بصمة ترامب على السياسة الخارجية الأميركية

نشر في 10-09-2019
آخر تحديث 10-09-2019 | 00:00
لعل الدور الذي يؤديه ترامب في التاريخ يعتمد على ما إذا كان سيعاد انتخابه، ففي الأرجح سوف تتآكل المؤسسات، والثقة، والقوة الناعمة إذا ظل في منصبه لثماني سنوات بدلا من أربع، ولكن في أي من الحالين، سيواجه خليفته عالما متغيرا، جزئيا بسبب التأثيرات المترتبة على سياسات ترامب.
 بروجيكت سنديكيت كان سلوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اجتماع قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى الأخير في منتجع بياريتز بفرنسا موضع انتقاد العديد من المراقبين لكونه طائشا وهَدَّاما، وزعم آخرون أن الصحافة والمنتقدون يولون اهتماما أكبر مما ينبغي لغرائب ترامب الشخصية، وتغريداته، وألعابه السياسية، وهم يزعمون أن المؤرخين في الأمد البعيد سيعتبرون كل هذا مجرد هفوات أو زلات، السؤال الأكبر هو ما إذا كانت رئاسة دونالد ترامب تثبت أنها نقطة تحول رئيسة في السياسة الخارجية الأميركية، أو أنها مجرد لمحة تاريخية صغرى.

الواقع أن الجدال الدائر حاليا حول ترامب يعيد إلى الأذهان سؤالا ظل مطروحا لفترة طويلة: هل تكون النتائج التاريخية الكبرى نتاجا لاختيارات بشرية أو أنها إلى حد كبير نتيجة لعوامل بنيوية قاهرة تنتجها قوى اقتصادية وسياسية خارجة عن إرادتنا؟

يشبه بعض المحللين تدفق التاريخ بنهر مندفع، يتشكل مساره بفِعل المناخ، ومعدل هطول الأمطار، والجيولوجيا، والطوبوغرافيا، لا بفعل أي شيء يحمله النهر، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن العوامل البشرية ليست مجرد نمل يتشبث بقطعة من حطب يجرفها التيار، بل هي أقرب إلى ركاب طوف (أبسط وسائل الانتقال على سطح الماء) يحاولون في مياه هائجة توجيه الطوف وتجنب الصخور، ومن حين إلى آخر ينقلب الطوف وفي أحيان أخرى ينجحون في توجيه الطوف إلى المقصد المرغوب.

قد يساعد فهم اختيارات القادة وإخفاقاتهم في السياسة الخارجية الأميركية خلال القرن الماضي في تجهيزنا على نحو أفضل للتعامل مع التساؤلات التي نواجهها اليوم حول رئاسة ترامب. يعتقد القادة في كل عصر أنهم يتعاملون مع قوى تغيير فريدة، لكن الطبيعة البشرية تظل قائمة، وقد تكون الاختيارات مهمة؛ وربما لا تقل أفعال الإهمال أو التقاعس تبعية عن الأفعال المرتكبة. فقد ساهم تقاعس القادة الأميركيين عن العمل في ثلاثينيات القرن العشرين في إشعال جحيم مستعر على الأرض؛ وكذا كانت نتيجة رفض الرؤساء الأميركيين استخدام الأسلحة النووية عندما كانت الولايات المتحدة تحتكرها.

تُرى هل أملت المواقف أو الأشخاص هذه الاختيارات؟ قبل قرن واحد من الزمن، كسر وودرو ويلسون التقليد المتبع وأرسل قوات أميركية للقتال في أوروبا، لكن هذا ربما كان سيحدث على أي حال تحت قيادة زعيم آخر (ولنقل تيودور روزفلت). كان الفارق الكبير الذي أحدثه ويلسون متمثلا في النبرة الأخلاقية التي برر بها قراره، ومن ناحية أخرى على نحو سلبي هَدَّام، في إصراره العنيد على مبدأ الكل أو لا شيء للمشاركة في عصبة الأمم. يرى بعض المراقبين أن أخلاقية ويلسون كانت مسؤولة عن شدة عودة أميركا إلى الانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين.

كان فرانكلين د. روزفلت غير قادر على إشراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حتى واقعة بيرل هاربور، وربما كانت هذه الواقعة ستحدث حتى في ظل الانعزالية المحافِظة. ومع ذلك، كان تأطير روزفلت للتهديد الذي فرضه هتلر، واستعداداته لمواجهة ذلك التهديد، من العوامل الحاسمة التي دفعت أميركا إلى المشاركة في الحرب في أوروبا.

بعد الحرب العالمية الثانية، عملت البنية الثنائية القطبية التي تألفت من قوتين عظميين على تحديد إطار الحرب الباردة. ولكن ربما كان أسلوب وتوقيت الرد الأميركي سيختلفان لو أصبح هنري والاس (الذي تخلص منه فرانكلين د. روزفلت كنائب للرئيس في عام 1944)، رئيسا بدلا من هاري ترومان. وبعد انتخابات 1952، كانت رئاسة الرجل الانعزالي روبرت تافت أو رئاسة الرجل الحازم دوغلاس ماك آرثر ستعكر صفو التوطيد السلس نسبيا لسياسة الاحتواء التي انتهجها ترومان، التي أدارها خَلَف الأخير دوايت د. أيزنهاور.

