة

يبقى تحديد مشكلة الخبرات في مجال الشؤون الإيرانية في واشنطن أبسط من تفسير سبب استمرار هذه المشكلة. تتعدد العوامل المؤثرة في هذا الإطار ولا ينحصر بعضها بالملف الإيراني، بل يتكرر أيضاً في مسائل بنيوية على نطاق أوسع.

يجب أن نحلل أولاً القوى العشوائية التي يحركها السوق، ونجحت خلال العقود الأخيرة في توسيع "قطاع خبراء السياسة" في واشنطن. سمح "سوق الأفكار" هذا لعدد متزايد من جماعات المصالح والحكومات الخارجية بتوفير مستويات غير مسبوقة من التمويل للمعاهد البحثية والمؤسسات المعنية بالأبحاث السياسية كوسيلة لتشريع مصالحها الخاصة في القطاع السياسي. لا يفرض القانون على الخبراء الذين يأخذون الأموال من جهات مانحة تتأثر مباشرةً بنتيجة أبحاثهم أن يعلنوا عن تضارب المصالح (ومن المستبعد أن يفعلوا ذلك أصلاً لأسباب احترافية)، حتى لو طرحوا تحليلاتهم على شكل نتائج غير منحازة سياسياً أو "موضوعية".

كذلك، يجب أن نتساءل عن أهمية "الخبرة" و"الأدلة" في اتخاذ القرارات السياسية الأميركية، علماً أن هذه المشكلة قائمة قبل العهد الراهن بفترة طويلة.

تذمّر عدد كبير من صانعي السياسة لأنهم مضطرون لمراجعة سيل من التحليلات والأخبار ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي يومياً لأداء عملهم. وحين يستعينون بالخبراء لتقديم شهاداتهم أو استشارتهم في مواضيع معينة، يميلون إلى اختيار أشخاص قادرين على اختصار المعلومات بطريقة بسيطة وسهلة، وتقديم توصيات سياسية واضحة وعملية، و/أو دعم مواقفهم السياسية علناً. لا عجب إذاً في أن يعتبر صانعو السياسة المسؤولين الحكوميين السابقين، والمحللين المدعومين من حلفاء سياسيين نافذين، والشخصيات البارزة في وسائل الإعلام، من أهم الخبراء بنظرهم.

على صعيد آخر، لابد من مراعاة العلاقة المعقدة (والمتناقضة عموماً) بين الأكاديميين والحكومة الأميركية. أصبحت المجالات الأكاديمية التي تقدم للحكومة أعمق التحليلات الضرورية حول بلدٍ مثل إيران (عبر دراسات الشرق الأوسط مثلاً) من أهم العوامل لضمان المصالح الأميركية في الخارج. لكن في ظل تخفيض الميزانية في مجالات العلوم السياسية والإنسانية، تسعى اختصاصات فردية وجماعات من العلماء حتى الآن إلى نيل تمويل حكومي وتطوير علاقاتها مع صانعي السياسة لإثبات "أهميتها".

في غضون ذلك، تعتبر النخب الحاكمة في واشنطن العلماء الأكاديميين "غير مهمين" أو "مُعادين" للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، فتزعم أنهم غير جديرين بالثقة كي يصبحوا مستشارين في الشؤون السياسية. كانت عواقب إقصاء هذه الأصوات الأكاديمية، لاسيما الجهات التي تنتقد السياسات الأميركية في المنطقة، مريعة. خلال حرب العراق في عام 2003، أُقيل أهم العلماء في البلاد لأنهم عارضوا عملية الغزو.

في الشأن الإيراني، تتقاطع هذه العوامل البنيوية مع مشاكل واشنطن التاريخية والمعاصرة ضد إيران، علماً أن بعضها مشروع، لكنّ بعضها الآخر يشتق من أعمق أنواع الرهاب والعنصرية. يُضاف إلى هذه العوامل الدور الهائل الذي تؤديه الحكومات الخارجية المعادية لإيران وجماعات المصالح في واشنطن، فيتّضح المشهد العام في الملف الإيراني: تتعرض أي أبحاث مختلفة ومعقدة ومدروسة للتجاهل في أفضل الأحوال وللهجوم في أسوئها.

ما أهمية الخبرة في الشؤون الإيرانية؟

هل يمكن اعتبار غياب الخبرات الجدية في الشأن الإيراني عاملاً مهماً أصلاً؟ قابلتُ مسؤولين سابقين في إدارة أوباما وأخبروني صراحةً أن هذا العامل غير مهم، فقد تمكنوا من التفاوض على حل دبلوماسي شامل مع إيران بشأن برنامجها النووي من دون أي مشاركة مؤثرة من كبار الخبراء في البلاد.

لكن استناداً إلى أبحاثي الخاصة، أظن أن الخبرة في هذه الأوساط السياسية مهمة فعلاً. ولا تكمن أهميتها في قدرة خبير واحد على تحديد رد سياسي فردي، بل في قدرة الخبراء الجماعية على فرض "نظرية سياسية تقليدية" وتعديلها عند الحاجة في واشنطن، فضلاً عن طرح الفرضيات والقيم والأفكار التي ترسم القرارات السياسية الأميركية.

في الملف الإيراني، يتداول خبراء السياسة في واشنطن الأفكار داخل الحكومة وخارجها إلى أن تصبح حقيقة مثبتة، فيظهرون على شاشات التلفزيون ويطلقون التصريحات حول الخطط الأمنية الإيرانية، ثم تنتشر تلك الأفكار على مواقع التواصل الاجتماعي على شكل مقاطع صوتية وشعارات سريعة. لكل خبير منهم آلاف، أو حتى مئات آلاف، المتابعين على تويتر! ثم يَمْثُل هؤلاء الخبراء أمام الكونغرس لتقديم شهاداتهم، فيرسّخون بذلك مكانتهم كـ"خبراء في الشؤون الإيرانية"، ثم ينشرون التقارير كي يستعملها المسؤولون والموظفون في وزارات الخارجية والدفاع والخزانة كمراجع لهم.

في المقابل، يحصل الخبراء على تمويل إضافي من جماعات المصالح والحكومات الخارجية والمؤسسات الخاصة، بناءً على هذا النوع من الظهور الإعلامي والروابط مع الحكومة، حتى أن جزءاً من هؤلاء المحللين يتولى منصباً مهماً بكل بساطة، على غرار بولتون، فيكسب النفوذ لفرض أفكاره من الداخل.

نتيجةً لذلك، تنشأ حلقة من التقييمات غير المثبتة حول الجمهورية الإسلامية.

* عن Jadaliyya.com

2019/9/4

كبار المسؤولين الحكوميين الأميركيين مع الاتهامات الموجّهة ضد إيران كوقائع

نصف خبراء الملف الإيراني لا يجيدون قراءة اللغة الفارسية أو كتابتها

الخارجية الأميركية تموّل منشورات استفزازية على الإنترنت لتشويه سمعة الأصوات الإيرانية الأميركية الداعية إلى السلام

في الملف الإيراني يتداول خبراء السياسة في واشنطن الأفكار داخل الحكومة وخارجها إلى أن تصبح حقيقة مثبتة

النخب الحاكمة في واشنطن تعتبر العلماء الأكاديميين «غير مهمين» أو «مُعادين» للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط
back to top