«كنائس النقد»... السلامي في مواجهة النقد!

نشر في 04-09-2019
آخر تحديث 04-09-2019 | 00:05
 طالب الرفاعي يبدو الناقد التونسي الدكتور عبدالدائم السلامي، مغايراً لمجايليه النقّاد العرب في كتابه الأخير "كنائس النقد" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بطبعته الأولى 2017، وهذه المغايرة تتضح على أكثر من مستوى: الأول؛ فهمه لنظرية النقد التي يؤمن بها، وثانياً؛ تحليله لطبيعة العلاقة بين النقد والإبداع، وثالثاً؛ استنباطه لشكل العلاقة الواجبة بين الناقد والنص، ورابعاً؛ طرحه لوجهة نظر نقدية تربط بين الواقع والكاتب والقارئ، وأخيراً رأيه الصريح والجريء في سوق النقد العربي القائم راهناً.

السلامي يقدم كتابه في فصلين على النحو التالي: تحرير القراءة، الوصاية النقدية، مع ملاحظة مهمة هي قدرته على أن يقدم نصاً إبداعياً بامتياز، فالكتاب بعيد كل البعد عن المادة النقدية العربية المتداولة، والتي تجنح في معظمها إلى الدرس المدرسي الأكاديمي، وتتعامل مع الناقد بوصفه معلماً والقارئ بوصفه طالباً متلقيا. قارئ "كنائس النقد" منذ الأسطر الأولى يشعر أنه أمام مادة نقدية مبدعة، وأن هذه المادة تقدم نفسها بشكل ممتع ومسلٍّ، لأنها تنطوي على حكاية، حكاية قارئ وناقد أراد أن يقول قناعته بما هو حاصل أمامه في سوق النقد العربي، فأوردها متفكرة وجديدة ومقنعة وصادمة.

"النص بدعة الكاتب التي ينقذنا بها من النار، إنه الخارج واللغة والإنسان، إنه الجنة التي ندخلها دون محنة الصراط المستقيم" ص19. يؤكد عبدالدائم السلامي، وعلى امتداد كتابه، أن نص الكاتب، هو الأصل في العملية النقدية، وأن النقد هو محاولة لقراءة ذلك النص، والوقوف أمام منعطفاته وعوالمه، ليس من باب التعالي، ولكن من باب إبداع نص نقدي موازٍ له، يضيف ضوءا كاشفاً للنص، ويقدم للقارئ نصاً جديداً، بعيداً عن إعادة شرح النص، وبعيداً أيضاً عن جمل نقدية غربية ملَّ القارئ العربي قراءتها وترديدها بوصفها أحكاماً قيمة لأي نص مبدع.

الدكتور السلامي، يبني فهمه النقدي الخاص بوجود ثلاثة أنواع من النصوص: "نص الواقع، ونص الكاتب، ونص القارئ/الناقد" ص27. وهو يرى الكاتب بوصفه عنصراً من عناصر الواقع، لكنه عنصر فاعل، عنصر خالق، يقوم بالتقاط شيءٍ من حوادث الواقع، ليعيد صياغته بشكل جديد ولغة جديدة ورؤية جديدة. وأهم ما يجب أن يتوافر في نص الكاتب، هو خروجه على السائد المستقر، وتجاوزه بواقع فني مبدع، يقدم للقارئ فهماً مغايراً لما هو سائد، ويساعده على استنباط وعي جديد يتعامل به مع ما يحيط به. كما يقدم السلامي رأياً جديداً بقوله: "بودّي أن أحرر النقد من سلطة دالة، عبر التخلي عن استخدام لفظة (نقد) بسبب ما فيها من ميل إلى سلطة الفرز والتعبير والتقويم والتجريد والنكد، واستبدالها بلفظة "قراءة" باعتبارها متضمنة لفعل مسائل لنص أول ومنتج لنص ثانٍ" ص29.

إن كتاب "كنائس النقد" يقف أمام المشهد العربي الإبداعي والنقدي والثقافي وكذلك الجوائز، تاركاً مسافة كافية بينه وبين ضفاف المشهد، وبما يمنحه القدرة على الرؤية النافذة، وعلى التحليل المقنع، متناولاً بالشرح آلية الكتابة الإبداعية، وعلاقتها بالنقد، ورافعاً صوته بجراءة مشرِّحاً بنية نصوص روائية لكتّاب عرب أخذوا صيتاً كبيراً، وحازت نصوصهم جوائز لافتة. والكاتب بهذا يقدم شهادة ناجزة على مشهد النقد العربي القائم، بتعلقه بنظريات النقد الغربية دون مساءلتها، ودون مطابقة شروطها وظروف نشأتها مع طبيعة أقطار الوطن العربي. وهو يرى أن المشهد الروائي العربي القائم، صار يأخذ بفكر الكاتب نحو الجائزة أكثر مما يحرّضه على كتابة مادة إبداعية، شاهدة على الواقع ومتطلعة لغدٍ إنساني أفضل، وهذه المادة يجب أن يُنظر إليها من داخلها بقدر ما يُنظر إلى علاقتها بالخارج.

عبدالدائم السلامي، يقدم كتاباً نقدياً مغايراً في بابه، وجريئاً في طرحه، وهو قبل هذا وذاك، استطاع أن يقدم متعة فكرية جد رائقة لقارئه.

back to top