كان موقف جون ف. كينيدي حاسما في تجنب الحرب النووية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، ثم التوقيع على أول اتفاقية للحد من الأسلحة النووية. لكنه أغرق هو وليندون ب. جونسون البلاد في مغامرة حرب فيتنام الفاشلة وغير الضرورية والمكلفة. وفي نهاية القرن، تسببت قوى بنيوية في تآكل الاتحاد السوفياتي، وعمل ميخائيل غورباتشوف على التعجيل بتوقيت الانهيار السوفياتي، ولكن كان الحشد الدفاعي في عهد رونالد ريغان، ومهاراته التفاوضية، فضلا عن براعة جورج بوش الأب في إدارة الأزمات، من العوامل التي أدت دورا بالغ الأهمية في إنهاء الحرب الباردة سلميا.

بعبارة أخرى، يشكل القادة ومهاراتهم أهمية واضحة، وهو خبر غير سار إلى حد ما، لأنه يعني أن سلوك ترامب لا يمكن استبعاد عواقبه بسهولة، إذ تتمثل الكارثة الأكبر من تغريداته على موقع "تويتر" في إصراره على إضعاف المؤسسات، والتحالفات، وقوة الجذب الناعمة التي تتمتع بها أميركا، والتي تظهر استطلاعات الرأي أنها انحدرت في عهد ترامب. فهو أول رئيس منذ سبعين عاما يدير ظهره للنظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. مؤخرا، أعرب الجنرال جيمس ماتيس، الذي استقال بعد توليه منصب وزير الدفاع الأول في عهد ترامب، عن أسفه الشديد إزاء إهمال الرئيس للتحالفات.

يحتاج الرؤساء إلى استخدام كل من القوة الصارمة والقوة الناعمة، والجمع بينهما على نحو يتسم بالتكامل لا التضارب. صحيح أن المهارات الميكيافيلية والتنظيمية تشكل ضرورة أساسية، لكن هذه هي أيضا حال الذكاء العاطفي، الذي ينتج مهارات الوعي الذاتي وضبط النفس، والذكاء السياقي، والتي تمكن القادة من فهم البيئة المتطورة، والاستفادة من الاتجاهات، وتطبيق مهاراتهم الأخرى وفقا لذلك، ومن الواضح أن الذكاء العاطفي والذكاء السياقي ليسا بين سمات ترامب القوية.

أشار الـمُنَظِّر القيادي جوتام موكوندا إلى أن الزعماء الذين يخضعون لفلترة دقيقة من خلال عمليات سياسية راسخة يميلون إلى التصرف على نحو يمكن التنبؤ به، ويُعَد جورج بوش الأب مثالا جيدا لهذا، لم يخضع آخرون لعملية الفلترة هذه، وعلى هذا فإن أداءهم في السلطة يتباين على نطاق واسع. كان أبراهام لينكولن مرشحا غير مفلتر نسبيا، لكنه كان واحدا من أفضل الرؤساء الأميركيين. أما ترامب، الذي لم يخدم في منصب سياسي قَط قبل فوزه بالرئاسة والذي دخل عالم السياسة من خلفية العمل العقاري في نيويورك وتلفزيون الواقع، فقد أثبت براعته غير العادية في إتقان التعامل مع وسائط الإعلام الحديثة، متحديا الحكمة التقليدية والإبداع المعطل للنظم القائمة. ورغم أن بعض المراقبين يعتقدون أن هذا قد يؤدي إلى نتائج إيجابية، على سبيل المثال في التعامل مع الصين، فإن آخرين يتمسكون بتشككهم.

لعل الدور الذي يؤديه ترامب في التاريخ يعتمد على ما إذا كان سيعاد انتخابه، ففي الأرجح سوف تتآكل المؤسسات، والثقة، والقوة الناعمة إذا ظل في منصبه لثماني سنوات بدلا من أربع، ولكن في أي من الحالين، سيواجه خليفته عالما متغيرا، جزئيا بسبب التأثيرات المترتبة على سياسات ترامب، ولكن أيضا بسبب تحولات طارئة على قوى بنيوية كبرى في السياسة العالمية، سواء من الغرب إلى الشرق (صعود آسيا)، أو من الحكومة إلى القوى الفاعلة غير التابعة لأي دولة بعينها (التي سيعمل الذكاء السيبراني والاصطناعي على تمكينها). وكما لاحظ كارل ماركس، فنحن نصنع التاريخ، ولكن ليس في ظل ظروف من اختيارنا. وتبقى السياسة الخارجية الأميركية بعد ترامب مسألة مفتوحة للتكهنات.

* أستاذ في جامعة هارفارد، وأحدث مؤلفاته كتابه المرتقب "هل للأخلاق أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين د. روزفلت إلى ترامب".

«جوزيف س. ناي الابن »

الكارثة الأكبر من تغريدات ترامب على موقع "تويتر" تتمثل بإصراره على إضعاف المؤسسات والتحالفات وقوة الجذب الناعمة لأميركا

السياسة الخارجية الأميركية بعد ترامب تبقى مسألة مفتوحة للتكهنات
back to top